لماذا يزدهر بعض المشاريع التعاونية الصحية بينما يتراجع البعض الآخر أو يفشل؟ لننظر إلى المثالين الواقعيين التاليين.
في شمال غرب المحيط الهادئ، كانت 4 مقاطعات تعاني صعوبات كبيرة في تلبية احتياجات الرعاية الصحية للسكان الذين يفتقرون إلى التأمين الصحي المناسب، وغالباً لم يستطع المرضى طلب الرعاية اللازمة أو ترددوا في طلبها عند الحاجة إليها، فكثير منهم لم يكونوا قادرين على تحمل أعباء الرعاية الصحية الأولية والوقائية، ولم يحصلوا على الرعاية إلا في الحالات الطارئة والإسعافية. عانى المرضى مشكلات صحية كثيرة وكانت تكلفة الرعاية الطبية مرتفعة.
كان أحد كبار القادة في أحد المستشفيات طبيباً يتمتع بالمصداقية في المجتمع الطبي، فدعى قادة من أهم الشركات والمستشفيات المحلية وعيادتَين للرعاية الأولية وشركة تأمين كبرى، وشكّل معهم المشروع التعاوني الصحي متعدد المقاطعات في منطقة المحيط الهادئ1 (Pacific Multi-County Health Collaborative)، وحشدوا متطوعين من عاملي قطاع الرعاية الصحية لمعالجة الفئات المحرومة، وأنشؤوا مركزاً صحياً مجتمعياً جديداً لتوفير الرعاية الصحية الأولية والوقائية الميسورة التكلفة. تضمنت مبادراتهم الأولى تحسين الرعاية السابقة للولادة للحوامل، والاستثمار المشترك في مركز رعاية الصدمات النفسية، وتأسيس نظام السجلات الطبية الإلكترونية لتمكين مقدمي الخدمات من مشاركة سجلات المرضى فيما بينهم، وأدت هذه المشاريع إلى بناء الزخم وتأسيس سجل حافل من الأعمال التعاونية الناجحة عزز رغبة الشركاء في التعاون.
وفي الوقت نفسه، في مدينة شمالية شرقية في الطرف الآخر من البلاد، اجتمعت إدارة الصحة العامة مع 8 قادة لمناقشة طرق توفير الرعاية لأفراد المجتمع الذين لا يمتلكون تأميناً صحياً، وأنشؤوا المشروع التعاوني للرعاية الصحية في إقليم نيو إنغلاند (New England Healthcare Collaborative) الذي يضمّ رؤساء تنفيذيين لثلاثة مستشفيات، بالإضافة إلى كبار القادة من عيادة للصحة النفسية ومركز لصحة الأطفال وشركة تأمين خاصة كبرى. اجتمع الفريق شهرياً على مدى عامين، ولكن نشأت خلافات كبيرة بين أعضائه حول تحديد هدف أساسي يتمثل في "اقتسام عبء" توفير الرعاية دون الحصول على تعويض كافٍ، أو تبنّي مهمة أوسع لتعزيز قطاع الصحة. ووضعوا تقييماً عالي الجودة لاحتياجات الرعاية الصحية المحلية، لكن بسبب عدم اتفاقهم على هدف محدد لم ينفذوا أي مبادرة مهمة لتلبية هذه الاحتياجات. لذلك لم يتولد لديهم شعور بالإنجاز وسرعان ما تلاشت الثقة بين أعضاء الفريق، لكنهم واصلوا حضور الاجتماعات لضمان ألا يُتخذ أي قرار يؤثر في مؤسساتهم دون معرفتهم، في المقام الأول.
كما هو الحال مع كثير من المشكلات الاجتماعية المعقدة الأخرى، لا يمكن لمؤسسة واحدة أو قطاع واحد بمفرده حل مشكلة توفير رعاية صحية ممتازة للجميع، فنشأت مشاريع تعاونية صحية تضمّ مؤسسات عامة وغير ربحية ومملوكة للمستثمرين ومؤسسات مجتمعية في كثير من مناطق الولايات المتحدة بهدف تحسين صحة المجتمع وتقديم الرعاية الصحية. تعتمد المشاريع التعاونية الناجحة على نقاط القوة المشتركة لدى أعضائها لتلبية احتياجات الرعاية الصحية غير المُلباة في المنطقة وتقليل الازدواجية المُكلفة في البرامج والخدمات، وتحسين العوامل الاجتماعية المُحددة للصحة، ومنح الفئات المهمشة إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية.
لكن، لا ترقى جميع المشاريع التعاونية الصحية في الولايات المتحدة إلى مستوى إمكانياتها، ففي حين أن بعض هذه المشاريع التعاونية يتمكن من النمو والاعتماد على نفسه بمرور الوقت، يعاني بعضها الآخر تراجعاً في القدرات والأثر أو ينحلّ كلياً. كيف نُفسر هذا التباين بين المشاريع التعاونية الناجحة والفاشلة؟ أجرينا دراسة على تجارب 19 مشروعاً تعاونياً في مجال الصحة والرعاية الصحية اخترناها بعناية بناء على التنوع الذي أظهرته في تنمية القدرات التعاونية بمرور الوقت، وتباينت الأمثلة بشكل كبير حسب الموقع الجغرافي والوضع الاقتصادي للمجتمع الذي يخدمه كل مشروع ومدة حياته والدور الذي يلعبه في المجتمع. كما اختلفت المشاريع من ناحية مشاركة الممولين؛ عملت 13 مبادرة بتوجيه أطر عمل طورتها مؤسسات تمويل حكومية وغير ربحية، مثل مبادرة بروجكت آكسس (Project Access)، ومبادرة آي آتش آي تريبل إيم (IHI Triple Aim) التابعة لمعهد تحسين الرعاية الصحية، وبرنامج بيكون المجتمعي (Beacon Community Program)، بينما نُفذت 6 مبادرات من دون تنظيم واضح حول أطر العمل القائمة على الممولين.
تبعاً للمقابلات التي أجريناها والأبحاث حول الخلفيات المهنية والثقافية وتحليل البيانات، وجدنا أن جميع المشاركين أصحاب التأثير العالي في المشروع التعاوني يتمتعون بخاصية تطوير القدرة التعاونية وتنميتها، أي قدرتهم على التعاون ودافعيتهم فيه لتحقيق النتائج المرجوة على مستوى المجتمع2. فالقدرة التعاونية هي مورد مجتمعي يُبنى أو يُستنفد نتيجة لطريقة عمل أطراف العمل التعاوني لتحقيق هدف مشترك (أو عدم سعيهم لتحقيقه إطلاقاً). هذا النوع من القدرة أساسي لمعالجة ما يسمى "المشكلات الخبيثة"3، أو التحديات الاجتماعية التي يصعب حلها لأنها قائمة على قضايا متعددة وطارئة ومتضاربة، وهي خارجة عن سيطرة أي مؤسسة بمفردها4.
كيف تُبنى القدرة التعاونية؟ نعلم بناء على الأبحاث السابقة التي أجراها آخرون أن العديد من الدوافع يؤثر في النتائج، لكن العلماء الذين يدرسون المشاريع التعاونية لم يكتشفوا حتى الآن كيف تتحد التفاعلات الحيوية بين الدوافع المتعددة مع مرور الوقت لتوليد نتائج ناجحة أو غير ناجحة، فضلاً عن تقديم التوجيه لقادة المشاريع التعاونية حول الخطوات التي يجب القيام بها وترتيبها؛ لكن بحثنا هذا يفعل ذلك.
طورنا إطار عمل أولياً بالاعتماد على عناصر من الأبحاث الحالية حول المشاريع التعاونية وتحليلنا لطرق تفاعل هذه العناصر لتحدد مسارات المشاريع التعاونية، ثم عدلنا إطار العمل وتحققنا من فعاليته من خلال دراستنا للمشاريع التعاونية التسعة عشر.
أنشأنا بالنتيجة إطار عمل حيوياً للمشاريع التعاونية يدمج الرؤى التي جمعناها حول تطور القدرة التعاونية وإحداث أثر فعال. حدد بحثنا عدداً صغيراً من الخطوات الاستراتيجية الأساسية التي يجب اتخاذها في بداية العمل على تشكيل المشروع التعاوني من أجل إعداده للنجاح، والتي يجب اتخاذها لاحقاً من أجل بناء زخم إيجابي مع مرور الوقت وتجنب المعوقات، وبالمثل، حددنا الديناميات السلبية الواجب تجنّبها. يتمتع عملنا بأهمية كبيرة في المشاريع التعاونية الصحية التي كانت محور بحثنا، لكننا نعتقد أن العديد من نتائجنا ينطبق أيضاً على المشاريع التعاونية التي تعمل على القضايا البيئية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة الأخرى التي لا يمكن لأي مؤسسة أو قطاع في المجتمع حلها بصورة إفرادية.
إطار عمل المشاريع التعاونية الناجحة
يتمثل الأساس المنطقي لإطار العمل الحيوي للمشاريع التعاونية الناجحة التي تضم عدداً من أصحاب المصلحة في أن القدرة التعاونية تتطور تدريجياً ضمن عملية تشبه الحلقة المغلقة؛ تتيح القدرة التعاونية إحداث أثر يحفز بدوره الاستثمار في بناء مزيد من القدرات. وتنشأ القدرة التعاونية -التي تمكّن عمل المشروع التعاوني- من اجتماع دافعية المشاركين مع قدرتهم على التعاون بفعالية، كما يوقع عمل المشروع التعاوني تأثيرات يدركها المشاركون وتؤثر في دافعيتهم للمشاركة فيه وفي قدرته على العمل في المستقبل. هذا النوع من حلقات التقييم يتيح نمو القدرات التعاونية مع مرور الوقت.
ومع ذلك، قد يوقِع عمل المشروع التعاوني تبعات غير مقصودة تشكّل حلقات مغلقة خاصة بها وتعرقل أداء المشروع الفعال ونموه، وتسبب حلقات العرقلة هذه ركود المشروع التعاوني أو حلّه.
لاحظنا أن كل عامل في هذا النموذج له أثر مباشر على العوامل الأخرى، وبالتالي يتأثر كل عامل بمجموعة من المتغيرات التي يجب على القادة إدارتها في أثناء نمو شراكتهم. وكي يحافظ أصحاب المصالح على دافعيتهم في المشروع التعاوني، من الضروري جداً أن يتبنّوا جميعهم هدفاً مشتركاً وتعريفاً موحداً للمشكلة التي يعملون على معالجتها ورؤية واستراتيجية مشتركتين للتغير وقيماً مشتركة حول مستقبل إيجابي وقناعة موحدة حول طريقة إنجاز العمل التعاوني، كما توقع درجة الثقة في التزام الآخرين بالعمل التعاوني لتحقيق المنفعة المتبادلة أثرها في الدافعية.
تتفاعل عدة مكونات فيما بينها للتأثير في قدرة أصحاب المصالح على التعاون وتحقيق أثر. أولاً، يجب أن يتبنى المشروع التعاوني رؤية ذات نطاق ملائم من أجل تحقيق تغيير حقيقي؛ إذ تصف الرؤية الشاملة درجة التغيير الذي يرغب أصحاب المصالح في تحقيقه ويعتقدون أنه ممكن، في حين تتيح الرؤية الأضيق التقدم السريع وتحافظ على تفاؤل المشاركين بشأن قدرتهم على تحقيق الأثر، إلا أن تبنّي رؤية ضيقة للغاية يعني المجازفة بتجاهل القضايا السياقية الحاسمة والعوامل السببية والقيود، ويؤدي إلى تحقيق إنجازات محدودة فقط، وإلهاء الأعضاء عن السعي لتحقيق مزيد من التغييرات المثمرة والصعبة التي تؤدي إلى تحسين صحة السكان وحصولهم على الرعاية الصحية.
ثانياً، يحتاج المشروع التعاوني إلى بنية تحتية مناسبة ليحرز تقدماً في المهام المترابطة؛ يشير الباحثون إلى هذه البنية التحتية غالباً باسم "المؤسسة الأساسية"، وهي توفر الدعم الإداري الأساسي لمشاريعها التعاونية وتعقد الاجتماعات وتنسق إجراءات أصحاب المصالح وتساعد على ضمان إحراز المشروع التعاوني تقدماً نحو أهدافه. تحتاج المؤسسة الأساسية أو أي هيكل إداري آخر إلى الإدارة المناسبة والموظفين اللازمين لدعم حوكمة الجهود وطرق جمع المعلومات الرئيسية ومواءمتها وتحديد المهام المشتركة وتنسيقها. كما أن المؤسسات الأساسية مهمة للغاية في تحقيق الأثر الجماعي الذي يُعرّفه جون كينيا ومارك كريمر على أنه "التزام مجموعة من الأطراف الفاعلة المهمة من مختلف القطاعات بجدول أعمال مشترك في سبيل حل مشكلة اجتماعية محددة". 5 ويعتمد تطوير دعم البنية التحتية على رغبة المشاركين في استثمار موارد المبادرة بطرق منصفة للأعضاء دون الإفراط في الاعتماد على مصدر تمويل واحد.
ثالثاً، يحتاج المشروع التعاوني إلى هيكليات مناسبة للمكافآت. يجب أن يلمس الأعضاء فائدة زيادة الاستثمار في المشروع التعاوني، ويدركوا أن النتائج الإيجابية بالنسبة للمجتمع هي نتائج إيجابية لهم أيضاً.
ويمكن للعلاقات السببية ذات الحلقة المغلقة أن تعزز تنمية القدرة التعاونية ونموها. فالمشاريع التعاونية التي ينتج عنها تأثير قابل للقياس تؤدي أيضاً إلى زيادة الفوائد العائدة على الأعضاء من العمل التعاوني وتُحفز مشاركتهم أكثر. والتأثير القابل للقياس يؤدي إلى آثار إيجابية أخرى تُعزز القابلية للتعاون، مثل احتمال البحث عن مورد جديدة لتمويل بنى تحتية إضافية أو بنائها لتتيح تنفيذ مزيد من المشاريع التعاونية والإنجازات.
يوضح أحد المشاريع التعاونية القائمة منذ أمدٍ طويل في جنوب شرق الولايات المتحدة هذه العلاقات؛ انطلقت مؤسسة بيتشتري ريجنال هيلث كاونسل (The Peachtree Regional Health Council)، أو (ذا كاونسل) اختصاراً، من مشروع تعاوني بين مؤسسات متعددة لمساعدة أفراد المجتمع المحتاجين في الحصول على الرعاية الصحية. ضمت ذا كاونسل مندوب الصحة العامة ووكالات الخدمات الاجتماعية و3 مستشفيات ومركزاً صحياً مجتمعياً ومعهد السياسات الصحية التابع للجامعة، وحددت دورها على أنها مركز تفكير وفريق توجيهي يتمثل دوره القيادي في وضع تصورات لمجموعة من المبادرات المترابطة وحشد الأشخاص والتمويل لتنفيذها. سرعان ما نظمت المؤسسة أعضاءها لإطلاق مبادرات تتعلق بإتاحة الوصول إلى الرعاية الصحية وإشراك المواطنين المحليين وتمكينهم بهدف تحسين صحة المجتمع ككلّ. حققت مؤسسة ذا كاونسل نجاحاً سريعاً ببضعة مشاريع كانت قيد التنفيذ وبالتمويل المشترك من أعضاء الشراكة، وشكّلت نموذجاً تحتذي به المؤسسات المحلية الأخرى، إذ إن طريقتها في إنجاز الأعمال وأسلوبها في إشراك عدد أكبر من المواطنين جذبت مزيداً من الشركاء والموارد من مؤسسات تتبنّى قيماً مشابهة. أدى سجل الإنجازات هذا إلى زيادة الثقة في المؤسسة وكفاءتها، ما أدى إلى إنجاز كثير من المبادرات التي أسهمت في تحسين حصول المجتمع على خدمات الرعاية الصحية ومشاركته في تعزيز الصحة.
بمرور الوقت، استمدت ذا كاونسل قوتها من الموارد التي استثمرتها المؤسسات الشريكة، وحشدت المزيد من الدعم من خلال جمع بيانات أثر مشاريعها وتبادلها مع الشركاء، ووفرت الدعم الأساسي الذي احتاجت إليه المبادرات الضرورية الكثيرة التي تنفذها. يواصل هذا المشروع التعاوني القيادة النشطة للمبادرات الصحية في المجتمع، مسترشداً بهدفه على اعتباره حاضنة لمجموعة من المشاريع.
ومثل أي عملية حيوية، يمكن لهذه العلاقات أيضاً أن تؤثر سلباً بعضها في بعض بتعزيز حلقات التقييم التي تسبب تدهوراً متسارعاً في أدائها؛ فالفشل في تحقيق التأثير يُضعف دافعية أصحاب المصالح لمواصلة مشاركاتهم.
4 مسارات محتملة
تطورت المشاريع التعاونية التي درسناها وفق مجموعة من المسارات، ويتوفر عدد من الأمثلة التي توضح دور الاستراتيجيات الصحيحة في تحقيق نمو مستدام في القدرة التعاونية والأثر، بينما توضح أمثلة أخرى دور الفشل في تنفيذ هذه الاستراتيجيات و/أو مواجهة العقبات التي تعرقل النمو في منع تطور المشروع التعاوني أو تعثره بعد النجاح الأولي.
المسار الأول لا ينطلق أبداً. يمكن أن ينشأ هذا من الافتقار إلى الشروط الأولية التي تعزز إما الدافعية وإما القدرة على التعاون وليس كلتاهما معاً. من المشاريع التعاونية في دراستنا الجمعية التعاونية لرعاية مرضى السرطان في مستشفى ميدويست تو (Midwest Two Hospital Cancer Care Collaborative)، الذي فشل لأنه لم يبنِ الثقة الكافية لانطلاقه. جمع فريق من الأطباء في مدينة صغيرة في الغرب الأوسط قادة من المستشفَيَين المحليين وغيرهما من المجتمعات الطبية والتجارية لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم الاتفاق على التشارك في بناء مركز علاجي بدلاً من التنافس وزيادة الإنفاق بشكل كبير.
لكن المشروع كان مضطرباً منذ البداية؛ لم يسبق أن شاركت المستشفيات في عمل تعاوني من قبل، ولم يكن لديها دافعية قوية للعمل معاً لصالح المجتمع، كما أن الفريق لم يتضمن أصحاب المصلحة من شركات التأمين التجاري أو برنامج الرعاية الطبية، ميديكير (Medicare)، ممن خاضوا على الأرجح محادثات حول الحاجة إلى ضبط تكاليف الرعاية الصحية لمرضى السرطان. لم يتمكن الفريق من تطوير رؤية مشتركة طوال عامين، ثم كشفت إحدى المستشفيات أنها كانت تطوّر سراً خططاً لإنشاء مركز جديد لعلاج السرطان، وتكفّلت هذه المعلومة بتدمير ما تبقى من الثقة بين الشركاء، وانحلّ الفريق بعدها.
يمثل مشروع ديكسي سولو كاونتي التعاوني (The Dixie Solo County Collaborative) التعاوني مثالاً تحذيرياً آخر. كانت مجموعة أعضائه مثيرة للإعجاب، إذ ضمت عدداً من المستشفيات الكبرى ومراكز الرعاية الصحية ومجموعة واسعة من مؤسسات الخدمات الاجتماعية، وأعضاء مجتمع الأعمال المحلي والخطط الصحية وممثلي المجتمع من رجال الدين، وشكلوا جميعهم فريقاً قيادياً واسع النطاق. كانت هذه المجموعة حريصة على العمل التعاوني لتعزيز صحة السكان على مستوى المجتمع في جزء من مبادرة أكبر لتعزيز قدرة المنطقة على جذب استثمارات الشركات وموظفيها. وعلى عكس المثال السابق، لم يركز قادة هذه المجموعة فقط على تطوير مؤسساتهم، بل تبنّوا أيضاً رؤية مشتركة للتغيير المجتمعي.
إلا أن الفريق فشل في تحديد رؤية مشتركة للمشكلات التي يجب أن يعالجها ولم يمتلك منذ البداية بنية تحتية أساسية لدعم عمل المشاريع. أسهم المشاركون بقليل من التمويل بأنفسهم، وسعوا لتأمين تمويل خارجي كخطوة أولى رئيسية، ولكنهم بدلاً من العمل معاً لوضع اقتراح واحد للحصول على التمويل، قدموا 3 مقترحات كانوا واثقين من أنها ستضمن حصولهم على التمويل، ولكن لم ينجح أي من المقترحات وفقد الفريق الزخم.
ثم نفذ أعضاء الفريق مشاريع متفرقة من دون تركيز مشترك حقيقي، ثم أعيد إطلاق المشروع التعاوني من جديد بعد أن وافقت مؤسسة مختلفة على تبنّيه. ولكن الفريق بعد إعادة تشكيله واصل نهجه المجزأ في متابعة المشاريع المستقلة، وطوّرت إحدى مجموعات العمل المنفردة الثلاث استراتيجية مركزة، وحصلت على التمويل وأحرزت تقدماً ملموساً، لكن مجموعتي العمل الأخريين فشلتا في إحراز تقدم. وبعد مرور عامين، توقف العديد من أصحاب المصالح عن حضور الاجتماعات ولم يبق في المشروع التعاوني سوى مستشفى واحد، واختُصرت الرؤية الشاملة التي عزمت المبادرة على تحقيقها إلى التركيز على المستشفى لتقديم الرعاية الصحية.
تشي هذه البدايات الفاشلة بانعدام الثقة وضعف صياغة الرؤى والاستراتيجيات المشتركة، فالعلاقات التي يغلب عليها الشك وانعدام الثقة محكومة بالفشل. لضبط هذه الديناميات بصورة مسبقة، يمكن للمنظمين تحديد أصحاب المصالح المشاركين في حل المشكلة، أو الذين يجب أن يُشاركوا، وإجراء مقابلات معهم قبل محاولة تشكيل الفريق. ستكشف هذه الخطوة عن التوتر الذي قد يتولّد بين الأعضاء المحتملين ليأخذه المنظمون في الاعتبار ويتحققوا من إمكانية معالجته ويحددوا طرق المعالجة قبل بدء أعمال المشروع التعاوني.
توضّح هذه الحالات أيضاً الطبيعة الحساسة تجاه عامل الوقت في عملية صياغة الرؤية والاستراتيجية المشتركتَين. ففي المراحل الأولية لمبادرة ما، يجب أن ينجح المنظمون في توضيح صورة المشكلة في أذهان المشاركين وإقناع الجميع بأن العمل التعاوني على معالجة المشكلة فعال أكثر من اتخاذ إجراءات فردية. ويستطيع المنظمون المساعدة في تهيئة المشاركين لهذه الخطوة عبر توجيههم في عملية جماعية لجمع المعلومات حول مشكلات المجتمع وتحليلها، فعندما ينشأ لدى المشاركين فهم مشترك للوضع الحالي ومخاطره وعيوبه وفرصه، سيستعدون بصورة أفضل للعمل معاً على وضع الاستراتيجيات.
المسار الثاني المحتمل هو النمو الذي يتبعه التعثّر والفشل يمكن شرح هذا المسار من خلال مجموعة من آليات التعزيز التي تساعد نمو المشروع التعاوني إلى درجة ما، والعوائق التي تعرقله. شهدت 6 مشاريع تعاونية فترات نمو تبِعتها عثرات، ويمكن أن يؤدي تعثر القدرة التعاونية إلى فشل المشروع التعاوني وانحلاله في حال أدت آليات التعزيز إلى تنشيط تراجعه وتسريعه.
نجح المشروع التعاوني، ويست كوست ريجونال كولابوراتيف (The West Coast Regional Collaborative)، في البداية في جمع أصحاب المصالح وبناء مؤسسة أساسية. كان الفريق متنوعاً ويمثل أصحاب المصلحة بصورة ملائمة، ويضمّ قادة من المستشفيات والعيادات المحلية وأنظمة رعاية الصحة العامة والصحة النفسية في المقاطعات، إلى جانب واضعي السياسات ومجتمع الشركات والمدافعين عن حقوق المرضى. كان لدى هؤلاء القادة نزعة قوية للتعاون على تحسين الوصول إلى الرعاية الصحية وبرامج التأمين مع الاهتمام بالصحة والرفاهة أيضاً، ورأوا أنهم يقودون المشروع بالنيابة عن المجتمع واستثمروا الوقت والمال فيه، وحققوا نتائج إيجابية للمجتمع ولأنفسهم على حد سواء.
حصل الفريق على منحة مالية كبيرة للعمل على تحسين الوصول إلى الرعاية من خلال برنامج مشترك للتأمين، لكنه تعثر بعد ذلك عندما انقطع التمويل الحكومي لبرنامج الوصول إلى الرعاية الصحية. كانت كافة المشاريع الأخرى متعلقة بهذا التمويل، ما جعل جدول أعمال المشروع بمجمله يتعثر، فتولى المستشفى الرئيسي إدارة برنامج الوصول إلى الرعاية الصحية الجديد الذي أنشأه الفريق، ما أثار الشكوك لدى بقية أصحاب المصالح وزعزع الثقة لأن بعضهم اعتقدوا أن المستشفى كان يسعى لتحقيق منفعته الذاتية. ثم حاول الفريق إعادة إثبات نفسه عن طريق طرح مبادرتين جديدتين: إصلاح برنامج المساعدة الطبية الأميركي (مديكيد)، وبرنامج لتبادل معلومات الرعاية الصحية. وعندما فشلت كلتا المبادرتين، دخل الفريق في حالة سبات، وتجمع بعض أعضائه لاحقاً في فرق مختلفة بقيادة أصحاب المصالح الذين تم استبعادهم من الفريق الأول.
في المثال الآخر، تلقى الرئيس التنفيذي لأحد المستشفيات منحة قدرها 150 ألف دولار أميركي لتقديم الرعاية للمحرومين وشكّل تحالف ميد أتلانتيك الصحي (Mid-Atlantic Health Alliance)، فجمع قادة عدد من مؤسسات تقديم الخدمات في المنطقة، وأطلق رفقتهم برامج رعاية وقائية جديدة. لكن التحالف تعثّر عندما نفد التمويل الأولي، ولم يتمكن مجلس الإدارة من التوصل إلى طريقة لاستمرار المبادرة؛ إذ رفضت المستشفيات الأعضاء المشاركة في التمويل لأنها تعتبر أن برامج الرعاية الصحية الجديدة تمثل منافسة محتملة. وللأسف، لم يجمع التحالف البيانات اللازمة ولم يتواصل على نحو فعال مع المستشفيات حول دور برامجه في توفير المال عن طريق الحدّ من زيارات غرف الطوارئ المُكلِفة، وكان ذلك سيعيد بناء الثقة ويحفز المزيد من التعاون.
مر التحالف بفترة تعافٍ قصيرة عندما اتّحد عدد كبير من مؤسسات الخدمات الطبية والمجموعات المحلية الأخرى، مثل الخدمات المهنية ومقدمي الخدمات لأصحاب الهمم (ذوي الاحتياجات الخاصة)، لتوفير شبكة أمان توفر كل ما يحتاج الناس إليه، مثل تقديم الرعاية الصحية للأشخاص غير المشمولين ببرامج التأمين وتقديم رعاية الأسنان للأشخاص الذين لا يستطيعون دفع التكاليف. كما عمل المشروع التعاوني مع المستشفيات المحلية، إلا أنه لم يحصل على التمويل منها، بل عمل على تحويل احتياجات المجتمع إلى مهام مستقلة يمكن أن يلبيها بطلب الحصول على مجموعة من المنح الصغيرة من المصادر الخيرية على مستوى الولاية والمقاطعة والمصادر الخيرية المحلية. أدت الأنشطة التعاونية ومصادر التمويل وتحقيق أثر صحي جديد إلى جذب أطراف جديدة إلى الشراكة وحفزها على التعاون وشجع أصحاب المصالح على استثمار الموارد. أعقبت ذلك فترة نمو طويلة، لكنها للأسف انتهت بتعثّر كبير، إذ تسبب العجز عن توفير تمويل مستدام منفصل عن المنح القصيرة الأجل في معاناة المشروع التعاوني مشكلات مالية مستمرة وقيّد قدرته على تقديم الخدمات التي كان يقدمها.
توضح مثل هذه الحالات ما يمكن أن يحدث عندما لا يستمر القادة بتحسين قدرة أطراف المشروع التعاوني على الاتفاق على رؤية مشتركة، وعندما يعجزون عن صياغة أهداف نهائية يمكن الاعتماد عليها في قياس التقدم ويفتقرون إلى الموارد التي يحتاجون إليها لاستدامة الجهود القائمة. ومن الممكن أن يتعثر المشروع بعد انطلاقته القوية إذا التزم مجموعة من المهام الفرعية التي تفوق قدرة بنيته التحتية الإدارية أو إذا لم يوفر مصادر تمويل مستدامة وبدأ يعاني نقصاً في المال، ثم يؤدي فقدان الزخم إلى الانزلاق في دوامة تدهور سريع تولّد انخفاضاً كبيراً في الحافز على مواصلة العمل التعاوني. يجب على قادة المشروع التعاوني التنبّه إلى ضرورة الاهتمام بالتفاعل الحيوي بين هذه العوامل مع مرور الوقت، إذ ينطلق العديد من المشاريع التعاونية بتمويل أولي مبدئي ثم يقع في فخ أداء العمل ويهمل تخصيص الوقت الكافي للتخطيط على المدى الطويل؛ يمكن للمراجعة الدورية لغاية المشروع التعاوني وسبب وجوده مساعدة القادة على مواءمة أولويات الاستراتيجية وتمويلها وقدراتها.
يتضمن المسار الثالث تعثرات مبكرة تتبعها مرحلة تعافي. خذ مثلاً مشروع ميدويست هيلث إنفورميشن إكستشينج (The Midwest Health Information Exchange Collaborative) -إكستشينج اختصاراً- الذي شهد نجاحاً أولياً بتركيز محدود على توفير الوصول إلى الرعاية الصحية للمحرومين. تقدم أعضاء الشراكة الأولية بطلب إلى حكومة الولاية للحصول على منحة لمرحلة التخطيط بعدما شجعهم قائد مجتمعي ذو شعبية واسعة للمشاركة في المشروع التعاوني، واستخدموا هذه المنحة لتطوير استراتيجية واسعة النطاق لرفع سوية الرعاية الصحية في المنطقة. جذب حجم رؤية مشروع إكستشينج وحضوره إلى جانب المنحة الحكومية شركاء إضافيين من قادة المجتمع وقادة قطاعات الصحة العامة، وعزز هذا الدعم بدوره الحافز على التعاون. ولكن بدأ تدهور المشروع فجأة حين سعى للحصول على موارد لإطلاق مزيد من المبادرات ووسع نطاق تركيزه ليتجاوز توفير الرعاية للمحرومين بهدف طلب الحصول على منحة ضخمة بموعد نهائي قريب، وحين فشل في الحصول على المنحة أدى نقص التمويل سريعاً إلى عجز قدرات بنية المشروع التحتية عن الاستمرار في تنفيذ مجموعة كبيرة من المبادرات.
تعافى المشروع التعاوني في نهاية المطاف بتقليل التزاماته لتقتصر على بضعة مشاريع مشتركة يمكن تنفيذها بموارد محدودة وبتركيز المؤسسة الأساسية عليها. كما أدى مشروع إكستشينج التعاوني دور المنظِّم إذ ربط قادة القطاع الصحي الآخرين في المجتمع وحملهم على تنفيذ مشاريع إضافية بصورة مستقلة عن تمويل المشروع الأساسي، وأدى نجاح هذه المبادرات في توسيع الوصول إلى الرعاية الصحية وتحسين النتائج الصحية عموماً إلى رفع مصداقية المشروع ومكنه من التقدم بطلبات للحصول على تمويل من مصادر أخرى وتوسيع بنيته التحتية لدعم العمل المستقبلي تحت إدارته.
توضح لنا المشاريع التعاونية التي تعثرت ثم تعافت أهمية التوافق بين البنية التحتية (مثل المؤسسة الأساسية) ونطاق الأنشطة التي ينفذها المشروع التعاوني، إذ قد يبدو التزام مجموعة كبيرة من المشاريع مُجزياً لتعزيز نمو المشروع التعاوني، لكنه أيضاً قد يحدّ من هذا النمو إذا لم تتمكن البنية التحتية من توفير مستويات الدعم والتنسيق اللازمة. إذا تبنى المشروع رؤية توسعية غير مركزة لما يمكنه تحقيقه، فمن الممكن أن يولّد مجموعة مُبالغ فيها من المشاريع، وسيؤدي توزيع الموارد على العديد من المبادرات المختلفة إلى افتقارها كلها إلى التمويل الكافي لتحقيق الأثر.
إذا كان أصحاب المصالح متحمسين لتنفيذ المبادرات التي تختلف عن مجال التركيز الرئيسي للمشروع التعاوني فسيتمثل الحل الأفضل في مساعدتهم على تأمين موارد إضافية عوضاً عن توزيع موارد المشروع.
لتجاوز التعثرات الأولية مثل التي واجهها مشروع إكستشينج، أو لتفاديها منذ البداية، يمكن اعتماد أساس التركيز الاستراتيجي الانتقائي بدرجة أكبر بناءً على المبادرات ذات العائد الأكبر التي تعزز الروابط بين أصحاب المصالح. إذا كان أصحاب المصالح متحمسين لتنفيذ المبادرات التي تختلف عن مجال التركيز الرئيسي للمشروع التعاوني فسيتمثل الحل الأفضل في مساعدتهم على تأمين موارد إضافية عوضاً عن توزيع موارد المشروع.
المسار الرابع هو النمو المستدام لقدرة المشروع التعاوني، ولاحظناه في 7 مشاريع. لاحظنا أن هذا المسار ينتج عادة عن الموازنة الدقيقة بين الاستراتيجيات التي تستفيد استفادة كاملة من آليات التعزيز لدعم نمو المشروع التعاوني مع تجنب العوائق والعواقب غير المقصودة أو تقليلها قدر الإمكان.
بدأت بعض المشاريع التعاونية ذات مسارات النمو المستدامة بمشاريع صغيرة اتفق عليها كافة المشاركين أو غالبيتهم ثم انتقلوا إلى مشكلات جدلية بدرجة أكبر، مثل مسألة التنافس بين المستشفيات، وذلك بمجرد انتهائهم من بناء الثقة وتحقيق الأثر الفعلي والتعلم من التجارب والخبرات وتحقيق القيمة في المجتمع. تمكن بعض المشاريع التعاونية من الحصول على موارد إضافية تشمل التمويل والأعضاء والموظفين الجدد، بقياس التأثيرات والفوائد التي حققها المشروع في قطاع الصحة والرعاية الصحية ونشرها وإيصالها إلى المجتمع. وهذا النوع من النمو لا يظهر بنمط منتظم، بل يكون غالباً أشبه بصعود السلم أو على شكل سلسلة من التعثرات الصغيرة والتعافيات التي حققت له صعوداً مطرداً مع مرور الوقت.
خذ مثلاً المشروع الأقدم بين الأمثلة التي درسناها، مشروع روكي ماونتن هيلث كولابوراتيف (Rocky Mountain Health Collaborative)، إذ بدأ بقاعدة واسعة ومتنوعة من أصحاب المصالح. وافقت المؤسسات الشريكة على المشاركة في نظام ضريبي داخلي ضمن خطة صحية محلية، ووفر هذا النظام الضريبي تمويلاً مستداماً لدعم البنية التحتية والإدارة التشغيلية لمبادرات الرعاية المبكرة. كما أطلق المؤسسون مؤسسة غير ربحية لتلقي الأموال، ووظّفوا موظفين لقيادة المبادرات الصحية، وجمعوا البيانات حول الصحة وتكاليف الرعاية الصحية ومدخراتها.
بالإضافة إلى ذلك، كان الكيان الجديد قادراً على إعادة الأموال إلى شبكة المشاركين، وبالتالي خلق دورة إيجابية من التحفيز لدى الأعضاء لدعم المشروع التعاوني. كما مكّنت البنية التحتية الأعضاء من إطلاق مجموعة موسّعة من المبادرات الصحية، وساعد العديد منها في تخفيض تكاليف الرعاية مع توسيع إمكانية الوصول إليها. وفي نهاية المطاف، قادت هذه الدورة المحمودة المشروع التعاوني لتوليد نتائج صحية ممتازة مع الحفاظ على واحد من أدنى معدلات تكاليف الرعاية الصحية للفرد في البلاد. يعزو قادة هذه المبادرة نجاحهم إلى ممارسة التفكير في ما حققوه وما ساهم في هذه الإنجازات والعوائق التي واجهوها، ثم تعديل الأهداف المشتركة بما يتوافق مع ذلك لضمان التزام كافة الشركاء بنجاح المشروع التعاوني.
توضح قصص النجاح هذه أهمية استخدام التأثير الأولي لتعزيز قدرة المشروع التعاوني على إحداث أثر إضافي، وتبدأ هذه الاستراتيجية بقياس التأثيرات وتوضيحها لأصحاب المصالح والمجتمع ككل بما فيه من ممولين محتملين ومشاركين جدد. كما يجب على المشروع التعاوني ومؤسسته الأساسية التوصل إلى طريقة للاستفادة من الموارد الإضافية عن طريق تخصيص أجزاء من المنح التي تدعم المؤسسة الأساسية على وجه التحديد، أو يمكن تأمين الموارد من نظام ضريبي داخلي يوفر فيه بعض أصحاب المصالح تمويلاً مستداماً. ويمكن أن تأتي هذه الأموال مثلاً من زيادة الإيرادات أو خفض التكاليف الناتج عن تأثيرات المشروع التعاوني (مثل المدخرات الناتجة عن برامج الصحة الوقائية)، علماً أن ترتيبات المدخرات المشتركة تنتشر بصورة متزايدة في برامج مثل مؤسسات الرعاية صاحبة المسؤولية (ACOs). تضم هذه المؤسسات مجموعات من مقدمي الرعاية الصحية في منطقة معينة، وهي تعمل بميزانية إجمالية ثابتة، وكلما ازدادت كفاءتها ساعدت على ادخار مزيد من الموارد التي تستفيد منها هي ومقدمي الخدمات.
استراتيجيات لتنمية القدرة التعاونية
كما رأينا، أظهر بحثنا في إطار العمل الحيوي وقدرته على تشكيل المسارات المختلفة للمشاريع التعاونية دروساً مهمة يمكن لقادة المشاريع التعاونية تعلمها، ولاحظنا عموماً 4 استراتيجيات محددة لتطوير المشاريع التعاونية الناجحة واستدامتها.
أولاً، يجب أن يبدأ المشروع التعاوني بخلق الظروف اللازمة للنجاح. يجب أن يبدأ بدعوة الجهات الفاعلة التي تمثل مختلف الجهات المعنية بالمشكلات الصحية الرئيسية التي تواجه المنطقة التي تخدمها، ويحشد القدرات اللازمة للتعامل معها، وما إن يجتمع أصحاب المصالح، يجب عليهم إنشاء هيكليات حوكمة تضمن إيصال أصوات جميع المشاركين واحترام مصالحهم. كما سيؤدي توزيع حقوق اتخاذ القرار على نحو عادل إلى بناء الثقة، وكذلك تبنّي الأهداف والأولويات والمقاييس التي يضعها الأعضاء بصورة مشتركة، ويجب على الأعضاء صياغة هدف نهائي مشترك للمجموعة كلها، وغايات يجب العمل بشكل جماعي على تحقيقها في سبيل تحقيق الهدف النهائي المشترك. ثم يجب على المؤسسات الأعضاء تحديد الفرص لمواءمة أولوياتها وحوافزها مع هذه الغايات، وهذا يشمل هيكليات المكافآت المؤسسية.
ثانياً، يجب على المشاريع التعاونية الجديدة اختيار مشاريعها الأولية على نحو استراتيجي. يجب أن تبدأ بإنشاء عملية متقاربة لاختيار الأولويات والمشاريع الأولية، ويجب أن توضَع هذه العملية قيد التنفيذ بسرعة، وإلا فسيفقد الأعضاء حافزهم واهتمامهم، كما يجب أن يختار المشروع التعاوني المبادرات التي تتطلب مشاركة عدة مؤسسات ولا يمكن لأي مؤسسة تنفيذها بمفردها، ما سيعزز الهدف النهائي للمشروع التعاوني والمؤسسات الأعضاء، وهذا بدوره يمكن أن يُظهر تقدماً وفوائد قابلة للقياس خلال فترة زمنية معقولة وباستخدام الحد الأدنى من الموارد. وبعد اختيار المبادرات، ينبغي للمشروع التعاوني أيضاً وضع نظام تتبع لقياس التقدم وضمان أن تحقق هذه المبادرات الأولية أهدافها، كما يجب على المشروع التعاوني الإعلان عن نجاحاته المبكرة للأعضاء وأفراد المجتمع لتحفيز استمرار الدعم.
وبما أن المشاريع المبكرة تنتج فوائد مُدركة وتحفز الأعضاء على المشاركة والالتزام بدرجة أكبر، يجب على أعضاء المشروع التعاوني بعد ذلك إجراء سلسلة من الاستثمارات التي تساعد على توسيع القدرات وتمهيد الطريق لمبادرات أكثر طموحاً، وينبغي أن توفر هذه الاستثمارات أساساً للتأثير المستدام للتعاونية. كما يجب أن يبدأ المشروع التعاوني بإنشاء بنية تحتية (مؤسسة أساسية) يمكنها تنسيق جهود الأعضاء والمبادرات المختلفة، ويتعين على هذه المؤسسة الأساسية أداء الوظائف المهمة أو تعيين الموظفين لتأديتها، مثل البحث عن التمويل والإعلان عن إنجازات المشروع التعاوني. وفي حين أنه من الممكن استعارة الموظفين والموارد الأخرى من المؤسسات الأعضاء، يجب على المؤسسة الأساسية أن تحدد المسؤول عن العمل بوضوح.
إحدى الوظائف الأساسية لهؤلاء الموظفين هي المساعدة على تشكيل مجموعة متنوعة من الممولين الذين يسمحون للمشروع التعاوني بتجنب الاعتماد المفرط على مصدر واحد للدعم، فالمبادرات الناجحة التي تجتذب التمويل من مصادر خارجية تعزز دافعية الأعضاء على الاستمرار بالمشاركة في المشروع والاستثمار فيه وفي مبادراتها بأنفسهم.
ثالثاً، يجب على المشروع التعاوني الناجح مراجعة طرق عمله باستمرار. هل يستمر الأعضاء بالمشاركة بفعالية؟ هل يدعمون أهداف المشروع التعاوني؟
كما يجب على المؤسسة الأساسية أن تطور أنظمة للبحث وتحليل البيانات. ويمكن لهذه الأنظمة على سبيل المثال أن تسلط الضوء على مشكلات المجتمع التي تؤثر في العديد من المشاركين ولا يُمكن لمؤسسة واحدة أو قطاع ما حلها بمفرده، وسيساعد ذلك المشروع التعاوني على انتقاء المبادرات ذات الأولوية العليا. وبعد ذلك، يُمكن لطاقم عمل المؤسسة الأساسية تحديد المبادرات التي تعالج هذه المشكلات، ووضع استراتيجيات مستندة إلى الأدلة وتحديد أفضل الممارسات التي استخدمتها مجتمعات أخرى. بمجرد اختيار الموظفين لهذه المبادرات، يمكن للأنظمة تتبع تقدمهم، ومساعدتهم على التنسيق فيما بينهم بشكل جيد والالتزام بجداول المواعيد، وتمكين المشروع التعاوني من إعلان المنفعة المجتمعية الناتجة.
رابعاً، يجب على المشروع التعاوني بدء عملية المراقبة الذاتية منذ البداية وإعادة النظر فيها طوال مدة حياته للتأكد من أنها تحظى بالدعم الكافي. يجب على المشروع التعاوني الناجح مراجعة طرق عمله باستمرار. هل يستمر الأعضاء بالمشاركة بفعالية؟ هل يدعمون أهداف المشروع التعاوني أم يحمون المصالح الشخصية لمؤسساتهم؟ هل البنية التحتية والعمليات مهيأة للعمل على مجموعة المبادرات المطلوبة هذه؟ هل يفهم الأعضاء وجهات نظر قيادات الأنظمة، وهل يرون أن أثر المشروع التعاوني يحفز التغيير ضمن مجموعة كبيرة من القوى التي تؤثر في صحة منطقة معينة؟ هل تُنفّذ عمليات تعتمد على النجاحات السابقة وتنطلق منها لتنمية قدرة المشروع التعاوني؟ يجب أن تكون الإجابة عن هذه الأسئلة جزءاً من عملية تعلم تبني القدرة على التعاون بفعالية بناءً على التفكير المتمعّن في تجارب التعامل مع مهام المشروع التعاوني . تشكّل "حلقة التعلم" هذه عنصراً مهماً من حلقة النمو الأكبر التي تدفع قدرة المشروع التعاوني.
العثرات التي تقوض القدرة التعاونية
أشار بحثنا أيضاً إلى عدد من المشكلات التي يمكن أن تواجهها المشاريع التعاونية وتؤدي إلى فشلها. وأحد العوائق التي يمكن أن تربك المشاريع التعاونية في مرحلة مبكرة هو عدم القدرة على التركيز على المبادرات واختيار المبادرات التي سيتم تنفيذها، ويمكن أن ينتج هذا الفشل عن اتساع الرؤية أكثر من اللازم أو عدم وضوحها. تؤدي عدم القدرة على التركيز إلى الإعياء من الحوار وانخفاض الدافعية وانسحاب المؤسسات الأعضاء، وعلى العكس من ذلك، فإن الرؤية الضيقة للغاية تحدّ من نطاق المشروع التعاوني وأثره المحتمل.
يخضع اختيار مجال التركيز لتأثير مجموعة من المقايضات التي تعقّد العملية، إذ يمكن أن يؤدي تضمين مجموعة أوسع وأكثر تنوعاً من الأعضاء إلى توسيع نطاق المشكلات والحلول، ولكن على النقيض من ذلك، يمكن أن يجعل التركيز على مجموعة المهام التي تسهل إدارتها أمراً أكثر صعوبة. وفي المراحل المبكرة، قد ترغب المشاريع التعاونية في تبني مبادرات تحقق التوازن بين إرضاء مصالح المشاركين المتنوعة وتجنب مخاطر عدم القدرة على التركيز، هذا يعني ضرورة أن تقع المبادرات ضمن نطاق ما يمكن تحقيقه، حتى لو بدت في البداية محدودة أكثر مما يرغب فيه أصحاب المصالح من حيث الأهمية والمنفعة المجتمعية.
يمكن أن يدير المشروع التعاوني مبادراته بطرق تخلق المشكلات أيضاً، إذ ينفّذ عدداً كبيراً من المهام (أو مهام واسعة النطاق جداً) بما يتجاوز ما يمكن أن تدعمه بنيته التحتية، وهو ما يتسبب في تضاؤل الأثر وتقويض الإنجازات المتصورة. ويمكن أن يتولى المشروع التعاوني أيضاً المهام التي تتطلب درجة أعلى من الاعتماد المتبادل بين المؤسسات أكثر مما يمكن لبنيته التحتية التعامل معه، ما يسبب ضعف التنسيق وتضاؤل الأثر. كما قد يفرط المشروع التعاوني في التفاؤل ويضع توقعات أعلى من المعقول لإنجاز المهام، وعندما يفشل في تحقيق هذه التوقعات، تتضاءل الفائدة المتصورة وتنخفض الدافعية للمشاركة في العمل التعاوني.
علاوة على ذلك، تعثّر العديد من المشاريع التعاونية التي درسناها بسبب عجزها عن تأمين تمويل متنوع ومستدام. وفي بعض الحالات، اعتمد المشروع التعاوني على منحة واحدة كبيرة لم تتحقق أو لم تكفِ المشروع التعاوني الذي بقي بحاجة إلى مزيد من الدعم. ويؤدي نقص التمويل الذي يقيد الموارد المتاحة لتنفيذ البرامج ويعرقل تطوير البنية التحتية إلى إضعاف قدرة المشروع التعاوني على تحقيق أثر قابل للقياس في صحة المجتمع أو تحقيق فوائد للمشاركين.
القيادة الحيوية
الدرس الأساسي الأخير من عملنا هو أهمية تبنّي القادة عقلية حيوية. يقترح نموذجنا نهجاً قيادياً مستنيراً من وجهة نظر منهجية وحيوية مفادها أن قدرة المشروع التعاوني تنبع من عوامل متعددة يؤثر بعضها في بعض ضمن حلقات التقييم المتداخلة، فالقيادة التي تغير سمة واحدة تخلق عواقب مقصودة وغير مقصودة أحياناً في أجزاء أخرى من النظام، وتلك بدورها تؤثر على السمة الأولية6.
تعدّ العقلية الحيوية أسلوباً قيادياً مختلفاً عن الأسلوب الذي يعتمد قوائم مراجعة خطية تتضمن إجراءات مقترحة؛ مثلاً، قد يجذب التفكير بعقلية قائمة المراجعة انتباه القائد إلى ضرورة تأمين تمويل لبدء مشروع ما، وفي المقابل تطالب العقلية الحيوية القائد بتمويل مشروع يولد القدرة على جذب التمويل المستقبلي للمشروع التعاوني لأن نجاح المشروع يولّد استثمارات إضافية أو يجذبها. كما أن أنظمة القياس المشتركة مهمة للغاية، ووجهة النظر الحيوية توضح سبب أهميتها البالغة، إذ إنها تقدم دليلاً على الحاجة والأثر في آن معاً وبالتالي تعزز دافعية المؤسسات المشاركة. ويمكن لآليات التمويل، مثل ترتيبات المدخرات المشتركة، أن تساعد أيضاً في تحويل الأثر القابل للقياس إلى موارد إضافية لإنشاء بنية تحتية ذات قدرة أكبر وإنشاء مبادرات مؤثرة أخرى. وبالمثل، تحتاج كافة المشاريع التعاونية إلى تحديد غاية واضحة وهدف تركز عليه جميع بنود قوائم المراجعة التي تتحدث عنها الأدبيات، لكن القيادة الحيوية تتطلب ترجمة هذه الغاية إلى مجموعة من المبادرات التي تساعد على تحقيق الهدف مع مواءمتها مع البنية التحتية للمشروع التعاوني ومع قدرته على تنفيذ تلك المبادرات. إلا أن العمل على مجموعة مناسبة من المبادرات ليس بالأمر الكافي، حيث يجب إنجازها أيضاً بالتسلسل الصحيح في سبيل استدامة المسار الإيجابي للمشروع التعاوني.
تفضّل العقلية الحيوية إطلاق عدة مبادرات مترابطة في الوقت نفسه، بدلاً من إنجاز عنصر واحد من قائمة المهام في كل مرة، لأن هذه الاستراتيجية تولّد آثاراً وردود فعل إيجابية يمكن أن تزيد من قدرة المشروع التعاوني وتعززها. وتحثّ هذه العقلية قادة المؤسسات الأساسية على تجميع الإجراءات في حزم يمكن التحكم بها، وتخصيص وقت للنظر في العواقب المقصودة وغير المقصودة لخطة العمل المقترحة، وترتيب أهداف النمو وفق تسلسل يساعد في تحقيق التوازن في خطة العمل، وإتاحة الوقت الكافي للتفكير والتعلم والتعديل على فترات منتظمة. من خلال الاعتماد على الإجراءات المتضافرة وتجنب العواقب غير المقصودة، يمكن للقادة المساعدة في ضمان أن يصبح المشروع التعاوني مستداماً يعتمد على نفسه وأن ينمو وينجح في تحقيق أهدافه المقصودة.
ملاحظات
1 حُجبت الأسماء الحقيقية للمشاريع التعاونية المذكورة في هذا المقال.
2 بيني جي. فوستر- فيشمان وآخرون، "بناء القدرة التعاونية في التحالفات المجتمعية: مراجعة وإطار عمل متكامل"، المجلة الأميركية لعلم النفس المجتمعي (American Journal of Community Psychology)، المجلد 29، العدد 2، 2001؛ ميشيل ليمبا وآخرون، "تطوير المقاييس لقياس قدرة المبادرات المجتمعية"، مجلة الصحة والتعليم والسلوك (Health Education & Behavior)، المجلد 35، العدد 3، 2006؛ إدوارد بي. ويبر، نيكولاس بي. لوفريتش، مايكل جيه. جافني، "تقييم القدرة التعاونية في عالم متعدد الأبعاد"، مجلة الإدارة والمجتمع (Administration & Society)، المجلد 39، العدد 2، 2007.
3 إدوارد بي. ويبر وآن إم. كاديميان، "المشكلات الخبيثة، وتحديات المعرفة، وبناء القدرات التعاونية في الشبكات"، مجلة الإدارة العامة (Public Administration Review)، المجلد 68، العدد 2، 2008.
4 سونيا إم. أوسبينا وإينجل ساز - كارانزا، "التناقض والتعاون في إدارة الشبكات"، مجلة الإدارة والمجتمع (Administration & Society)، المجلد 42، العدد 4، 2010، وديفيد آر.
كونلي، جينغ زانغ، سو فيرمان، "الطبيعة المتناقضة للعمل التعاوني" (The Paradoxical Nature of Collaboration)، في كتاب ليزا بلومبيرغ بينغام وروزماري أوليري ومحررون، "الأفكار الكبيرة في الإدارة العامة التعاونية" (Big Ideas in Collaborative Public Management)، نيويورك: روتليدج، 2008.
5 جون كانيا ومارك كريمر، "التأثير الجمعي"، مجلة ستانفورد سوشال إنوفيشن، شتاء 2011. انظر أيضاً ريتشارد كريسبن وهيلين موزر، "6 ممارسات مثبتة للمؤسسات الأساسية"، مجلة ستانفورد سوشال إنوفيشن، صيف 2018، وشيلوه تيرنر وآخرون، "فهم قيمة المؤسسات الأساسية في التأثير الجمعي: الجزء 2"، مجلة ستانفورد سوشال إنوفيشن، صيف 2012.
6 بيتر سينغ، هال هاميلتون، جون كانيا، "فجر قيادة الأنظمة"، مجلة ستانفورد سوشال إنوفيشن، شتاء 2015.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.