يعاني الطلاب في مرحلة التعليم الجامعي ندرة الوظائف وفرص التدريب المتاحة أمامهم، ما يدفع البعض إلى إهدار الوقت والانعزال خلف الشاشات. فمعظم فرص العمل في البلدان العربية يتطلب حصول الطالب على شهادة إتمام الدراسة، وما يفيد إنهاء الخدمة العسكرية أو الإعفاء النهائي منها، كما تكون بدوام كامل يتجاوز 8 ساعات يومياً في كثير من الأحيان، ما يعوق قدرة الطالب على التوفيق بين متطلبات العمل وواجباته الدراسية. وفي الغالب، فإن الوظائف المؤقتة المتوفرة للطلاب تتسم بظروف عمل مجحفة وتعويضات زهيدة ولا توفر الحد الأدنى من شروط السلامة المهنية أو التأمين الاجتماعي أو الحماية ضد أخطار العمل. فما هي سياسات التوظيف التي تحتاج إلى إعادة هندسة في المؤسسات العربية لملاءمة احتياجات الطلاب الوظيفية والتدريبية؟
يخشى أصحاب المؤسسات عادة اتخاذ قرارات توظيف خاطئة أو تعيين موظفين غير مناسبين، ما يدفعهم إلى تصميم عمليات توظيف بيروقراطية تقلل فرص تعيين الطلاب في وظائف مؤقتة خلال فترات الدراسة والإجازات الصيفية. يشير مؤلف كتاب "المواهب" (The Talent)، تيلور كوين، إلى أن الطريقة الروتينية في التوظيف هي شكل مدمّر من أشكال عدم الكفاءة مثل اختيار الموظفين غير المناسبين تماماً. وقد لفت الكاتب ديفيد ويل في مقاله المنشور في هارفارد بزنس ريفيو النظر إلى ظاهرة إهمال العمالة المؤقتة وإهمال المتعاقدين المستقلين التي أطلق عليها اسم مكان العمل المتصدع، الذي يحرم الطلاب من الأجور العادلة إذا توفرت أمامهم فرص العمل.
أسباب عدم الاستعانة بالطلاب
من أبرز الأسباب التي تسوقها المؤسسات حاجتها إلى موظفين يشكلون جسراً بينها وبين الموظفين المؤقتين من الطلاب، وحاجة هؤلاء الطلاب إلى التدريب والإعداد للعمل والإشراف، ثم ما يلبث الطلاب إلى المغادرة لاستكمال دراستهم. لذلك يميل الميزان إلى ناحية تعيين موظفين دائمين من أجل توفير هذه التكاليف. ومع ذلك، يجب أن يعي مدراء التوظيف أهمية الاستعانة بالطلاب في الوظائف المؤقتة لمساعدتهم على صقل مهاراتهم وإتاحة كوادر مستقبلية في مختلف المهن. ففرص توظيف الطلاب بشكل مؤقت تسهم في إعداد مجموعات من الموظفين المحتملين المدربين وزيادة قيمة المواهب المرنة مستقبلاً. كما أن الاستعانة بالطلاب يسمح للمؤسسات بتجربة صيغ عمل مختلفة، مثل عقود العمل بالساعة ومن ثم التوفير في تكاليف التشغيل.
دور الجامعات في إعداد الطلاب للعمل الحر
ثمة دور محوري للجامعات في تأهيل الطلاب للعمل الحر، وحتى هذه اللحظة لم تقم جل الجامعات العربية بدمج دراسة اقتصاد العمل الحر أو ممارسته في مناهجها، بل تستمر في إعداد الطلاب للعمل كموظفين بدوام كامل. يزعزع اقتصاد العمل الحر طريقة عمل الشركات في العمل والتوظيف، ولهذا يجب أن يتعلم الطلاب العمل لحسابهم الخاص وإدارة المشاريع الصغيرة، وفق ما جاء في هذا المقال المنشور في هارفارد بزنس ريفيو لمؤلفه ديان مولكاهي.
ويمكن أن يسهم النموذج الهجين في التعليم الذي أفرزته جائحة كوفيد-19 والذي يمزج بين التعليم وجهاً لوجه في المدارس والجامعات والتعلم من خلال الإنترنت، في تعزيز تجارب الطلاب من خلال زعزعة الأسلوب التقليدي للحرم الجامعي وطرح مفهوم الحرم الجامعي الهجين من خلال قضاء الطلاب لبضعة أسابيع في كل فصل دراسي في الحرم الجامعي وقضاء بقية المرحلة الدراسية في تدريب داخلي في أثناء تلقي الدروس عبر الإنترنت أو تلقي الدروس مع الملازمة الوظيفية عن بعد في أثناء تلقي الدروس وجهاً لوجه، وفق ما اقترحه الكاتب جيفري سيلينغو في مقاله المنشور في هارفارد بزنس ريفيو.
تتعاظم في نموذج التعليم "الهجين" بشقيه "التعليم الحضوري" و"التعليم عن بعد" المساحات المخصصة للتعلم التطبيقي (ورش ومختبرات متطورة وأدوات محاكاة وتصميم، وغير ذلك)، كما تتوفر مساحات لتطوير الأفكار والابتكار وممارسة الأنشطة الاقتصادية الطلابية (حاضنات الأعمال)، بالإضافة إلى مساحات لتطوير المهارات وبخاصة مهارات الثورة الصناعية الرابعة (التواصل، والتعاون، وحل المشكلات، ومهارات العمل الجماعي، والتفكير النقدي، والتحول الرقمي، والقيادة، والذكاء العاطفي)، وهي المهارات التي أشار إليها عبد اللطيف الشماسي في مقاله المنشور في هارفارد بزنس ريفيو.
فيما يلي 5 نماذج ناجحة لتوفير خيارات عمل مرنة للطلاب.
1. نموذج تطبيق ماي إيديو
من التطبيقات الناجحة في مجال التوفيق بين الطلاب والوظائف وفرص التدريب تطبيق ماي إيديو (MyEdu)، وهو تطبيق أنشأته شركة ناشئة تحمل الاسم نفسه. يركز هذا التطبيق المجاني على مساعدة طلاب الكليات في الحصول على فرص التدريب الداخلي والوظائف المهنية لاحقاً.
2. نموذج المواهب المرنة وفرص العمل المفتوحة
لقد أتاح نموذج العمل عن بعد فرصة للشركات للتفكير في نموذج المواهب المرنة أو المفتوحة للعمل على المشاريع المؤقتة ورفده بالموظفين غير المرتبطين بالشركة بصورة دائمة. "فالموظفون الخارجيون أقل تكلفة، ويمكن أن يعملوا في أوقات لا يتوافر فيها "الموظفون الدائمون"، وفق ما جاء في مقال آدم أوزيمك المنشور في هارفارد بزنس ريفيو. والمواهب المفتوحة أو المرنة تبدأ من الموظفين المستقلين (Freelancers) المحليين والمتعاقدين عبر الإنترنت المنتشرين في أنحاء العالم. وتشير الأخبار إلى أن أغلبية القوى العاملة لدى شركة جوجل مؤلفة من عاملين مستقلين ومؤقتين وليس من موظفين بدوام كامل.
3. نموذج برنامج جيل طموح السعودي
يأتي برنامج جيل طموح الذي أطلقته مجموعة بوسطن كونسلتنغ غروب في عام 2019 (ويعد أحد البرامج التنموية الرائدة غير الهادفة للربح) ضمن البرامج المتميزة في تنمية مهارات الطلاب في المملكة العربية السعودية. ويستقبل البرنامج أكثر من 300 طالب وطالبة من مختلف الجامعات السعودية لتمكينهم من إظهار مهاراتهم وقدراتهم الإبداعية والتعبير عن إمكاناتهم المتفردة. ويسعى البرنامج إلى نقل الأفكار والمهارات القيادية والمهنية والشخصية اللازمة للطلاب لتجهيزهم للالتحاق بسوق العمل. كما تسهم ملتقيات التوظيف في تعزيز التواصل والتفاعل بين الطلاب المتميزين والكوادر المتخصصة في سوق العمل.
4. نموذج شركة جولدمان ساكس
غيرت شركة جولدمان ساكس نموذجها في اختيار المواهب الاستثنائية من الطلاب في التدريب الصيفي. إذ لم تعد الشركة تركز على الطلاب من الجامعات ذات الترتيب العالي، بل أصبح بالنسبة لها سؤال "كم مرشحاً مؤهلاً للوظيفة في الجامعة؟" أهم من سؤال "من هم أكثر الطلاب موهبة؟". ويؤكد مؤلف المقال المنشور في هارفارد بزنس ريفيو، دين هولمز، أن الشركة قامت "بتثقيف الطلاب في مكاتبها".
5. نموذج مؤسسة إنجاز العرب
تتبع مؤسسة "إنجاز العرب" استراتيجية لتجهيز الطلاب لسوق العمل منذ المراحل الدراسية الأولى ليكونوا مستعدين للثورة التكنولوجية من خلال إعطائهم نصائح وتوفير تكنولوجيا من خلال محتوى وبرامج متعددة لتغيير عقلياتهم تجاه المجالات المزدهرة الأسرع نمواً في المنطقة العربية. وقد تحدث رئيس الشراكات الإقليمية في مؤسسة "إنجاز العرب"، تامر الزعمط، لهارفارد بزنس ريفيو عن هذه الاستراتيجية في مقابلة أجراها على خلفية مؤتمرات إدارة لاب بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 المنعقدة للنقاش حول مستقبل التعليم.
إن توفير المرونة التي يتعطش لها الطلاب في الحصول على فرص العمل والتدريب سيساعد المؤسسات في الحصول على خدمات الطلاب أصحاب المواهب والمهارات. فنماذج العمل المرنة توفر للمؤسسات فرصة التعهيد الخارجي للمهام الصغيرة التي لا تسوّغ تعيين موظفين بدوام كامل. ومن بين المهام الروتينية إدخال البيانات وتطوير المواقع والبرمجيات والبرمجة العالية المستوى أو العمل على تعلم الآلة وغيرها من أعمال التصميم الشخصية.
ويمكن أن تستعين المؤسسات بالطلاب في أداء بعض الأعمال كتجهيز المنشورات، وأعمال المحاسبة والموارد البشرية وأعمال النظافة، كخدمات نظافة الغرف في الفنادق وإعداد الوجبات في المطاعم وتحميل البضائع وتفريغها في مراكز التوزيع ومحلات البيع بالتجزئة، وشركات الامتيازات التجارية (الفرنشايز)، وصيانة المرافق والأمن، وحتى في الوظائف القانونية في شركات المحاماة، وأيضاً في الرعاية المنزلية وخدمات التوصيل والعمل مندوبي مبيعات، وذلك في نوبات عمل محددة.
يجب أن تتفهم الحكومات العربية المشكلة الحقيقية التي يواجهها قطاع كبير من الشباب العربي والعمل على حلها من خلال تصميم سياسات عمل مرنة تناسبهم. كما يجب أن تعمل المؤسسات العربية على التخفيف من متطلبات التوظيف البيروقراطية واتباع ممارسات توظيف أقل تعقيداً وتوفير خيارات عمل مرنة، كالعمل بدوام جزئي لعدد محدد من الساعات أو لعدد محدد من الأيام، وفق نظام أجور عادل يفي باحتياجاتهم. فالطلاب يحتاجون إلى فرص العمل والتدريب المدفوعة لكسب المال من أجل تغطية مصاريف معيشتهم ودفع نسبة من مصروفات التعليم الجامعي.