كيف يمكن لبيانات الأثر تغيير أسلوب التبرع؟

7 دقائق
المتبرعون

يزداد عدد المؤسسات غير الحكومية في العالم على 10 ملايين، ولا يملك المتبرعون ما يكفي من الوقت أو الانتباه أو المعرفة لتقييم جدارتها والتفكير فيها عند اختيار الجهة التي سيتبرعون لها والمبالغ التي سيتبرعون بها.

وحتى عندما يضيّق المتبرعون نطاق خياراتهم، كأن يحصروها في المؤسسات الخيرية التي تعمل ضمن مجال معين أو مع مجتمعات معينة أو في مواقع جغرافية معينة، فهم يواجهون مشكلات كثيرة فيما يتعلق بالبحث عن المؤسسات والمقارنة بينها، كما يصعب العثور على معلومات موضوعية حول فعالية عمل المؤسسة وأثره، ولا يكون الحديث عنهما مفهوماً يتيح مقارنتهما بنتائج المؤسسات الأخرى.

وفي كلتا الحالتين يتخذ المتبرعون قرارات التبرع بناء على معلومات محدودة غالباً وتكون تبرعاتهم رد فعل عاطفياً أو استجابة لدعوة قُدمت لهم بأسلوب ذكي، أو الأسوأ هو أن تكون مرتجلة أو عشوائية، في حين يفضل آخرون عدم التبرع على الإطلاق معرّضين قطاع الخدمة الاجتماعية الذي يمثل شبكة الأمان في عالمنا لخطر العجز المالي.

ولكن ماذا سيحدث إذا أُتيحت للمانحين مقاييس موضوعية معيارية يسهل الوصول إليها وتمكنوا من رؤية المؤسسات الخيرية والمقارنة بينها؟

الجواب باختصار هو أنهم سيقدمون تبرعاتهم على نحو أكثر فعالية للمؤسسات الخيرية التي تحقق أثراً قابلاً للقياس.

نظريتنا لصناعة قرار أفضل

يتساءل الناس عادة: هل المقاييس مهمة حقاً؟

نفّذت مؤسسة تايدز فاونديشن (Tides Foundation) مبادرة صندوق جينوم الأثر (Impact Genome Fund) البحثية ذات التمويل العام. عملت طوال الأعوام الثمانية الماضية على تجربة مقاييس موضوعية معيارية لجميع المؤسسات غير الربحية، فجمعنا مقاييس آلاف المؤسسات الخيرية ودمجناها في سجل المؤسسات غير الربحية الذي أنشأناه، وهي تشمل معلومات يمكن أن يستفيد المتبرعون منها في اتخاذ قرارات مبنية على المعلومات بدرجة أكبر، منها:

  • النتيجة التي تسعى المؤسسة الخيرية لتحقيقها
  • عدد المستفيدين الذين حققوا النتيجة المرجوة في العام الماضي
  • درجة احتياج المنطقة التي يعمل البرنامج ضمنها
  • تكلفة توليد نتيجة واحدة
  • جودة الدليل على الأثر

كانت النظرية التي أردنا اختبارها تتعلق بأهمية بيانات الأثر المعيارية القابلة للقياس -وخاصة المقاييس الخمسة المذكورة أعلاه- في حلّ مشكلة هندسة الاختيار الشاملة في مجال التبرع الخيري؛ هندسة الاختيار هي تصميم الطرق المختلفة المتبعة في تقديم الخيارات لصانعي القرار وتأثيرها في قراراتهم.

هندسة الاختيار في قرارات التمويل ضعيفة عموماً، فمن الصعب على المتبرعين اتخاذ قرارات التبرع المثلى بسبب عدد المؤسسات الخيرية الهائل وعدم الاتساق في أنواع المعلومات المتاحة وكمياتها وعدم قدرتهم على مقارنة الخيارات بسهولة وافتقارهم إلى مقاييس موضوعية واضحة للمقارنة.

ولكن هل نظريتنا صحيحة؟ هل سيغير المتبرعون أساليبهم في التبرع إذا أُتيحت لهم هندسة أفضل للاختيار؟

اختبار نظريتنا

تشاركت مبادرة جينوم الأثر مع مؤسسة آيدياز42 (ideas42) بتمويل من مبادرة أمناء مؤسسة فيديليتي تشاريتابل (Fidelity Charitable) من أجل اختبار تأثر سلوك التبرع بتوفير هذه المقاييس وهندسة الاختيار الأفضل؛ بما أن مؤسسة آيدياز42 هي مؤسسة غير ربحية تلتزم تحسين العالم عن طريق علم السلوك، فهي تستخدم المعلومات المستمدة من السلوك البشري (الأسباب التي تدفع الإنسان لفعل ما يفعله) للمساعدة في تحسين الحياة وبناء أنظمة أفضل وتحفيز التغيير الاجتماعي.

عملنا معها على اختبار تأثير هندسة الاختيار على قرارات التبرع فيما يتعلق باختيار المؤسسة الخيرية ومبلغ التبرع، واستخدمنا في الدراسة نهجاً متعدد الطرق يُنفّذ مع لجنة أميريسبيك (AmeriSpeak) التي شكلتها مؤسسة نورك (NORC) التابعة لجامعة شيكاغو، وهي عينة تمثيلية قائمة على الاحتمالات تضم أكثر من 1,500 مواطن أميركي.

هيكلية الاختبار 

أجرينا دراسة تجريبية منضبطة تضمنت محاكاة اتخاذ قرار التبرع باستخدام أموال حقيقية؛ أخبرنا المشاركين أنهم سيخوضون في 8 جولات يتخذون فيها قرارات بالاحتفاظ بمبلغ 5 دولارات لكل جولة أو التبرع به لإحدى المؤسسات الخيرية التي نعرضها عليهم، وكي لا يشعروا أن قراراتهم افتراضية بدرجة كبيرة، أخبرناهم أن ثمة احتمالاً عشوائياً لتنفيذ إحدى هذه الجولات بمال حقيقي وأننا سنرسل المبلغ الذي يقررون التبرع به إلى المؤسسة الخيرية التي اختاروها، ونضيف المبلغ الذي يقررون الاحتفاظ به إلى أجرهم الأساسي.

أولاً، عرضنا على المشاركين 3 مؤسسات خيرية مفترضة وقدمنا لهم كميات مختلفة من المعلومات عن كلّ منها، ووزعناهم على 3 مجموعات معالجة وأعطينا كلاً منهم مبلغ 5 دولارات يمكنه الاحتفاظ بها أو منحها لإحدى المؤسسات حسبما يراه ملائماً، ثم طلبنا منه اختيار المؤسسة الخيرية التي من المحتمل أن تحظى بدعمه وتحديد المبلغ الذي سيتبرع به لها من الدولارات الخمسة التي بحوزته.

لم يهتم المشاركون في مجموعة الضبط سوى بوصف المؤسسة الخيرية، في حين اهتم المشاركون في مجموعة المعالجة الأولى بوصف المؤسسة الخيرية والمعايير الموضوعية التي تشمل عدد المستفيدين الذين حققوا النتائج وتكاليف توليد نتيجة واحدة ودرجة الاحتياج في منطقة عمل المؤسسة وجودة الأدلة على أثرها، أما اهتمام المشاركين في مجموعة المعالجة الثانية فقد اتجه أولاً إلى وصف المؤسسة الخيرية فقط. وبعد أن اتخذ المشاركون قراراتهم قدمنا لهم معلومات إضافية حول الفعالية من حيث التكلفة في المؤسسة الخيرية وسألناهم عن رغبتهم في زيادة تبرعهم بمقدار دولار واحد.

تضمنت هذه المعلومات تحليلاً موحداً يحتوي على 6 جولات استقصائية؛ التحليل الموحد هو أسلوب إحصائي قائم على استقصاء الآراء يستخدم عادة في أبحاث السوق من أجل تقدير القيمة النسبية التي يمنحها المستهلكون لخصائص المنتج أو الخدمة. وفي كل جولة استقصائية عرضنا على المشاركين مؤسستَين خيريتَين افتراضيتَين مع مجموعة مقاييس عشوائية، اختار كل مشارك الخيار الأفضل بالنسبة له منهما ثم حدد رغبته في التبرع برصيد تلك الجولة للمؤسسة التي اختارها.

وأخيراً، استعرضنا 3 مؤسسات خيرية حقيقية من سجل مشروع جينوم الأثر من دون إظهار أسمائها الحقيقية وعرضنا وصفها ومقاييسها ولكن لم تتميز أي منها بوضوح، وقدمت مجموعة عشوائية تشكل نسبة 10% من المشاركين تبرعات حقيقية في هذه الجولة التي كان إجراؤها ضرورياً من أجل تنفيذ بند الاحتمال العشوائي لتقديم تبرعات حقيقية.

في نهاية الاستقصاء طرحنا على المشاركين أسئلة إضافية حول أهمية المقاييس المختلفة وتجربتهم مع استخدامها في اتخاذ القرارات وتجاربهم الشخصية مع التبرع للمؤسسات الخيرية، تضمنت هذه المرحلة استعراض المزيد من خصائص المؤسسات الخيرية (مثل قضيتها) من أجل مقارنتها مع المقاييس الموضوعية بدرجة أكبر.

اختلفت قرارات المتبرعين 

باختصار، توصلت الدراسة إلى أن تقديم المقاييس الموضوعية وجّهت قرارات التبرع نحو المؤسسات الأكثر فعالية عندما تمكن المتبرعون من المقارنة بين المؤسسات ولاحظوا أن إحداها تتميز عن البقية بوضوح، كما قال أغلب المشاركين (74%) إن مقارنة المؤسسات الخيرية بهذه الطريقة مفيدة.

توصلنا إلى عدة نتائج من خلال طرح أسئلة أعمق على المشاركين، نذكر منها:

هل لاختلاف أداء المؤسسات في مقاييس معينة تأثير في تحديد المؤسسة التي تحصل على التبرعات؟

أجل، له تأثير كبير عندما يتمكن المتبرعون من المقارنة بين المؤسسات الخيرية ويلاحظون تميز إحداها بوضوح.

أدى تقديم مقاييس موضوعية وقابلة للمقارنة للمتبرعين عند اتخاذ قرار التبرع إلى زيادة بنسبة 80% في عدد الأشخاص الذين اختاروا التبرع للمؤسسة الخيرية الأكثر فعالية، وتمكّن المتبرعون في دراستنا من المقارنة بسهولة بين 3 مؤسسات خيرية تميزت إحداها بوضوح، وفي هذه الشروط كان أثر المقاييس في قرارات المتبرعين كبيراً.

هل تزيد المقاييس حجم التبرع؟

لم تقدم النتائج جواباً حاسماً، ومن الضروري إجراء مزيد من الأبحاث للتوصل إليه.

عند المقارنة بين جولتين، جولة تميزت فيها إحدى المؤسسات بصورة واضحة بناء على المقاييس في حين لم تتميز أي مؤسسة في الجولة الأخرى، لم نلاحظ اختلافات مهمة إحصائياً في مبلغ التبرع.

ولكن المشاركين الذين عبروا عن ثقتهم في المؤسسة التي اختاروها لتقديم دعمهم لها تبرعوا بمبلغ أكبر بكثير إحصائياً مقارنة بغيرهم، كما أن المشاركين الذين وافقوا على عبارة "كان من السهل اختيار المؤسسة الخيرية التي تتمتع بأفضل مجموعة من الميزات" تبرعوا بمبلغ أكبر بكثير إحصائياً مقارنة بغيرهم.

تبرع نحو ثلثي المشاركين (61% - 64%) بأكبر مبلغ (5 دولارات) في جميع الجولات، كانت هذه النسبة أكبر بكثير من توقعاتنا بناءً على الأبحاث السابقة، كما أننا لم نلحظ اختلافات مهمة إحصائياً في المبالغ التي تبرع بها المشاركون في مجموعتَي المعالجة، سواء اطلعوا على مقاييس المؤسسات الخيرية أو لم يطلعوا عليها.

تقول نظريتنا إنه من المحتمل أن يكونوا قد تأثروا بما يسمى في الأبحاث "تأثير السقف" (ceiling effect) الذي يصف تجمّع المشاركين في الدراسة عند الحدّ الأعلى؛ بما أن المبلغ الذي كان على المشاركين التبرع به ضئيل جداً، فضّل كثير منهم التبرع به كله كل مرة، وربما كانت مبالغ تبرعاتهم ستختلف في كل جولة لو كان لديهم أكثر من 5 دولارات.

وعندما ربطنا هذه النتيجة بالنتيجة السابقة لاحظنا أن استعراض المقاييس أدى إلى تغيير طريقة المشاركين في التبرع وليس المبلغ الذي تبرعوا به، ولكن كما قلنا، يمكن أن يؤدي تأثير السقف (الحدّ الأعلى) إلى وجود اختلافات أدق مما يمكننا ملاحظته في قرارات التبرع.

هل يهتم المتبرعون باستخدام المقاييس للمقارنة بين المؤسسات الخيرية؟

أجل، هذا ما قالوه.

عندما طرحنا على المشاركين سؤالاً مباشراً عن أهمية قدرتهم على المقارنة بين المؤسسات الخيرية باستخدام إطار عمل مماثل عند اتخاذ قرارات التبرع في حياتهم اليومية، قال 74% منهم إنها مهمة بالفعل.

والأهم هو أن سلوكهم في النتائج السابقة أكّد ذلك.

ما سبب أهمية ذلك بالنسبة للمتبرعين؟

لعله من الواضح أن النتائج كانت مهمة لنا نحن الباحثين إذ أثبتت صحة نظريتنا، والعمل الذي أديناه لإتاحة المقاييس الموضوعية القابلة للمقارنة التي يسهل الوصول إليها يساعد المتبرعين في إيقاع أثر أكبر.

ولكن إن رغبت في تعظيم أثر تبرعاتك فلا شكّ في أن هذه الدراسة تهمك أيضاً.

لماذا؟

تبين لنا من خلال عملنا السابق في شركة آيدياز42 أن الكثير من المتبرعين يقدمون تبرعاتهم بناء على استجابة عاطفية ارتجالية للطلب بدلاً من تقديمها على نحو استباقي واستراتيجي، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى انعدام التوافق بين أهدافهم المثالية وسلوك التبرع الفعلي الذي يبدونه. لكننا نعرف الآن أن ثمة طريقة أفضل، فاستخدام مقاييس معيارية قابلة للمقارنة يساعدك في تطوير نهج استراتيجي للتبرع؛ إذا ملكت المعلومات التي تحتاج إليها فستتمكن من توجيه تبرعاتك إلى المؤسسات الخيرية الأكثر فعالية، وبالتالي ستتمكن من تعظيم الأثر الإيجابي الذي توقعه على القضية (أو القضايا) التي تهمك، أي أن القدرة على فهم ما تفعله المؤسسات الخيرية ودرجة إتقانها له تولّد القدرة على إيقاع أثر أكبر.

من الضروري إتاحة المقاييس الموضوعية القابلة للمقارنة التي يسهل الوصول إليها للمؤسسات الممولة أيضاً؛ فتقييمات الأثر المصممة حسب الطلب مكلفة ويمكن أن تشكّل عبئاً على المؤسسات غير الربحية إذا رغب كل ممول في مقياس للفعالية مختلف بدرجة طفيفة، وإنشاء مقاييس معيارية تتبناها جميع المؤسسات الخيرية سوف يبعدنا عن المقاييس غير المهمة مثل النفقات العامة التي نركز عليها بدلاً من التكاليف المباشرة، ويوجهنا نحو المقاييس التي توضح النتائج أكثر، وتوضح في نهاية المطاف التغيير الذي نريد رؤيته في عالمنا.

كان هدفنا النهائي من هذا البحث تقديم بيانات تساعد جميع المتبرعين على الاستثمار بفعالية أكبر في التغيير الاجتماعي والتوصل في نهاية المطاف إلى حلول لبعض أصعب المشكلات في العالم وأعندها، وبينت دراستنا أن تسهيل المقارنة بين خيارات التبرع وإتاحة البيانات التي يحتاج إليها المتبرعون يؤديان بالفعل إلى تغيير أساليبهم في تقديم التبرعات، وبالتالي يستطيعون استخدام مواردهم على نحو أفضل وتقديم تبرعاتهم لمؤسسات خيرية أفضل وإحداث أثر أكبر.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً

المحتوى محمي