تعهدت مئات الشركات باتباع توصيات تقديم التقارير الجديدة الصادرة عن فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة (Taskforce on Nature-Related Financial Disclosures). لكن هل يكفي هذا لتحقيق أمر ذي قيمة؟
يتطور مجال تحمل الشركات للمسؤولية البيئية إلى ما هو أبعد من التركيز على قضايا المناخ ليأخذ في الحسبان المخاطر المحدقة بالطبيعة على نحو أكبر ليشمل العديد من القضايا مثل فقدان التنوع البيولوجي. لا تكتفي الشركات العالمية البارزة بالإجراءات المتخذة لحماية الغلاف الجوي من التلوث وتسعى للحفاظ على المحيط الحيوي إدراكاً منها للتهديد الحقيقي الذي يشكله فقدان التنوع البيولوجي على الاقتصادات والنظم البيئية العالمية. إذ قال أحد المسؤولين التنفيذيين بحماسة في مقابلة أجريت معه مؤخراً: "العمل المناخي أمر مفروغ منه، لكن السعي الحثيث للحد من فقدان التنوع البيولوجي أهم بكثير، إذ يتوقف مستقبل كوكبنا وأرباحنا عليه".
بدأت الشركات في تقديم تعهدات للحد من فقدان التنوع البيولوجي وحماية الطبيعة، لكن الطريق ما يزال غير واضح المعالم، فالمعايير غير واضحة، ولا يزال ربط الإجراءات الفردية بأهداف التنوع البيولوجي والتزاماته على مستوى الولايات القضائية الأوسع نطاقاً يمثل تحدياً. إن إزالة هذه الضبابية أمر بالغ الأهمية بالنسبة للشركات لكي تتمكن من اتخاذ خطوات حاسمة بثقة وتوضيح تأثيرها. هنا تدخّل فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة (Taskforce on Nature-Related Financial Disclosures) واختصاراً (TNFD). في يناير/كانون الثاني 2024، التزم أكثر من 300 مؤسسة على مستوى العالم من مختلف القطاعات ومنها القطاع المالي بتقديم إفصاحات متعلقة بحماية الطبيعة بناءً على توصيات فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة التي نُشرت قبل أشهر فقط. كانت التغطية الإعلامية كبيرة للغاية فقد حظيت بتغطية من وسائل الإعلام التجارية البارزة مثل صحيفة وول ستريت جورنال.
يمثل ظهور فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة قفزة كبيرة ومفعمة بالأمل، ولكنه ليس الغاية النهائية. ما يزال العديد من القضايا العلمية المهمة التي تحيط بالحفاظ على التنوع البيولوجي دون حلول، ما يتطلب من القطاع الخاص والمجتمع العلمي مواصلة البحث. كما يجب أن نتذكر أن الانضمام إلى قائمة المتبنين الأوائل لفريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة لا يعني في حد ذاته أن المؤسسات تعمل على تحسين التأثير في التنوع البيولوجي. فهو مجرد نقطة انطلاق لها لفهم المخاطر والآثار والتبعات المتعلقة بالطبيعة. الانضمام خطوة أولى مهمة، لكن ما يهم حقاً هو المتابعة من خلال اتخاذ إجراءات فعلية ومؤثرة.
فقدان التنوع البيولوجي والشركات العالمية
يمثل الفقدان الوشيك لمليون نوع من الكائنات الحية تهديداً خطِراً، ما يؤثر في صحة الإنسان والأمن الغذائي والمجتمعات الريفية في جميع أنحاء العالم، وفي أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لجأت الحكومات والهيئات الدولية إلى أطر عمل سياسات متنوعة للحفاظ على التنوع البيولوجي على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية لمواجهة هذه الأزمة. تحمل هذه السياسات مطالب واضحة من الشركات العالمية للمشاركة في الحفاظ على التنوع البيولوجي واستعادته وتعزيزه. على سبيل المثال، يحث الهدف 15 في إطار العمل العالمي للتنوع البيولوجي (GBF) الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية على اتخاذ إجراءات شاملة للحفاظ على التنوع البيولوجي وتعزيزه، وهو الإطار الذي اتفقت عليه 188 حكومة في عام 2022 خلال مؤتمر الأطراف الخامس عشر في اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي في مونتريال.
لا تواجه الشركات ضغوطاً سياسية للاستجابة لأزمة التنوع البيولوجي فحسب، بل تدرك أيضاً أن هناك مبررات تجارية مقنعة للحد من فقدان التنوع البيولوجي. أولاً، تتحوّل الضغوط السياسية بسرعة إلى متطلبات من المجتمع والمستهلكين، ما يجعل الحفاظ على التنوع البيولوجي عنصراً حاسماً في السمعة البيئية للشركات. ثانياً، يعتمد العديد من القطاعات على الخدمات التي يقدمها النظام البيئي، مثل تلقيح الأزهار والتحكم في الفيضانات، والتي تعتمد بدورها على استمرارية التنوع البيولوجي وعمليات النظام البيئي. وبالتالي، فإن فقدان التنوع البيولوجي يمثل خطراً تشغيلياً حقيقياً على هذه القطاعات. ثالثاً، تتنامى نظرة المصارف المركزية والمؤسسات المالية إلى فقدان التنوع البيولوجي بوصفه خطراً شاملاً على الأنظمة المالية. كما يلاحظ المستثمرون والمساهمون أن فقدان التنوع البيولوجي أحد أسرع المحاور نمواً في الاستثمارات والإفصاحات المتعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، وباتت الإدارة الفعالة لمخاطر التنوع البيولوجي ضرورة قصوى في السوق المالية.
فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة: الفرص والتحديات
أُطلق فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة أول مرة في عام 2021 لتبسيط جهود الشركات في تقييم مخاطر التنوع البيولوجي والإفصاح عنها وإدارتها، باعتباره مبادرة يقودها السوق وتخدم أهداف إطار عمل الإفصاح. يضم فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة 40 عضواً يمثلون مؤسسات مالية وشركات كبرى ومقدمي خدمات السوق بأصول تزيد قيمتها على 20 تريليون دولار أميركي. يموّل العديد من الحكومات والمؤسسات فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة، مثل حكومات أستراليا وفرنسا وألمانيا وهولندا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة، ومؤسسة تشيلدرن إنفستمنت فاند فاونديشن (Children’s Investment Fund Foundation) وصندوق البيئة العالمية ومؤسسة ماكدوك فاونديشن (Macdoch Foundation) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتهدف مبادئه التوجيهية إلى مواءمة تقارير التنوع البيولوجي مع أطر العمل الأخرى للتقارير المالية وتقارير الاستدامة مثل إطار عمل المجلس الدولي لمعايير الاستدامة (ISSB).
أثار فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة تداعيات تدريجية في عالم الشركات، إذ يتوق المسؤولون التنفيذيون إلى الخوض في مجالات جديدة للحفاظ على الطبيعة. لكن بالنسبة إلى الذين يتوقعون وجود خطة توجيهية منظّمة، فالرحلة ليست واضحة المعالم بعد، إذ لا يقدم فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة "دليلاً إرشادياً"؛ بل هو إطار عمل لتحديد مخاطر الأعمال والاعتماد على الطبيعة. ولصياغة أهداف عملية للعمل، فإنه يوجه الشركات نحو شبكة ساينس بيسد تارغيتس نيتوورك (the Science-based Targets Network) واختصاراً "إس بي تي إن" (SBTN)، حيث تجد الشركات عمليات محددة لوضع أهداف قابلة للقياس حول عدة مجالات مثل المياه واستخدام الأراضي، ولكن لن تجد قائمة من الحلول القابلة للتنفيذ. على سبيل المثال، تحدد إرشادات شبكة إس بي تي إن حول المياه العذبة التي نشرتها في يناير/كانون الثاني عام 2024 كيف ينبغي للشركات تحديد أهداف استخدام المياه والإشراف عليها، لكنها لا تقدم التغييرات التي ينبغي للشركات إجراؤها لحماية المياه العذبة في مواقعها أو في مجمعات المياه الخاصة بها. تُمكّن شبكة إس بي تي إن الشركات من تحديد مسارها الخاص وتتحقق من أن أهدافها تتماشى مع التوصيات العلمية، وهو اعتماد مهم للشركات التي ترغب في الابتعاد عن الغسل الأخضر. تدرك شبكة إس بي تي إن أهمية السياق والظروف الخاصة بكل شركة في هذه العملية. قد يحد ذلك من المساعدة التي تقدمها الشبكة، لكنه ينبع من إدراكها بعدم وجود حلول للتنوع البيولوجي تناسب الجميع. لا يقدم فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة وشبكة إس بي تي إن في الأصل حلولاً جاهزة مسبّقاً، بل يطلقان عملية اختبار ذاتي وإجراءات استراتيجية. يبدأ بحث الشركات عن إجراءات عملية أو مقاييس محددة عندما تعمل وفق هذه الأطر.
يعلّمنا التاريخ الحديث في مجال بيئة عمل الشركات أن إدراك المخاطر لا يتحول دائماً إلى إجراءات فعلية. قد تتخذ بعض الشركات خطوات فعلية، في حين تلجأ شركات أخرى إلى لفتات رمزية، مثل الغسل الأخضر لتأثيرها الحقيقي أو استغلال فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة بهدف الشهرة دون تغيير جوهري.
من الممكن أن تكون مرونة إطار العمل سيفاً ذا حدين، إذ لا تُجبر الشركات التي توقّع على الانضمام على تقديم التقارير عن توصيات فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة الـ 14، ما يسمح للمتلاعبين الماهرين بانتقاء المكاسب السهلة واختيارها وإخفاء المشكلات الحقيقية. كما أن الإفصاح عن التأثير السلبي اختياري، ما يتيح الغسل الأخضر للشركات الحريصة على إظهار التزامها بالتنوع البيولوجي مع إخفاء التأثير السلبي الفعلي. وأخيراً، يمكن أن يؤدي الحجم الهائل لمتطلبات إعداد التقارير إلى تضخيم الجهد المبذول دون قصد، ما يسمح للجهات المخادعة بالتلاعب. لكن في النهاية، يُعدّ فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة أداة فعالة لتقييم المخاطر تساعد الشركات على توجيه جهودها نحو المجالات الأكثر تأثيراً في عملياتها وتسمح لصانعي السياسات والصحفيين والمساهمين والمستثمرين بتحميلها المسؤولية. وبما أن إطار عمل الفريق طوعي وقابل للتكيف مع احتياجات كل شركة على حدة، تتوقف فاعليته في تحفيز اتخاذ إجراءات فعالة على التزام الشركات الحقيقي والمتابعة القوية.
بعيداً عن الضجة الإعلامية التي أثارها فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة: 5 خطوات ضرورية للحد من فقدان التنوع البيولوجي
لا شك في أن فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة قد حقق هدفه الأوّلي بتزويد الشركات بإطار عمل لتقييم المخاطر على الطبيعة والتنوع البيولوجي. كما أدى إلى تنشيط الحوار العالمي بين الشركات حول الحاجة المُلحة لحماية الطبيعة. ولكن يبقى هناك سؤال أساسي: ما الإجراءات العملية التي يمكن أن تتخذها الشركات للحد من فقدان التنوع البيولوجي ودفع عجلة تجدد الطبيعة؟ صحيح أن فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة والعديد من المؤسسات الأخرى يبحثون بجدية عن حلول، لكن من المهم الاعتراف بأن النقاشات حول الحفاظ على البيئة امتدت عقوداً طويلة. على الرغم من وجود اتفاق عام على بعض مبادئ الحفاظ على البيئة، مثل تراجع التنوع البيولوجي بسبب فقدان الغابات البكر، من غير المرجح أن يصبح لدينا أهداف متفق عليها عالمياً لجميع تدابير التنوع البيولوجي قريباً.
هذا لا يعني أن الشركات يجب أن تقف مكتوفة الأيدي. لحسن الحظ، توفر المعلومات المتاحة حالياً في مجال حفظ البيئة وإدارة الأعمال ثروة من الإرشادات. لدينا ما يكفي لتحديد مجموعات إجراءات واضحة يمكن للشركات النزيهة الاستفادة منها لوضع خطط فعالة لحماية التنوع البيولوجي. لدى مراجعتنا للدراسات والأبحاث توصلنا إلى 5 إجراءات يمكن للشركات اتخاذها، وسنسلط الضوء أيضاً على مبادرات القطاع الخاص الحالية في هذه المجالات الخمسة، مع العلم أننا نقدم مجرد أمثلة على أعمال تسير في الاتجاه الصحيح ولا يعني ذلك بالضرورة تأييد جهود الاستدامة في تلك الشركات.
1. قلل استخدام الأراضي وأدره على أفضل وجه.
الحفاظ على التنوع البيولوجي يعني أساساً الحفاظ على المناطق غير المتضررة. لذلك يجب أن يكون أحد الجوانب الحاسمة لاستراتيجية التنوع البيولوجي في الشركات هو تقليل استخدام الأراضي في عملياتها. ثانياً، يمكن أن تقدم إعادة توفير خصائص التنوع البيولوجي (مثل حدائق الحشرات المُلقِحة) في المناطق التي تخضع لاستخدامات تجارية أو سكنية أو زراعية أو غيرها من الاستخدامات الأخرى فوائد كبيرة.
بالنسبة للشركات العاملة في القطاعات القائمة على استخدام الأراضي (أي الزراعة والحراجة)، تكمن فرص تقليل استخدام الأراضي وإدارتها في اعتماد منتجات مبتكرة وزيادة الإنتاجية ومظاهر التنوع البيولوجي في الأراضي المستخدمة. فمثلاً، بالنسبة لشركات الأغذية والزراعة، يعد دعم التحول من الأغذية الحيوانية إلى الأغذية النباتية أحد أكثر تدابير التنوع البيولوجي تأثيراً التي يمكن أن تتبناها. أظهرت دراسة أجريت في عام 2018 أن إنتاج 100 غرام من بروتين اللحم البقري يتطلب في المتوسط 125 ضعف مساحة الأرض التي تتطلب إنتاج الكمية نفسها من البروتين الموجود في البازلاء. وذلك يفسر أن الاستهلاك العالمي للحوم والألبان هو أحد الأسباب الرئيسية لإزالة الغابات وما ينطوي عليها من فقدان التنوع البيولوجي. تعمل بعض الشركات على الاستفادة من هذه الأفكار. تعمل شركة سوديكسو (Sodexo) التي توفر أساساً خدمات الإطعام في مطاعم الشركات والجامعات على تحويل ثلث أطباقها إلى أطباق نباتية بحلول عام 2025. وتقدم شركة إنترناشونال بيبر (International Paper) مثالاً مقنعاً لإدخال المبادئ البيئية في مناهج إدارة الأراضي من خلال تعليم أصحاب الغابات التي تستورد منها الأخشاب ممارسات الحفاظ على الطيور وأدواته.
أما بالنسبة للشركات العاملة في القطاعات غير القائمة على الأراضي (أي مؤسسات التصنيع والخدمات)، فإن تقليل استخدام الأراضي يستلزم تحسين الاستفادة من المساحات المبنية والبنية التحتية ومواقف السيارات الموجودة. والأهم من ذلك، الاتجاه نحو حل التوسع الرأسي بدلاً من الأفقي. ويمكن أن يمثل تخفيض "إجمالي المساحة لكل وحدة إيرادات" مقياساً أساسياً لالتزام الشركات بالحفاظ على التنوع البيولوجي.
2. قلل من استخدامك للمواد الكيميائية واقضِ على مخلفات النفايات السامة.
يعتبر تلوث كل من التربة والمياه من العوامل الرئيسية التي تسهم في تراجع التنوع البيولوجي. يجب على الشركات أن تقلل من حجم المواد الكيميائية السامة في جميع سلاسل القيمة الخاصة بها لإعطاء أولوية حقيقية للحفاظ على التنوع البيولوجي، وهذا يستلزم فحصاً شاملاً للمواد الكيميائية المستخدمة في منتجاتها وإجراءاتها وعملياتها اليومية، مع الالتزام الثابت بالقضاء على التي تشكل مخاطر على النظم البيئية. يمكن أن يمثل التحول نحو المواد الحيوية وتوسيع نطاق الاستثمارات في البحث والتطوير في ابتكارات "الكيمياء الخضراء" مؤشرات محورية على تفاني الشركة في الممارسات الصديقة للتنوع البيولوجي.
تعني الإنجازات الأخيرة التي تحققت في البحث والتطوير والتنفيذ في قطاع الكيمياء الخضراء أن الحلول النظيفة متاحة وتنتظر الاعتماد على نطاق واسع. على سبيل المثال، طورت شركة سولوجين (Solugen) الناشئة عملية جديدة تستخدم إنزيمات معدلة وراثياً لمعالجة المواد الأولية الحيوية لتحويلها إلى محاليل تنظيف ومنتجات عناية شخصية ومواد كيميائية أخرى مع التخلص من النواتج السامة وتقليل استهلاك الطاقة. تعمل سولوجين حالياً على بناء منشأة للتصنيع البيولوجي التجاري لتوسيع نطاق الإنتاج، وهي مجرد واحدة من العديد من الشركات المبتكرة في هذه السوق.
3. أسهِم في إصلاح النظام البيئي.
تعد المشاركة في أنشطة إصلاح النظام البيئي وسيلة مباشرة للشركات لمعالجة الضرر السابق الذي لحق بالنظم البيئية. تتحول هذه المشاركة عند دمجها مع إجراءات أخرى إلى مقياس ملموس لالتزام الشركة بالحفاظ على التنوع البيولوجي. كما يتيح التعاون مع مجموعات الحفاظ على البيئة المحلية ومجتمعات السكان الأصليين وغيرهم من الخبراء للشركات صياغة استراتيجيات إصلاح مصممة خصوصاً للنظم البيئية المتأثرة بعملياتها. ومن الأهمية بمكان أن تلتزم هذه الخطط بأفضل الممارسات في مجال الإصلاح البيئي، مع إعطاء الأولوية لإعادة زراعة المزروعات المحلية المتنوعة؛ وإعادة تأهيل الموائل؛ والمراقبة المستمرة على المدى الطويل. يمكن أن يؤدي تنفيذ مثل هذه المبادرات إلى تحقيق آثار إيجابية كبيرة، خاصة في مناطق التنوع البيولوجي التي تعاني تدهوراً بيئياً.
تُعد شركة سيلز فورس (Salesforce) إحدى الشركات التي تدعم مبادرات الإصلاح، وهي تدعم مبادرة ون تي دوت أورغ (1t.org) لزراعة تريليون شجرة والحفاظ عليها بحلول عام 2030، ومبادرة مانغروف بريكثرو (Mangrove Breakthrough) التي تهدف إلى الحفاظ على 15 مليون هكتار من النظم البيئية لأشجار المانغروف وإصلاحها بحلول عام 2030. كلتا المبادراتين عبارة عن شراكة عالمية معقدة متعددة أصحاب المصلحة أدت إلى تسريع الدعم الدولي لجهود الإصلاح.
4. اعتماد الحلول الدائرية.
يمكن لأي إجراء يقلل من الطلب على المواد الجديدة أن يسهم في الحد من فقدان التنوع البيولوجي وعكس اتجاهه لأنه يسمح بالحفاظ على المزيد من الأراضي بدلاً من استخدامها في الإنتاج أو الاستخراج. يجب على الشركات اعتماد تدابير للحد من الاعتماد الكامل على المواد الأولية، وإعادة استخدام المنتجات، واستخدام المواد المعاد تدويرها، وتحويل النفايات العضوية إلى سماد. يمكن تطبيق مبادئ النموذج الدائري هذه في مختلف القطاعات. بدلاً من إنشاء موقع جديد للمكاتب أو التصنيع أو البيع بالتجزئة، يمكن للشركات أولاً ترميم المباني القديمة، كما يمكنها التحول إلى استخدام الأواني القابلة لإعادة الاستخدام في مكاتبها ومطاعمها وتصنيع عبوات المنتجات من مواد معاد تدويرها. ومن المهم أيضاً إعادة تصميم المنتجات بحيث يمكن إصلاحها وإعادة تدويرها بسهولة أكبر. وأخيراً، بوسع الشركات التفكير في تقديم خدمات التأجير أو الاستفادة منها.
فمثلاً تجرب بعض شركات الأزياء البدائل الدائرية إدراكاً منها لمشكلة النفايات في هذا القطاع. تعد شركتا باتاغونيا (Patagonia) وأولبيردز (Allbirds) من بين الشركات التي تقدم الآن منتجات مستعملة، وتجرب شركة كروكس (Crocs) برنامجاً لاسترجاع الأحذية البالية لمعرفة كيفية إعادة استخدام المواد المستعملة.
5. عزز الثقافة المؤسسية الصديقة للتنوع البيولوجي.
للحفاظ على التنوع البيولوجي بفعالية، يجب على الشركات أن تنمّي ثقافة مؤسسية داخلية يدافع فيها الموظفون عن هذه القضية. ومن الضروري توعيتهم بالاحتياجات البيئية المحلية من خلال البرامج المصممة خصوصاً لهذا الغرض، وورش العمل، والتعرّف على مواقع العمل والزيارات الميدانية. وذلك يؤدي إلى زيادة الوعي والاهتمام وإثارة التفكير الابتكاري لاستراتيجيات الحفاظ على البيئة. يمكن أن يؤدي تشجيع العمل التطوعي والشراكات مع المجموعات المحلية المعنية بالحفاظ على البيئة إلى غرس الهدف والمسؤولية في الموظفين، ما يجعل الحفاظ على التنوع البيولوجي هدفاً حقيقياً مشتركاً بين الموظفين، وهو ما ينعكس في استراتيجيات الشركات وإجراءاتها.
ومن المكونات المهمة الأخرى لثقافة مؤسسية صديقة للتنوع البيولوجي تقييم الكفاءة الأساسية للشركة التي بوسعها توفير أدوات وموارد قيّمة لحركة التنوع البيولوجي العالمية. وفي هذا المجال، تعاونت جوجل مع العديد من العلماء ومؤسسات الحفاظ على البيئة، إذ يُعد محرك البحث إرث إنجن (Earth Engine) أحد الأمثلة على أدوات جوجل البيئية، وهو منصة جغرافية مكانية تسمح بمراقبة وإدارة أفضل للنظم البيئية وتستخدمه مشاريع مهمة للحفاظ على البيئة مثل غلوبال فوريست ووتش (Global Forest Watch) وغلوبال فيشينغ ووتش (Global Fishing Watch).
من المهم للشركات أن تتبنى نظرة شاملة لتأثيراتها العالمية المباشرة وغير المباشرة عند العمل على الجهود التي تتوافق مع مجالات العمل الخمسة هذه، فقد تكون للإجراء الذي يبدو للوهلة الأولى تحولاً إيجابياً آثار خطرة. على سبيل المثال، يؤدي الطلب المتزايد على الوقود الحيوي الذي تدفعه الحاجة إلى التحول عن البتروكيماويات التي تستهلك كميات كبيرة من غاز الدفيئة إلى إحداث تحول سريع في النظم البيئية المحلية في الولايات المتحدة وغيرها. هذا التأثير النهائي يضع الفائدة المناخية للوقود الحيوي موضع تساؤل ويعزز فقدان التنوع البيولوجي. قد نرى هذه العواقب غير المقصودة في "الحلول" الأخرى نتيجة للتسرع في اعتمادها.
وأخيراً، يجب على الشركات أن تدرك أن الحفاظ على التنوع البيولوجي ليس جهداً علمياً فحسب، بل هو مشروع اجتماعي أيضاً. لذلك يمكن قياس التزام الشركة بالتنوع البيولوجي من خلال مستوى المشاركة الاجتماعية في جهود الحفاظ على البيئة. يجب أن يكون السعي للحصول على إسهامات وملاحظات من الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية أمراً أساسياً لمبادرات التنوع البيولوجي للشركات في مجالات العمل الخمسة المذكورة أعلاه. إن فهم كيفية اعتماد المجتمعات على التنوع البيولوجي وإعطاء الأولوية للجوانب التي تتماشى مع مصالحها أمر بالغ الأهمية. يمكن أن تعزز الاستفادة من معرفة المجتمع المحلي بالنظم البيئية المحلية بلورة مشاريع فعالة للحفاظ على التنوع البيولوجي، خاصة في مساعي الإصلاح. كما يجب على الشركات أن تدرس بنشاط إقامة شراكات مع مبادرات الحفاظ على البيئة التي يقودها المجتمع المحلي.
هل تكفي الجهود التي تقودها الشركات في حماية التنوع البيولوجي؟
نحن نقف على مفترق طرق. عصرنا هو الأثرى في تاريخ البشرية، وهو العصر الذي يشهد أيضاً تدهور الحياة وأنظمتها الداعمة. تكشف هذه المفارقة الناتجة من تعارض النمو الاقتصادي المتواصل مع جوهر الحياة عن حقيقة أعمق، وهي أن نظامنا الحالي للإنتاج والاستهلاك غير مستدام.
تقلل إجراءاتنا المقترحة البصمة البيئية للشركات بدرجة كبيرة، لكنها قد لا تكون كافية لتجنب أزمة التنوع البيولوجي بالكامل. يتطلب التحول الحقيقي اتخاذ خطوات أكثر جرأة، مثل نقل الصناعات بعيداً عن البؤر البيئية التي تعاني تدهوراً بيئياً، وتحسين الطرق البحرية، وإلغاء التسهيلات التجارية الضارة بالبيئة، وبناء شبكات إنتاج محلية لتقليص التبادل التجاري العالمي. لن يأتي هذا التحول الجذري من المبادرات الطوعية فحسب، إذ يتطلب الأمر سياسات عامة وصناعية فعالة تعطي الأولوية للحفاظ على التنوع البيولوجي ومعالجة النزعة الاستهلاكية المفرطة التي تمثل أساس المشكلة.
وعلى الرغم من ظهور موجة من السياسات العالمية التي تهدف إلى توجيه ممارسات الشركات نحو الحفاظ على التنوع البيولوجي، ما زال تأثيرها ضعيفاً. إن الجهود الصارمة الحالية قليلة ومتفرقة، مثل لائحة الاتحاد الأوروبي لإزالة الغابات (EUDR) التي تتطلب من الشركات مواءمة ممارسات التوريد الخاصة بها مع أهداف المناخ والتنوع البيولوجي إذا أرادت الاستمرار في الوصول إلى السوق الأوروبية. في المقابل، فإن العديد من السياسات الحديثة الأخرى، مثل القسم المخصص للتنوع البيولوجي في المعايير الأوروبية لإعداد تقارير الاستدامة، ومشروع قانون البيئة في المملكة المتحدة لعام 2021، وحتى الإجراءات المتخذة في الولايات الأميركية مثل كاليفورنيا وماريلاند، ما هي إلا أدوات ترغيب بسيطة نحو "الممارسات السليمة" وليست أدوات قوية للتغيير الجوهري. حتى المنتدى العالمي للأعمال (GBF) الذي يحظى بتغطية إعلامية كبيرة يفتقر إلى توجيهات واضحة وصارمة للشركات. ولعل الخلل الأبرز هو الإخفاق في الاعتراف بوجود مشكلة كبيرة تتمثل في التعارض الأساسي بين النمو الاقتصادي وفقدان التنوع البيولوجي. تهدف أطر عمل السياسات الحالية جميعها تقريباً إلى "مواءمة الأسواق مع الطبيعة"، وهو مسعى أمال الموازين تاريخياً نحو قوى السوق، تاركاً الطبيعة تتأرجح على حافة الهاوية.
وبالمثل، فإن فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة يسير في مسار تحركه السوق، مع إعطاء الأولوية لحماية المستثمرين من خلال إعداد تقارير منظّمة وموحدة. وشأنه شأن أطر العمل الأخرى، ينصب تركيزه على تيسير تبادل المعلومات والتأثير على الأسواق بدلاً من معالجة المشكلة الأساسية مباشرة. هذا ليس نقداً لفريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة في حد ذاته؛ فظهوره جاء في الوقت المناسب نظراً للدور الحاسم للتمويل الخاص في سد فجوة التمويل السنوية الهائلة البالغة 700 مليار دولار أميركي لحفظ التنوع البيولوجي. ومع ذلك، فإن اليقظة ضرورية على جبهتين. أولاً، يجب أن نحذر من الغسل الأخضر الذي تمارسه الشركات الانتهازية التي تستغل تعقيدات اتفاقية فريق العمل للإفصاح المالي المتعلق بالطبيعة لإخفاء التقاعس عن العمل أو تضخيم الجهود الثانوية. ثانياً، يجب أن نستثمر بكثافة في علم الحفاظ على البيئة ونشر النتائج في متناول الجميع. ومن الضروري تطوير فهم واسع النطاق للمقاييس والأدوات الفعالة وتعزيزه على نطاق واسع من أجل المراقبة والإدارة الفعالة.
على الرغم من أهمية وجود حلفاء من الشركات للكفاح من أجل التنوع البيولوجي، فإن الاعتماد فقط على آليات السوق وأهواء المستثمرين قد يؤدي إلى تكرار السيناريو المأساوي لأزمة المناخ المتمثل في التقاعس عن العمل والغسل الأخضر، والتناسي في نهاية المطاف. نحتاج إلى سياسات عامة وقوانين صارمة تحمّل الشركات المسؤولية عن بصمتها البيئية لتفادي وقوع كارثة بيئية، وسيكون الرواد الحقيقيون من بين المدافعين عن هذه القوانين.
تخيّل عالماً تدافع فيه الشركات عن حماية التنوع البيولوجي ولا تسعى من أجل تمرير قوانين بيئية متساهلة وتسهيلات تجارية ضارة، وتبادر إلى وضع قوانين أكثر صرامة للتنوع البيولوجي، وتستثمر في حلول متطورة للحفاظ على البيئة، وتعزز البحث العلمي، وتكون قدوة في عملياتها الخاصة. هذا ليس حلماً خيالياً، بل التطور الضروري في تحمل الشركات لمسؤولياتها في مواجهة أزمة التنوع البيولوجي.