من الصعب تغيير الأنظمة بما يتيح معالجة المشكلات العويصة ومنها مشكلة تغير المناخ، وتنحصر بارقة الأمل في مواجهة تحديات صعبة كهذه غالباً بالخطط التي توضع على المستوى الدولي مثل مؤتمرات تغير المناخ، أو السياسات الوطنية التحويلية مثل برنامج غريبن نيو دييل (Green New Deal) في الولايات المتحدة الأميركية. ومع ذلك، فإن الحلول ذات التصميم الكبير تخيب الآمال عادة، بسبب تكاليفها المرتفعة، والتحديات المتمثلة في ترجمة الخطط الكبيرة إلى الاحتياجات المحلية، وتضارب الآراء والخلاف المستمر حول ما ينفع وما يضر.
لكن يبقى في الأفق أمل، إذ من الممكن أن توفر بيئات الابتكار الحضري بديلاً للخطط الكبرى، وأن توفر القطاعات الاجتماعية في المدن مصدراً للابتكار المستمر. تعمل شركات مثل سايدووك لابز (Sidewalk Labs) التابعة لشركة ألفابت (Alphabet) التي تطور تكنولوجيات التصميم الحضري المستدام، على تغيير قطاع الأعمال المعتاد بغية إيجاد حلول للمشكلات الحضرية العويصة كما تعمل المؤسسات الاجتماعية، مثل برامج مشاركة السيارات، على تغيير طبيعة النقل الحضري وتوفير خيارات بديلة لملكية السيارات الفردية. من خلال حمَّاماتها المتنقلة الشهيرة، وجدت منظمة لافا ماي (LavaMae) غير الربحية في مدينة سان فرانسيسكو سبلاً جديدة لخدمة المشردين في ظل غياب الإصلاحات الجذرية الكافية لإتاحة الإسكان الميسور التكلفة. كما وضع المجلس الأميركي للأبنية الخضراء (USGBC)، وهو مؤسسة وسيطة تعمل على تعزيز البناء الموفر للطاقة، مبادئ توجيهية وأنظمة تصنيف للمدن والأحياء المستدامة.
هناك وفرة من الأفكار الواعدة، ولكن السؤال المهم هو: كيف يمكن للمبتكرين الاجتماعيين توسيع نطاق هذه الابتكارات بحيث يمتد تأثيرها المحلي ليشمل الحلول الكبرى؟
الابتكار الحضري من خلال إثباتات المفهوم
يمثل أسلوب البناء الأخضر، أحد أهم جوانب تخفيف تغير المناخ، وهو يقدم بعض الدروس المهمة حول تحويل المكاسب الصغيرة إلى حلول كبيرة، فما يبدو بديهياً اليوم بدأ بتجربة جريئة عندما أصبح مركز شيكاغو للتكنولوجيا الخضراء في عام 2003 أول مبنى بلدي في العالم يحصل على الشهادة البلاتينية للريادة في الطاقة والتصميم البيئي (LEED)، من المجلس الأميركي للأبنية الخضراء، ويتميز المبنى بنظام مضخة تسخين بالاعتماد على حرارة الأرض ونظام أتمتة رائد يسمح بالتحكم المركزي في أنظمة المبنى، وهو يمثل دليلاً على ما يمكن تحقيقه في مجال تصميم المباني الموفرة للطاقة. كان هذا المبنى إثباتاً لمفهوم البناء الأخضر، وحافزاً لتبني مجموعة كبيرة من أفضل الممارسات في البناء المستدام في شيكاغو، لتصبح المدينة الآن بقعة من البقاع المشرقة في مجال المباني الموفرة للطاقة.
من الممكن أن توفر إثباتات المفهوم، ومنها المباني الخضراء الرائدة والمباني ذات صافي الانبعاثات الصفري، أدلة قيمة على أن الممارسات والسياسات الجديدة يمكن أن تنجح، ثم استخدامها بعد ذلك لإقناع الجهات الأخرى بتبني أساليب مماثلة، وحتى عندما لا تؤدي إلى إحداث تغيير فوري، فإن المبادرات السبّاقة تمثل مخططات توضيحية تمهد لإحداث تغيير منهجي أهم، فمن خلال التركيز على الأهداف القابلة للتحقيق وإظهار فعاليتها، يمكن للمكاسب الصغيرة أن تساعد على خلق الزخم والدعم اللازمين للجهود الأوسع. .
المشكلة الرئيسية للمكاسب الصغيرة هي أن تأثيرها محدود غالباً وعادةً ما يُنظر إلى الاستثمار في توسيع نطاقها أيضاً على أنه محدود ومتأخر جداً. يستغرق توسيع نطاق الابتكار الاجتماعي وقتاً طويلاً، ولكن هناك أيضاً سبل مختلفة لتحقيق ذلك، مثل النمو التنظيمي والمناصرة أو تنمية بيئات الابتكار التي يمكن أن تتوسع ويؤثر بعضها في بعض، تشكل المدن منظومات عمل للشبكات الاجتماعية للمؤسسات وتوفر قدرات التوسع والانتشار والموارد اللازمة للاستفادة من التجارب الصغيرة في حل المشكلات الجسيمة.
من التجربة إلى نشر الابتكارات الحضرية
يسمى الدور الابتكاري للمدن الحيوية، الحوكمة بالتجربة، ولإجراء التجارب أهمية خاصة بالنسبة لحوكمة المناخ، وقد طورت المدن في هذا الخصوص أفكاراً جديدة بمعدل مبهر. في الوقت الحالي لا يفرض الافتقار إلى الحلول التكنولوجية قيوداً على التقدم في مجال التقليل من آثار تغير المناخ، بقدر تلك التي يفرضها الافتقار إلى السياسات أو البرامج التي تحقق تبنياً واسعاً لهذه الحلول مثل ألواح الطاقة الشمسية أو السيارات الكهربائية. في أغلب الأحيان تقتدي المدن ببعضها بعضاً ويتسع نطاق السياسات الرائدة من خلال انتشارها من مدينة لأخرى،
وكثيراً ما كان للمدن دور الريادة في دفع الحقوق المدنية إلى الأمام من خلال حلول مبتكرة، وتعتبر سياسات مدينة الملاذ الآمن مثالاً على الابتكار الذي انتشر من مدينة إلى أخرى وتطور أكثر بمرور الوقت. تعلمت برامج الهوية البلدية مثل شياغوز سيتي كي (Chicago’s CityKey) من الإخفاقات الأولى التي واجهتها جهود مماثلة في مدينة نيويورك هدفت إلى منع تسليم الحكومة الفيدرالية قوائم بأسماء المهاجرين غير المسجلين، وذلك بفضل تواصل المدينة الفعال بخصوص الدروس المستفادة من تجربتها.
لا ينتشر الابتكار بين المدن على مستوى حكوماتها فحسب، إذ غالباً ما يتبع قادة المدن الابتكارات الرائدة لمنظمات المجتمع المدني. نشرتُ مؤخراً دراسة حول شهادة الريادة في الطاقة والتصميم البيئي وهو نظام التصنيف الرائد للبناء الموفر للطاقة الذي طوره المجلس الأميركي للأبنية الخضراء، وقد أظهرت أن تبني بعض المدن أسلوب البناء الأخضر أكثر من أخرى يرجع إلى حيوية مجتمعاتها. كما وجدت أن المدن التي كانت سباقة إلى تبني الأبنية الموفرة للطاقة هي تلك التي تتضمن مؤسسات قائمة على مهمة محددة وتشارك بفعالية في معالجة القضايا الاجتماعية. من جهة أخرى ازداد تبني البناء الأخضر في المدن التي يشارك فيها المجتمع الأهلي بصنع القرار مشاركة أكبر، إذ أظهرت مبادرات المؤسسات الاجتماعية المرتكزة إلى القيم ما بالإمكان تحقيقه، وحثت المؤسسات الأخرى كالفنادق ومتاجر التجزئة والمصارف على أن تحذو حذوها.
لا تقف قوة المبادرة التي يتمتع بها المجتمع المدني عند المكاسب الصغيرة، ففي معظم الأحيان تستلهم الحكومات البلدية من مبادرات مؤسسات المجتمع المدني حينما ترغب في تبني ممارسات وسياسات جديدة. تعتبر مبادرات هذه المؤسسات دليلاً على أن الممارسات الجديدة يمكن أن تكون ناجحة وفعالة، وبالنظر إلى القدرة الابتكارية التي تتمتع بها المؤسسات الحضرية على نطاق أوسع، فإن البلديات نفسها مؤهلة تماماً لتسليط الضوء على أفضل الممارسات وإضفاء الشرعية على الحلول الرائدة التي يقدمها قادة الابتكار الاجتماعي، لحث الجهات الفاعلة الأخرى المترددة على تبنيها، حتى أن بعض المكاسب الصغيرة تتحول إلى تشريعات.
على سبيل المثال، أقرت مدينة سينسيناتي برنامجاً لتخفيض الضرائب لتحفيز مشاريع البناء الجديدة على تكررا الإنجازين السبّاقين في البناء الأخضر وهما بناء جامعة جامعة سينسيناتي وحديقة الحيوان بالمدينة، وكما تظهر دراستي، كلما تمتعت المدن بقدرات مدنية أعلى ازدادت فرصة تمرير حكوماتها لسياسات تضفي الشرعية على الممارسات الجديدة، وعلى هذا النحو يمكنها قولبة ممارسات الشركات الرئيسية في المدينة التي تتبنى الابتكارات الاجتماعية بصورة أبطأ. ففي الوقت الحالي، أصبحت شركات التجزئة مثل ستاربكس (Starbucks)، وتارغت (Target)، وكولز (Kohl’s)، والبنوك مثل بنك أوف أميركا (Bank of America) وسيتي كورب (Citicorp)، وسلاسل الفنادق مثل إنتركونتيننتال (InterContinental) وماريوت (Marriott)، من بين الشركات الرائدة في الولايات المتحدة في تبني البناء الأخضر عند افتتاح الفروع الجديدة التي من المرجح أن تحصل على شهادة الريادة في الطاقة والتصميم البيئي. من خلال هذا التعاون بين مؤسسات المجتمع المدني التي تجري التجارب والشركات، والحكومات البلدية التي تعير انتباهها لما يجري حولها، والمؤسسات الوسيطة على مستوى البلاد، ستتمكن بيئات الابتكار الحضري من مضاعفة المكاسب الصغيرة لتصبح حلولاً كبيرة أي تتحول الأبنية الخضراء إلى مدن خضراء بحالها.
شبكات التعلم ضمن المدن وفيما بينها
ما هي آثار هذه النتائج على المبتكرين الاجتماعيين وعلى تحقيق التغيير المنهجي من خلال تطوير منظومات الابتكار الحضري؟
تشجيع الابتكار القابل للتوسع أولا، يحتاج قادة الابتكار الاجتماعي إلى الاستثمار في الابتكارات القابلة للتكرار، مثل البناء الأخضر أو الإجراءات المتطورة لحوكمة أصحاب المصلحة التي يمكن تحويلها إلى مبادئ توجيهية عالمية، مثل تلك التي تقوم عليها شهادة الريادة في الطاقة والتصميم البيئي أو شهادة الشركة ب (B Corp). ينبغي تصميم هذه الابتكارات مع وضع قابلية التوسع في الاعتبار، ومن الأمثلة على ذلك تطوير حلول مواقف الدراجات الكهربائية في مدن مثل أمستردام أو ليون، أو تجارب برنامج مناطق الفرص (opportunity zones) في سياتل، ويعني هذا أيضاً مواصلة الابتكار حتى ولو لم يوفر عائداً فورياً (اجتماعياً أو مالياً) على الاستثمار. يمكن للمؤسسات تشجيع ثقافة التجريب من خلال استكشاف الحلول المبتكرة في المجتمع الحضري وزيادة تطبيقها في مدن أخرى لمعرفة ما يمكن استخدامه منها على نطاق واسع.
إنشاء شبكة لتبادل المعرفة بين المؤسسات في المدينة الواحدة ثانياً، يحتاج القادة إلى تعزيز شبكات التعلم بين المؤسسات وخاصة بين الحكومات البلدية ومؤسسات المجتمع المدني. تعرض جهات عديدة كانت سباقة إلى تبني البناء الأخضر، تجربتها في استخدام المواد المتجددة وجعل مبانيها أكثر كفاءة في استخدام الطاقة بطرق مبتكرة، مثل مؤسسة ويليام وفلورا هيولت (William and Flora Hewlett) في بالو آلتو ومكتبة سان ماتيو العامة، وكلاهما في ولاية كاليفورنيا، وفي الوقت نفسه، تدعو مدينة بالو آلتو بانتظام الجهات الفاعلة في المجتمع المدني للتحدث عن تجاربها وتبادل معارفها مع الآخرين. يمكن لهذه التفاعلات المتكررة بين البلديات والجهات المحلية التي تجري التجارب، أن تخلق نقاط تشبيك جديدة لتبادل المعرفة والتعلم تمثل منطلقاً نحو سبل الاستدامة.
الاستثمار في القدرات المدنية ثالثاً، يمكن للحكومات والجهات الخيرية الاستثمار في القدرات المدنية من خلال دعم المنظمات التي لديها مجال للابتكار، بدلاً من الوقوع في فخ دورة المجاعة غير الربحية، وترجع أهمية ذلك على وجه التحديد إلى أن الحكومات والمؤسسات غالباً ما ترى أن الاستثمار الضخم في البنية التحتية المادية أفضل حل للمشكلات الكبرى والمعقدة، مثل السور البحري في نيويورك الذي بني استجابة لارتفاع منسوب مياه البحر. ومع ذلك، كما أكد عالم الاجتماع إيريك كليننبرغ باستمرار في تحليلاته حول إعصار ساندي وجائحة كوفيد-19، فإن الاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية يحمل القدر ذاته من الأهمية في تعزيز المرونة. قدرة منظمات المجتمع المدني على الإسهام في إيجاد حلول مبتكرة للمشاكل المادية هي سبب آخر للتأكيد على الاستثمار في القدرات المدنية، ولذلك يجب على حكومات المدن الاستثمار في البرامج التي تدعم تطوير المحاور والشبكات الداعمة لبيئة للابتكار الاجتماعي والتعبير عن الالتزام بدعم المؤسسات التي تبتكر اجتماعياً.
التنسيق بين شبكات التعلم في المدن أخيراً، تحتاج المؤسسات إلى مواصلة العمل والإسهام في تطوير المؤسسات الوسيطة التي يمكنها أن تكون جهات تنسيق، مثل المجلس الأميركي للأبنية الخضراء. لطالما كانت مؤسسة روكفلر فاونديشن (Rockefeller Foundation) ومؤسسات بلومبرج (Bloomberg) الخيرية من الداعمين الأقوياء لشبكات التعلم بين مؤسسات المدينة، مثل 100 زيزيليانت سيتيز (100 Resilient Cities) وو سي 40 (C40)، أما الداعمان الرئيسيان الآخران فهما شبكة مديري الاستدامة الحضرية (USDN) ومؤسسة الحكومات المحلية من أجل الاستدامة (ICLEI). ومع ذلك، هناك خطر في الاعتماد على التنسيق وحده، إذ يمكن أن تعتمد هذه المؤسسات على أصغر قاسم مشترك وتفقد بسرعة أفضلية البدايات، ولذلك من المهم مواصلة الاستثمار في الابتكار المحلي بالقدر ذاته لإحداث تغيير في الأنظمة من القاعدة إلى القمة. يمكن أيضاً للشبكات الإقليمية الأصغر التي تضم قادة المدن المتماثلين في الفكر أن تخلق فرصاً للمدن التي أغفلتها شبكات المدن الكبرى.
التفاعل بين المدن والمجتمع المدني أمر بالغ الأهمية لتعزيز الابتكارات الاجتماعية وتحقيق التغيير المنهجي، ومن خلال الاستثمار في الابتكارات القابلة للتكرار، وتطوير شبكات التعلم، وخلق بيئة سياسية داعمة، يستطيع قادة المدن والمجتمع المدني تمكين الابتكارات الاجتماعية من التوسع وإحداث تأثير أشمل. إن إجراء البلديات للتجارب ثم تعميمها بين المدن يسهل انتشار الابتكارات الناجحة، مما يؤدي إلى إنشاء بيئات للابتكار الحضري تدعم التغيير المنهجي وتدفعه، ومن خلال التركيز على التعلم ضمن المدن وفيما بينها، يمكننا أن نتجاوز التصاميم الكبرى والخطط الوطنية ونعمل بدلاً من ذلك على تحقيق تغيير حقيقي ودائم من المكاسب الصغيرة في القطاع الاجتماعي.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.