تقول إلينا: "لقد أنشأنا مؤسسة أماني لنجيب عن سؤالين اثنين".
تتذكر إلينا اليوم الذي حضرت فيه محاضرتها الأولى في الجامعة وتقول: "كانت القاعة مكتظة بالطلاب، واستمرت المحاضرة التي كانت بعنوان "المنطق ونظرية المعرفة"، ثلاث ساعات متواصلة، وخلال تلك المحاضرة قال لنا الأستاذ بوضوح أن نسبة الخريجين بين الحاضرين ستكون أقل من 30%". وعندما تشجع أحد الطلاب ورفع يده سائلاً إياه عن السبب، أجابه: "يجهل قسم منكم ماذا يريد، ولن يتحمل قسم آخر تكاليف الدراسة، أما القسم الثالث فسيتوقف في منتصف الطريق لأن المنهاج الدراسي لن يعجبه". لقد صدمني كلامه هذا، فإذا كنا نعرف سلفاً مدى قصور التعليم العالي فلمَ لم نتخذ أي خطوة بهذا الشأن؟
أما بالنسبة لروشان، فقد كان في إحدى المرات يلقي محاضرة بصفته ضيفاً في إحدى الجامعات الرائدة بالولايات المتحدة الأميركية، واكتشف خلالها أن الكثير من طلاب الدراسات العليا غير مؤهلين للعمل في مؤسسات التأثير الاجتماعي إذ اشتكى جميع الرواد الاجتماعيين عدم تمكنهم من العثور على عدد كافٍ من الأشخاص الذين يتمتعون بالمهارات والمؤهلات اللازمة لتنمية مؤسساتهم. وإذا كان هذا هو الحال في أفضل جامعات العالم، فكيف يمكن أن يكون في جامعات الدول الأخرى؟
عندما التقينا في صيف عام 2010، رأينا أننا بحاجة ماسة إلى الإجابة عن هذين السؤالين، وقررنا إنشاء نموذج بديل للتعليم العالي لصناعة التغيير. وفي عام 2013، طرحنا برنامج "شهادة الدراسات العليا في إدارة الابتكار الاجتماعي" في نيروبي بكينيا. يمتد برنامج الماجستير البديل الذي نديره اليوم لستة أشهر، ينقسم إلى شهرين من التعلم عبر الإنترنت و4 أشهر من التعلم الشخصي، والبرنامج مفتوح لأي شخص يحمل درجة جامعية سواء في كينيا أو البرازيل أو الهند، وبصرف النظر عن جنسيته أو خلفيته المهنية. ويتألف البرنامج من 10 دورات متطورة في بناء المهارات المهنية، يقدمها مدرسون ممارسون من أصحاب الخبرة المهنية. إنه مشروع ابتكار اجتماعي، وتدريب مهني يركز على ريادة الأعمال وفق مناهج محببة تصبّ اهتمامها على تطوير الذات. وعلى الرغم من أن هذا البرنامج مستقل عن برامج التعليم العالي الرسمية، فإن خريجي أماني مؤهلون لتحويل الساعات الدراسية المعتمدة إلى ماجستير إدارة الأعمال من جامعة لين أو دبلوم الابتكار الاجتماعي من جامعة السلام التابعة للأمم المتحدة.
نظراً لأن الابتكار والتأثير هما حجر الزاوية في مهمتنا، فقد خضع البرنامج لتعديلات هيكلية، وتغييرات في الأولويات على مر السنين، لكن النموذج الأساسي ظل ثابتاً وهو يتكون من ستة عناصر متشابكة تجمع بين أفضل ممارسات تعليم الكبار وابتكاراتنا الخاصة. وعلى الرغم من أننا نحصل على بعض هذه العناصر من مؤسسات أخرى، فإننا المؤسسة الوحيدة في الدول النامية التي تقدم برنامج ماجستير على مستوى عالمي وبأسعار معقولة وتشجيعية وتلائم الجميع.
1. التعليم المعكوس كنهج عالمي
لقد ترسخ نهج "التعليم المعكوس" في الابتكار التعليمي، لكننا نسعى إلى تطبيق هذا النهج على عالمنا بأكمله. ترسم المؤسسات التعليمية الناشئة في الدول النامية حدود التغيير الاجتماعي، وعلى الرغم من أنها مراكز للابتكار الاجتماعي، وتتطور بسرعة وفي بعض الأحيان أسرع بكثير من مثيلاتها في دول الغرب، فإن أفضل المؤسسات التعليمية حتى الآن موجودة إلى حد كبير في البلدان الغنية. ولأننا من المؤسسات الناشئة ونعلم كمية المواهب الموجودة في هذه البلدان ومدى تعطشها للمساهمة في التغيير وصناعته، أردنا تقديم تجربة تعليمية على مستوى عالمي هناك، مع الترحيب بالطلاب ذوي التفكير الابتكاري من دول الغرب، ونذكر هنا أن 20% من طلابنا هم من أميركا الشمالية وأوروبا، والـ 80% هم من أميركيا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
2. صناعة التغيير تتطلب تدريباً وممارسة
ليس من السهل إحداث التأثير، فهو يستلزم تدريباً وممارسةً تماماً كما يفعل الأطباء أو الرياضيون الأولمبيون. ونعمل قدر الإمكان على تغيير الأنظمة التعليمية وفق "نموذج الجبل الجليدي" لتغيير الأنظمة، فالعمل على قاعدة الجبل يعني تغيير العقليات والسلوكيات، أما العمل على قمته فيعني تطوير الأدوات والمعارف. لذلك فإننا نعطي أولويةً للتجربة والممارسة والعمل الفكري الجماعي على الأوراق البحثية الأكاديمية، وندفع الطلاب إلى تطوير مهاراتهم في التخيل والابتكار بدلاً من انتقاد عمل الآخرين فقط. تتيح طريقة التعليم لدينا للفرد أن يفكر قليلاً خارج منطقة الراحة، فنحن نجري الكثير من أنشطتنا "خارج" الفصل الدراسي، كمشاريع الابتكار الاجتماعي الفردية، والرحلات الميدانية، والتدريب المهني، والفعاليات العامة، والتفاعل مع الرواد المحليين، وغيرها.
3. مهارات مطلوبة في القرن الواحد والعشرين
في حين أن برنامج الماجستير التقليدي في التنمية الدولية أو دراسات السلام يوفر المعرفة بتاريخ هذا المجال ومدارسه الفكرية ويبني مهارات التفكير النقدي والبحث والكتابة، فإن هذه الشهادات لا تعد الطلاب بما يكفي لتلبية الحاجات الضرورية لأصحاب العمل وهي: تمتع الفرد بمهارة قيادة العديد من المشاريع، والتواصل الفعال مع أشخاص مختلفين عنه، والابتكار بسرعة وبصورة متكررة لمواجهة سيل المشكلات الجديدة الذي لا ينتهي، وإدارة نفسه والآخرين خلال إنجاز الأعمال الصعبة والدقيقة، حيث تكون حياة الناس وسبل عيشهم في خطر في بعض الحالات. بالارتكاز إلى هذه المهارات الأربع الموجودة في صميم عملنا، بدأنا بتصميم خطة نوضح من خلالها للأشخاص ما عليهم القيام به في وظائفهم اليومية في القطاع الاجتماعي، ونساعدهم على معرفة كيفية بدء العمل.
ونظراً لأننا أردنا أن يتعلم طلابنا من الرواد المهنيين وليس من واضعي النظريات، فقد اعتدنا أن نمزح قائلين إن الحصول على شهادة الدكتوراة يمنعك من أن تصبح عضواً في الهيئة التدريسية في مؤسسة أماني، مع بعض الاستثناءات طبعاً. تضم هيئتنا التدريسية حالياً أكثر من 50 قائداً أحدهم حاصل على جائزة نوبل بالمشاركة، إضافة إلى منتج مشارك في تطوير نموذج ماكنزي للقيادة، ومنتج فيلم وثائقي حائز على جوائز، ومؤسسي شركات استثمار مؤثرة وعشرات من الرؤساء التنفيذيين لمؤسسات رائدة في القطاع الاجتماعي. أما مهمة أعضاء الهيئة التدريسية فهي تعليم طلابنا المهارات وتعريفهم بالأدوات التي يستخدمونها يومياً في إنجاز أعمالهم.
كما صممنا دورات تدريبية جديدة بأنفسنا من النادر أن تقدم في أي مكان آخر، مثل دوراتنا في التعاطف الحيوي: التعلم من الطبيعة والرحلة الداخلية لصانع التغيير وعملية الابتكار الاجتماعي.
4. الرحلة الداخلية لصناع التغيير
إن العمل في التغيير الاجتماعي ليس سهلاً ولا يتلخص في قدراتك المهنية فقط، فلإحداث تغيير مسؤول وفعال في العالم، نحتاج إلى تطوير القدرة على قيادة أنفسنا، ونذكر هنا أقدم نصيحة مرتبطة بهذا السياق وهي: "اعرف نفسك". عندما بدأنا العمل لأول مرة، ذكّرنا العديد من صناع التغيير الأكثر نجاحاً في العالم بأن فرصتنا في إطلاق العنان لإمكاناتنا القصوى وإحداث تأثير أكبر تزداد عندما نتماشى مع قيمنا ونتصرف وفقاً لحكمتنا الداخلية.
لذلك، فإن منهج "الرحلة الداخلية"، يتعلق بالبعد الشخصي للعمل في مجال التغيير الاجتماعي، وبتعليم الفرد كيف يجري حواراً تأملياً مع نفسه عند اتخاذ القرارات، لاكتساب سلوكيات تساعده على صقل قيمه وأهدافه وتعزيز مرونته وتأثيره ثم تنمية كل هذه العناصر بمرور الوقت، ويقول معظم خريجينا إن "الرحلة الداخلية" هي الجزء المفضل لديهم من البرنامج.
5. التكلفة الميسورة كأداة لتحقيق التنوع والشمول الاجتماعي
لا يوجد حل في الأفق لأزمة عدم القدرة على تحمل تكاليف التعليم العالي، إضافة إلى أنه من المؤسف أن العديد من صناع التغيير الموهوبين يختارون الالتحاق بوظائف في القطاع الخاص لسداد ديونهم الطلابية، بدلاً من اغتنام مواهبهم في مجال التغيير الاجتماعي. ودون إيجاد حل لهذه المشكلة، فإن كليات السياسة العامة سيكون لها تأثير سلبي في رغبة الأفراد في العمل بقطاع الخدمة العامة.
إن إدارة تجربة تعليمية تحدث تغييراً عالمياً مكلفة مالياً، وعلى الرغم من أن الرسوم الدراسية لدينا هي جزء بسيط من رسوم درجة الماجستير الأميركية، فإنها تظل أعلى قليلاً مقارنة برسوم المؤسسات الناشئة الأخرى. ولكن كمؤسسة اجتماعية مستقلة، نحن ملتزمون بإبقاء أسعارنا في متناول الجميع قدر الإمكان، بغية تحقيق التنوع والشمول الاجتماعي، فلا شيء يجعلنا أكثر سعادة من رؤية شخص نشأ في حي فقير في نيروبي يعمل جنباً إلى جنب مع شخص نشأ في ضواحي باريس، وهو ما تمكّنا من تحقيقه عبر تقليل تكاليفنا قدر الإمكان، إذ إننا نقدم 30% من البرنامج عبر الإنترنت قبل وصول طلابنا إلى الموقع، كما أن أعضاء الهيئة التدريسية ليسوا موظفين دائمين وذلك لأنهم جميعاً من المهنيين، وتوفر المدينة نفسها أجواء "الحرم الجامعي" النابضة بالحياة. ومثل مؤسسات التعليم العالي الأخرى، فإننا نخصص دعماً مالياً للمنح الدراسية من خلال تقديم البرامج التدريبية والاستشارية في جميع أنحاء العالم.
6. مجتمع عالمي من صناع التغيير
توفر غالبية الجامعات أيضاً شبكات دولية لخريجيها، ولكننا في مؤسسة أماني نسعى بجد إلى إنشاء مجتمع من الرؤى والقيم المشتركة. منذ أن أنشأنا الفصل التعليمي الأول في نيروبي الذي كان يضم 14 طالباً، عملنا على توسيع البرنامج ليشمل مدينة ساو باولو بالبرازيل، وبنغالورو بالهند، وسجلنا أكثر من 500 "زميل لأماني" من أكثر من 65 دولة. يعمل الآن أكثر من 80% من "زملاء أماني" في القطاع الاجتماعي، ويسعى كثيرون غيرهم بنشاط لإحداث تأثير اجتماعي داخل القطاع الخاص. يغادر جميعهم تقريباً البرنامج مقتنعين تماماً بالحاجة إلى عقلية عالمية في عالم مستقطب وبأهمية العمل عبر الحدود لحل تحدياتنا الأكثر إلحاحاً. ويوفر توافق القيم هذا فرصاً لا حصر لها للشراكات ويتيح مشاركة الموارد على المدى الطويل.
حالة التغير المستمرة تفرض تحديات جديدة
لقد تغير العالم الذي بدأ ونما برنامجنا فيه، ولا يرجع ذلك إلى جائحة كوفيد-19 فقط، ومن ثم فإنه من المهم أن نستمر في النمو والتعلم وتغيير أنفسنا. أدت التحولات السياسية إلى اليمين في العديد من البلدان الكبيرة حول العالم في بعض الحالات إلى الحد من حرية عمل منظمات المجتمع المدني، وهو ما يعني بدوره أن سوق العمل لصناع التغيير آخذة في التحول، وستكون هناك حاجة إلى مهارات إحداث التغيير في جميع القطاعات، وقد تكون هذه الحاجة أقل في القطاع الاجتماعي التقليدي. يؤدي القطاع الخاص دوراً أكثر نشاطاً من أي وقت مضى في التغيير الاجتماعي، على سبيل المثال، من خلال حملات لزيادة الشمول والتنوع، وتقليل الأثر البيئي، وابتكار مصادر الطاقة المتجددة، وستحتاج المنظمات غير الربحية إلى التحول نحو تعزيز شراكاتها مع الأعمال بدلاً من وضع نفسها في موضع المقارنة بها. وهذا يعني أن صناع التغيير سيحتاجون في السنوات القادمة إلى مناهج وبرامج جديدة وربما حتى عقلية جديدة أيضاً. لذلك فقد عملنا على تطوير دورة تدريبية جديدة حول كيف يمكن للأعمال أن تكون نقطة قوة في التأثير الاجتماعي، وهو ما لم نكن نأخذه في الاعتبار عندما بدأنا، ونشرح لطلابنا الآن هذه الأفكار ونوضح لهم كيف يمكنهم تنفيذها.
وفي الوقت نفسه، تقلل الدعوات للعمل المناخي من حوافز السفر الدولي كجزء أساسي من تعليم الفرد، وذلك بسبب تأثير السفر الجوي في تغير المناخ، إذ إن الأشخاص الأكثر اهتماماً بتوسيع آفاقهم في الخارج قد يشعرون في الوقت ذاته بالمسؤولية تجاه هذه القضية. وهذا يعني أن المؤسسات التي تقدم برامج تعتمد على السفر الدولي كبرنامجنا، ستكون بحاجة إلى تكثيف عملها في الأسواق المحلية أو تقديم المزيد من البرامج الافتراضية، وقد بدأنا بالفعل بإصدار خاص افتراضي من البرنامج وسينطلق في شهر يوليو/تموز.
تعزز هذه التغييرات التي نشهدها إيماننا بالأهمية المستمرة لعملنا والعناصر الستة الموضحة أعلاه. إن حالة التغير المستمرة التي يشهدها العالم تفرض علينا أن نتغير بدورنا لنواكبها، وهذا هو دور برنامجنا للابتكار الاجتماعي.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.