يقدم كين بوكر نقداً مرحباً به ومطلوباً بشدة للحماس الساذج الذي يحيط حالياً بالاقتصاد الدائري، لكن نقده لا يكفي.
دعونا أولاً نذكّر أنفسنا بأن الاقتصاد الدائري هو إعادة تسمية لاستراتيجيتين بيئيتين هما إعادة الاستخدام وإعادة التدوير، وهاتان الممارستان قديمتان قِدم الحركة البيئية الحديثة نفسها. ثمة أكثر من 50 عاماً من الخبرة والأبحاث في إعادة الاستخدام وإعادة التدوير، ولكن المتحمسين للاقتصاد الدائري لا يدركون هذه الحقيقة أو لا يأخذونها بالحسبان، وبالتالي لم نتعلم من دروس الإخفاقات الماضية.
يسعدني أن بوكر ذكّرنا بأن النسخة الكليلة من صناعة الأزياء في الاقتصاد الدائري هي وعد آخر لفك الارتباط بين التأثير البيئي والنمو الاقتصادي (ما يسمى "الكفاءة البيئية") من خلال الاعتماد كلياً على آليات السوق (تسمى "صفقة رابحة للطرفين"). ما زالت الكفاءة البيئية والصفقة رابحة للطرفين النموذجين السائدين للاستدامة في الشركات منذ أن عممها مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة بقيادة الرؤساء التنفيذيين في قمة الأرض عام 1992 في ريو دي جانيرو، لكن البيئة العالمية ما زالت تتدهور بكل المقاييس. فعلى سبيل المثال، ارتفعت انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون (CO2) العالمية السنوية من الوقود الأحفوري بأكثر من 60% منذ قمة الأرض وما زالت في ارتفاع. حان الوقت للاعتراف بأن الاعتماد الكامل على الكفاءة البيئية قد خذلنا، أضف إلى ذلك أن سجل إنجازات الصفقات الرابحة للطرفين محزن جداً لدرجة أن متخصصي الاستدامة وباحثيها في الشركات يناشدوننا الآن بالتخلي عنها. وبالتالي لا أعلم كيف يمكن لشركة ما أن تعلن عن الأهداف المزدوجة بمضاعفة الإيرادات وخفض انبعاثات ثنائي أوكسيد الكربون إلى النصف وأن تكون صادقة في آن معاً.
حتى مثالا بوكر لنجاحات النموذج الدائري يبدوان حالتي فشل عند الفحص الدقيق؛ فمعدل إعادة التدوير لعبوات البولي إيثيلين تيريفثالات في الولايات المتحدة، الذي تطلق عليه صحيفة بلاستيك نيوز (Plastics News) "النجم الكبير لإعادة تدوير البلاستيك" يحوم حول نسبة 20%، ما يعني أن 4 من كل 5 عبوات مصنّعة من هذه المادة لا تدوّر، بل تُحرق في مكبات القمامة أو تُرمى في أحضان الطبيعة. كما انخفض معدل إعادة تدوير علب الألومنيوم في الولايات المتحدة، التي تسميها شركة غرينبيز للإعلام (GreenBiz) "أنجح قصة لإعادة التدوير في أميركا"، من أكثر من 60% في التسعينيات إلى 45% اليوم. وفي حال كانت تلك أرقام ملهمة لصناعة الأزياء، فذلك لأن النموذج الدائري غير موجود لديها تقريباً.
وعلى عكس ما قاله بوكر حول نقص تحليلات الأثر البيئي للنظام الدائري، فالكثير من البيانات والتقييمات البيئية لاستراتيجيات إعادة الاستخدام وإعادة التدوير يقدّم أفكاراً مهمة وقابلة للتنفيذ. فعلى سبيل المثال، تُعد تكلفة إعادة تدوير الألومنيوم المنخفضة التكلفة وانبعاثات غازات الدفيئة القليلة الناتجة عنها موثقة جيداً. لذلك، عدم قدرتنا حتى على إتمام عملية تدوير عبوات الألومنيوم لا يبشر بالخير، ومن الواضح أيضاً أن الفوائد البيئية المحتملة لإعادة التدوير تكون عادة أقل بكثير من تلك الخاصة بالألومنيوم. فالألياف الاصطناعية المعاد تدويرها بعد الاستهلاك مثلاً تمتلك من 60 إلى 80% من البصمة الكربونية لنظيراتها البكر.
ذكر بوكر أن الحفاظ على الموارد دافع مهم للنموذج الدائري، لكن البيانات تظهر أن نفاد الموارد هو أقل مخاوفنا، لأننا سندمر البيئة الطبيعية والمناخ قبل وقت طويل من نفاد الخامات المعدنية أو الوقود الأحفوري. أهم نتيجة من أبحاث النموذج الدائري الحالية هي أن الفائدة البيئية الوحيدة للنموذج الدائري تتمثل في تقليل أنشطة الإنتاج من مواد بكر، ومع ذلك بوسعنا زيادة إعادة الاستخدام وإعادة التدوير دون تقليل الإنتاج من مواد بكر وتقليل استهلاكها، وهي ظاهرة نطلق عليها أنا وباحث الإدارة والاستدامة تريفور زينك اسم "ارتداد الاقتصاد الدائري". ولأن الهدف البيئي للاقتصاد الدائري هو تقليل الإنتاج من المواد البكر فمقياس الاقتصاد الدائري الوحيد هو مستويات الإنتاج البكر، وبحسب ملاحظة بوكر الدقيقة ما تزال هذه المستويات ترتفع في قطاع صناعة الأزياء وفي القطاعات الأخرى.
والأدهى من ذلك أن تسمع خبيراً في استدامة الشركات مثل بوكر يقول إن أهم عمل استدامة للشركات هو تقليل الاستهلاك المفرط، الأمر الذي يتطلب فرض قوانين صارمة، وهو يستنتج هذه الحاجة من الحقائق الآتية: لم يؤد الاعتماد المنفرد على الكفاءة البيئية والاستراتيجيات المربحة للطرفين إلى تحقيق الاستدامة ولن يحققها، وكلما أسرعت منظومة النموذج الدائري وصناعة الأزياء بتقبل ذلك، زاد الأمل في نجاح الجهود الدائرية في مختلف القطاعات. يمكّننا تبني القوانين الصارمة والتخلي عن النموذج المربح للطرفين أيضاً من إدراك أن الحاجز الاقتصادي الحقيقي أمام النموذج الدائري ليس تكلفة إعادة الاستخدام وإعادة التدوير، بل رخص المواد الخام والمنتجات الجديدة، حيث إن جميع تكاليفها البيئية والاجتماعية ما يزال يعدّ عوامل خارجية تماماً.
يتجاهل بوكر، مثل الجميع تقريباً، أحد عوامل الاستدامة المهمة، وهو العمالة؛ وهي وقت العاملين ومهاراتهم، والمساهمة الوحيدة في سلسلة التوريد التي ليس لها أي تأثير بيئي، لذلك تتجاهل التقييمات البيئية للمنتجات إسهامات العمالة جميعها. وأحد أسباب انخفاض التأثير البيئي لإصلاح الملابس وإعادة استخدامها وإعادة تدويرها مقارنة بالإنتاج من المواد البكر هو أنها تتطلب مواد أولية وطاقة أقل ولكنها تتطلب عمالة أكثر. بوسع صناعة الأزياء التقليل من تأثيرها البيئي من خلال تحويل مصادر إيراداتها من المواد والطاقة إلى العمالة، ويمكن تحقيق هذا التحول من خلال دفع المزيد من المال للعمال في مجال الملابس، لأن معظمهم لا يحصل على أجر مجزٍ حتى الآن. كما ستساعد هذه الاستراتيجية على تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة المتمثلة في القضاء على الفقر والجوع، وتأمين العمل اللائق والتعليم الجيد، وتقليل أوجه عدم المساواة. الزيادة الحقيقية للاستدامة البيئية والاجتماعية في آن معاً هي الصفقة الرابحة للطرفين التي أدعمها.
اقرأ أيضاً: مسؤول سابق بشركة تمبرلاند يكشف صعوبات تحول شركات الألبسة نحو الاقتصاد الدائري
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.