رعاية اليتيم في السعودية: الانتقال من مسار الرعاية إلى الابتكار

4 دقائق
رعاية اليتيم
shutterstock.com/Bencemor

تتجلى المجتمعات وبعدها الحضاري، وتميّزها الإنساني، في مدى قدرتها على رعاية المناطق الأضعف فيها، كما تبرز في مدى مأسسة الجهود المتجهة للمناطق المحتاجة إلى الدعم. إن لرعاية اليتيم وكفالته جانباً روحانياً وإنسانياً أكد عليه العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، لكن العناية باليتيم أيضاً وصقل مهاراته وتوظيف إمكاناته وقدراته، يضمن مشاركته الفعّالة في تنمية المجتمع، فتوفير الحاضن التربوي الاجتماعي بمعايير جودة عالية يساعد اليتيم على تجاوز صعوبات التكيّف وتحدياته مع محيطه، ويعزز بناءه النفسي ليصبح قادراً على تحسين وضعه ومجتمعه نحو الأفضل.

ونستعرض في هذا المقال تجربتين من المملكة العربية السعودية في تحسين مستوى رعاية الأيتام ودمجهم في المجتمع، الأولى لجمعية الوداد، والأخرى للمؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام "إخاء".

تطوُّر الاهتمام بالأيتام في السعودية

تُعد البيئة الأسرية الطبيعية هي البيئة المثالية لنشأة أي طفل، ومن الصعب أن تماثلها بيئة أخرى، وأثبتت الدراسات أن دُور رعاية الأطفال أبعد ما تكون عن هذه البيئة، إذ يواجه الأيتام عدة مشكلات نفسية واجتماعية تتمثل في العنف وعدم الشعور بالانتماء وصعوبة التكيّف، ولا تمثل دُور الإيواء المكان المناسب لهم من ناحية الصحة والتعليم، ما يؤثر في جودة حياة هذه الفئة التي تمرّ بتحديات وظروف خاصة، وتوصلت دراسة بعنوان: "المشكلات الاجتماعية والنفسية الناجمة عن اليتم وفقدان الهوية لذوي الظروف الخاصة في دور التربية الاجتماعية بمدينة الرياض"، إلى وقوع الفتيات ومجهولات النسب والهوية تحت تأثير شديد للانفعالات النفسية والعصبية ما يُعرضهن لمخاطر شديدة تحتاج إلى تدخل تأهيلي يدفع باتجاه إصلاحهن.

وعُنيت المملكة بشؤون الأيتام وتحسين أوضاعهم بما يكفل فرصة تطويرهم، إذ تأسس أول دار رعاية للأيتام في المدينة عام 1934، وبعدها بدأ التوسع في إنشاء المؤسسات والجمعيات والدُور المتميزة لمساعدة الأيتام على نطاق واسع، إذ تضم المملكة حالياً نحو 50 جمعية في مختلف مناطق المملكة، وعلى الرغم من دورها في تدريب الأيتام وتأهيلهم؛ فإن تعزيز اندماج اليتيم في المجتمع يتطلب التعاون مع القطاعات ذات الصلة لتوسيع نطاق الأثر وتحقيق دمج فعلي لهذه الفئة في المجتمع.

تطوّر بعدها العمل على ملف الأيتام في المملكة، فبدأت فكرة البيوت الاجتماعية التي قد يختفي معها مسمى "دُور الأيتام" من قاموس المملكة خلال السنوات القليلة المقبلة، إذ تستهدف نقل الأيتام تدريجياً من دور الإيواء إلى بيوت اجتماعية نموذجية وفق معايير وضوابط محددة وتحت إشراف وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية.

نلاحظ انتقال الخدمات المقدّمة للأيتام في السعودية من المسار الرعوي إلى المسار التنموي الذي يركز على الدمج الإيجابي للأيتام في المجتمع وخلق البيئة الملائمة لتمكينهم واستقلاليتهم وتأمين فرصة عمل لهم تجعلهم مواطنين منتجين، وهذه النقلة تأتي ضمن مستهدفات رؤية 2030.

الاستثمار الوقفي في رعاية الأيتام

لا تعد المشاركة المجتمعية للأيتام مجرد شعار تربوي، بل ضرورة تتطلب تفاعل الإشراف التربوي مع المؤسسات الاجتماعية في خلق التغيير المتجه نحو التنمية وتحسين مخرجات التعليم والتدريب والتأهيل لتصبح هذه الفئة قوة منتجة في المجتمع.

تتولى المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام "إخاء" رعاية الأيتام بعد سن الثامنة عشرة وحتى سن الثلاثين، ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع بحسب مؤهلاتهم وميولهم، وتتبنى أسلوب عمل استراتيجي منظّم مبني على توظيف الوسائل العلمية والأساليب الحديثة في الإدارة والتنفيذ والتقييم وقياس الأثر.

تركّز إخاء على بناء شخصية مستقلة للأيتام وتمكينهم وتعزيز إشراكهم مع فئات المجتمع والانتقال بهم إلى حياة أكثر مواءمة مع المجتمع الطبيعي، وذلك من خلال تنظيم البرامج التنموية والاستثمار في الشراكات مع الجهات ذات الاختصاص في بيئة محفزة للابتكار والتميز.

وخلال الفترة من عام 2017 إلى عام 2020 نفّذت المؤسسة 57 مبادرة استراتيجية في مجالات مثل التمكين والإسكان والشراكات والاتصال، منها مبادرة جسور التي نجحت في تهيئة انتقال 257 يتيماً من دور الرعاية إلى مؤسسة إخاء، وإنشاء مركز مرخّص من صندوق تنمية الموارد البشرية "هدف" وظّف 247 يتيماً.

تبنّت المؤسسة نهج التفكير خارج الصندوق، فقررت الاستفادة من تطور حجم الأوقاف في المملكة وتأثيرها ودورها الإيجابي في التنمية الاجتماعية، وأطلقت في يوليو/تموز 2019 "صندوق الإنماء الوقفي لرعاية الأيتام" بالشراكة مع شركة الإنماء للاستثمار، بهدف دعم الأيتام ذوي الظروف الخاصة، وتقديم خدمات السكن والتعليم وريادة الأعمال والدمج الاجتماعي لهم، إلى جانب الرعاية الأسرية والدعم النفسي والتوظيف والتدريب والتأهيل.

ويمثل هذا الصندوق مثالاً للشراكة الناجحة والتعاون المُثمر بين القطاع غير الربحي والقطاع الخاص، إذ ساعد على تعزيز الدور التنموي للأوقاف الخاصة واستثمارها بما يحقق مبدأ التكافل الاجتماعي.

الرضاعة شرط الاحتضان

التجربة الثانية التي تستحق تسليط الضوء عليها، هي جمعية الوداد، التي تأسست عام 2008 وأصبحت شريكاً لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في رعاية الأطفال المجهولي الأبوين دون سن العامين وإسنادهم لعوائل مؤهلة تحتضنهم.

لاحظت الجمعية أن اليتيم يضطر إلى الانعزال عن بعض أفراد الأسرة المحتضِنة بعد سن البلوغ، لذا وضعت الإرضاع ضمن شروط احتضان اليتيم، إذ حصلت الجمعية على فتوى شرعية بأن الطفل إذا حصل على 5 رضعات مُشبعات من المرأة المحتضِنة يكون ابناً لها من الرضاعة ويرتبط بالأسرة شرعياً، تأتي هذه الفتوى مصاحبة لشرط تعتبره الوداد أساسياً لاحتضان الطفل، وتكون بطريقتين:

  1. أن تتم الرضاعة من إحدى قريبات الزوج أو الزوجة بما يحقق المحرمة الشرعية للطفل المحتضن ذكراً أو أنثى.
  2. أن تتم الرضاعة من نفس الأم المحتضنة للطفل من خلال خضوعها لبرنامج تحفيز إدرار الحليب بإشراف طبي.

والفتوى التي حصلت عليها الجمعية هي أن الأم إذا أرضعت الطفل 5 رضعات مشبعات من التحفيز يكون ابناً لها من الرضاعة بغض النظر عن مسببات الإدرار.

ما سبق قُدِّم بالتعاون مع جمعية الرضاعة الطبيعية برنامج تحفيز إدرار الحليب، الذي خضع له أكثر من 900 سيدة محتضنة، بهدف رفع وعي الأسر الراغبة في الاحتضان عن أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل المحتضَن، لتحقيق شرط شرعية إقامة الطفل اليتيم لدى الأسرة المحتضنة.

وركزت الجمعية في برامجها أيضاً على نشر ثقافة الاحتضان وتعزيزها لدى أطياف المجتمع السعودي، خصوصاً أن ما يزيد على 80% من الأسر المحتضنة هي أسر عقيمة، وتخوض تجربتها الأولى في تربية الأطفال، فنظّمت برامج تأهيلية للأسر قبل الاحتضان منها ما يتعلق بآليات إبلاغ الطفل بواقعه، وتهيئته نفسياً قبل الدخول إلى المدرسة.

ولضمان تحقيق الرسالة المرجوة من الاحتضان ونجاح تجارب الأطفال مع أسرهم المحتضنة، تعتمد الجمعية على نخبة من المتخصصات الاجتماعيات والنفسيات في عملية المتابعة والمساندة المستمرة بعد الاحتضان.

حتى اللحظة، يحتضن أكثر من 10,000 أسرة سعودية يتيماً داخلها، منها 1,200 أسرة عبر الوداد، وذلك بعد أن تجتاز الأسرة الراغبة في الاحتضان البرنامج التأهيلي من الوداد للراغبين في احتضان اليتيم، يضمنون من خلاله، وصول تأهيل يكفي لحصول حضانة لصالح اليتيم.

اليتم تجربة صعبة، وما يساعد على تجاوزها هو وجود مؤسسات وجمعيات مثل الوداد وإخاء التي تدرك قيمة الاستثمار في مجهولي الأبوين لإنتاج كوادر نافعة للمجتمعات، فمن خلال البرامج والمبادرات المبتكرة يمكن صقل مهاراتهم وتأهيلهم للمشاركة في عملية التنمية.

المحتوى محمي