يعدّ الاحتفاء بمؤسسي منظمات التأثير الاجتماعي ممارسة شائعة في القطاع الاجتماعي. وهناك العديد من الجوائز المرموقة للمؤسسين والعديد من الزمالات المخصصة لتسريع عملهم. حتى أنه توجد قائمة لدى فوربس باسم «30 تحت سن الـ 30» مخصصة لرياديي الأعمال المجتمعيين.
البدء بمشروع غير ربحي أو اجتماعي هو عمل شاق، وهذا النوع من الاعتراف والدعم هو أمر مساعد، خاصة في الأيام الأولى من عمر المشروع، ويقود إلى ترسيخ المصداقية وإلى الشهرة والحصول على التمويل. لكن، يمكن لتعاظم صورة المؤسس عبر الزمن أن تخلّف جانباً سلبياً. فحكاية "الريادي البطل" التي تحكي سيرة مؤسس لامع صنع نجاحه معتمداً على نفسه فقط، يمكن أن تغطي على مساهمات فريق عالي الأداء، وتجعل جلّ تركيز الإعلام والممولين منصبّاً على الفرد بدلاً من الأثر الذي تركته المنظمة، كما أنها تثبّط التعاون والانتقالات الصحية.
في حالتي كمؤسس مثلاً، كنت أعلم أنني لا أريد البقاء للأبد في منصب الرئيس التنفيذي للمنظمة التي أنشأتها، واحتاج مني الأمر بصيرةً لا بأس بها كي أصقل العلامة المميزة لمنظمتي وأفصلها عني كشخص. ففي عام 2012، كنت مؤسِسة مشاركة في المنظمة غير الربحية «كود 2040» (Code2040) التي تهدف إلى خلق فرص لقادة التكنولوجيا ذوي البشرة السمراء واللاتينيين الصاعدين. وقد تلقيت في السنوات التي تلت الكثير من الاهتمام الإعلامي كقائدة في حركة "التنوع ضمن التكنولوجيا". كما نجحت في الوصول إلى قائمة أقوى 100 شخصية أميركية من ذوي البشرة السمراء ومن أصول إفريقية (Power 100) التي تصدرها مجلة «إبوني» (Ebony) عام 2016، وإلى قائمة الـ 100 شخصية أميركية من أصول إفريقية الأكثر تأثيراً (The Root 100) التي تصدرها مجلة "ذا رووت".
تلقيت أيضاً جائزة «غلوبال ثينكر» (مفكر عالمي) من مجلة السياسة الدولية «فورين بوليسي» (Foreign Policy). لقد تمت تغطية عملي في «كود 2040» من قبل جريدة «نيويورك تايمز» و«فوربس» و«إن بي سي» و«بلومبيرغ» و«فاست كومباني» و«إنك» و«إن بي آر».
بالفعل، كانت هذه الشهرة مذهلة بالنسبة للمنظمة، وقد حصدنا المصداقية والتمويل نتيجة لذلك. إلا أنني كنت قلقةً من أن صبّ الاهتمام على قيادتي قد يقود لأن تصبح العلامة المميزة لـ «كود 2040» مقترنةً باسمي. إضافةً لذلك، كنت أعلم أنه على الرغم من شغفي الشديد بعملنا وبالمنظمة، إلا أن قيادة «كود 2040» لم تكن عملي المفضل. وفي النهاية، تطلب فك الارتباط بيني وبينها تخطيطاً متعمداً ودقيقاً، إضافةً إلى مهارة اتخاذ القرارات.
خلق خارطة طريق جديدة
بعد حوالي خمسة أعوام على وجود «كود 2040»، وبينما كنا على وشك وضع خطة استراتيجية جديدة، قمت بأخذ خطوة إلى الوراء! لقد فكرت فيما تحتاجه الشركة لتحقيق أفضل فرصة للنجاح، وفيما إذا كنت أفضل قائد ممكن لها لقيادتها خلال الأعوام الخمسة المقبلة. فكرت في نقاط قوتي وفي مهاراتي، وأدركت أنها لم تكن كافية لاستغلال الفرص ومواجهة التحديات التي تنتظرنا. لقد كان عليّ اتخاذ قرار صعب: إما أن أطور مهاراتي، أو أن أقوم بتعويض نقاط ضعفي، أو أن أجد رئيساََ تنفيذياً جديداً يمتلك المهارات المطلوبة.
لقد علمت أنه كلما طالت مدة مكوثي في منصبي، ترسخت أكثر حكاية "الريادي البطل"، وبالتالي يصبح من الأصعب عليّ أن أفصل بين شخصيتي وبين نجاح «كود 2040». واتخاذ أحد القرارين، تطوير مهاراتي أو إيجاد طرق التفاف حول نقاط ضعفي، يحمل في طياته خطر التأثير سلباً على استقرار المنظمة واستمراريتها. لكن الخيار الثالث يتوافق مع رغبتي لترك مساحة للآخرين الذين قد لا تتاح لهم فرصة أخرى للقيادة. لقد كان ما سبق يمثل صوتاً حاسماً لترجيح البحث عن رئيس تنفيذي جديد.
وبالفعل، فقد اتخذت القرار بالتنحي في ديسمبر عام 2017 ثم قمت بما بدا لي منطقياً حينها بالبحث عن قائد للمنظمة. لقد سعيت للحصول على مصادر معلومات ومقالات عن انتقالات المؤسسين وكيفية التخطيط لها. لكن للأسف، لم أجد سوى القليل جداً، لا سيما فيما يتعلق بالظروف المشابهة لظروفي. وأخذت بعض الأفكار مما وجدته، لكنني لم أجد خارطة طريق حقيقية للمؤسسين الذين قضوا في مشروعهم مدة تتراوح بين 5 و7 سنوات والذين لم يكونوا يتطلعون للبقاء في المنظمة لمدة مماثلة في المستقبل. لقد أردت أن أتحرك بشكل أسرع بكثير، وكان لدي طيف واسع من الأسئلة التي تحتاج إجابات. فعد عن آلية خلافة المؤسس في المنظمة، فإن مؤسسي المنظمات الحديثة والتي تكون غالباً غير مستقرة يجدون أنفسهم في مواجهة أسئلة ذات طابع وجودي: هل ستنجو المنظمة أصلاً دون مؤسسها؟ هل يعتمد الجواب على مدى اقتران العلامة المميزة للمنظمة بشخص رئيسها التنفيذي؟ ما هي الخطوات التي يستطيع المؤسسون اتخاذها كي يفصلوا بين الاثنين، وكي يعدّوا منظمتهم للنجاح والنمو؟
وبذلك نكون قد دخلنا نطاق المجهول. لقد كنت أنتظر ولادة طفلٍ لي وقتها، والشخص الذي كنت آمل أن يكون خليفتي -كارلا مونتيروسو- التي كانت حينها نائبة رئيس البرامج في المنظمة- كانت تنتظر أن تحل محلي كرئيسة تنفيذية أثناء فترة إجازة الأمومة. وقد أجريت محادثة مع كارلا في ديسمبر أخبرتها فيها عن خططي للمغادرة وعن تمنياتي بأن تكون هي خليفتي. كما اقترحت عليها أيضاً بأنها إن وافقت، سيكون من الأسهل للمنظمة لو أنها استطاعت الانتقال بسلاسة من التصرف كرئيس تنفيذي بالوكالة إلى أن تصبح رئيسةً تنفيذيةً فعلاً، دون أن أستلم مجدداً مقاليد الأمور في الفترة الانتقالية.
قمت بعد ذلك بمناقشة الأمر مع العضو الذي يشغل منصب رئيس مجلس الإدارة، وفي يناير تحدثت مع بقية أعضاء المجلس في الموضوع ذاته. لقد كان عمل كارلا وقيادتها مألوفين لهم، حيث أنها كانت موجودة بشكل دائم في اجتماعات المجلس لسنوات. وبعد مقابلة كلارا وفهم رؤيتها للمنظمة والإمكانيات الحقيقية التي تمتلكها كقائدة، وافقوا على تعيينها كرئيسة تنفيذية في مارس.
استلزمت الأسابيع الثلاثة التالية منا رسم خطة شاملة للاتصالات الداخلية والخارجية، ثم وضع هذه الخطة قيد التنفيذ. قضينا أسبوعاً ونصف في تنظيم اجتماعات للفريق، واستهداف عشرات المانحين والداعمين الدائمين، وفي مشاركة قصة جديدة ترفع من مكانة كارلا ودورها الجديد. وفي أبريل 2018، تنحّيت رسمياً عن منصبي كرئيسة تنفيذية. لقد بقيت ضمن الطاقم خلال شهر يونيو كمستشارة، ولكنني كنت أرفع تقاريري إلى كارلا وليس إلى مجلس الإدارة.
إعداد خليفتك للنجاح
لقد سمحت لي عدة عوامل أن أتعاون مع المجلس في تعيين رئيس تنفيذي جديد وأن أغادر في سبعة أشهر. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو أو المدة الزمنية قد لا ينطبق على كل المؤسسين، إلا أنني آمل بأن يستفيد الجميع من الدروس الثلاثة التالية:
أفسح المجال للقادة الآخرين مبكراً.
لمدة ثلاث سنوات من إدارتي لمنظمة «كود 2040» -وثلاث سنوات قبل التنحي- كنت أقوم بجهود محددة حثيثة ومدروسة لرفع مكانة الأشخاص الآخرين بشكل مواز لارتفاع مكانتي. تلقى معظم الموظفين في «كود 2040» تدريباً إعلامياً كي يتزود الأشخاص المتنوعون من كل مستويات المنظمة بالأدوات اللازمة لتمثيل المنظمة في أي لحظة يطلب منهم ذلك. وأضحى أعضاء الطاقم متحدثين في المؤتمرات سواء كانت محلية أو على مستوى البلاد، وأدلوا بتصريحات للمراسلين في المقابلات الإعلامية، ومثّلوا المنظمة في المناسبات التي تخص مجال عملها. لقد عززت هذه الاستراتيجية من النظرة للمنظمة على أنها "مليئة بالقادة"، ما أدى إلى الانفصال التدريجي بين العلامة المميزة للمنظمة وبيني كقائدة لها.
وكما بينت سابقاً، فقد خدمت هذه العقلية المنظمة بشكل رائع خلال تغيير الرئيس التنفيذي. فأنا لم أضطر لتقديم كارلا للمجلس أو الممولين أو الأعضاء، لأنهم كانوا يعرفونها ويحبونها أصلاً. بالإضافة لفوائد أخرى عادت على المنظمة أيضاً. على سبيل المثال، تمت دعوتي للمؤتمر السنوي «فورتشن برينستورم تيك» (Fortune Brainstorm Tech) على مدار عدّة سنوات وغالباً ما كنت متحدثةً فيه. وعندما أبلغنا المنظمين عن الانتقال الوظيفي الذي حدث، قاموا وبكل أدب، لكن بصرامة، بإلغاء دعوتي، ووجهوا الدعوة لكارلا بدلاً مني. وعلى الرغم من اشتياقي للرحلة إلى آسبن (مكان عقد المؤتمر)، إلا أن ذلك كان ما كنت آمل أن يحصل تماماً، وهو أن يهتم الداعمون بالمنظمة والأثر الذي تتركه أكثر من اهتمامهم بي كقائدة لها.
بمجرد تنصيب خليفة لك، قم بالتنحي فوراً.
بمجرد أن قررت كارلا وقرر المجلس أن يمضوا بالانتقال، قمت بتحويل تركيزي إلى الفريق. لقد أخبرني الأشخاص الذين شهدوا انتقالات أخرى لمؤسسين، أنه بمجرد أن يغادر الرئيس التنفيذي، علينا توقع مغادرة حوالي 30 - 40 بالمئة من الطاقم خلال عام. لقد شجعت كل الطاقم على المزيد من القيادة، والظهور، والمسؤولية. إذ عليك أن تركز على توجيه الأضواء إلى الأشخاص داخل المنظمة، بنفس القدر الذي تركز فيه على أن تضع منظمتك في دائرة الضوء أمام من هم خارجها. وعندما حانت لحظة مغادرتي، كان هناك من ذوي الولاء لكارلا بقدر ما كان هناك أشخاص يدينون لي بالولاء لي شخصياً، بالإضافة إلى العديد من القادة الصاعدين.
ومنذ اللحظة التي تقلّدت فيها كارلا منصبها رسمياً، حتى عندما كنت لا أزال ضمن الطاقم، قمت بالتنحي بكل الطرق الممكنة. فلم أعد أقود اجتماعات الفريق، وكنت حريصةً على تحويل أي سؤال يصلني حول المنظمة إلى كارلا، دون التفكير فيما ستقوله كارلا أو فيما يجب أن تقوله. إن الانتقال من رئيس تنفيذي إلى شخص ذي مرتبة ثانية بين ليلة وضحاها يتطلب الإرادة في تحييد الـ "أنا" جانباً - والتزاماً كاملاً بالابتعاد عن الأضواء، ودعم الإنجاز من الخلف.
تحضّر لغير المتوقع.
بعد تواصلنا مع المتبرعين والشركاء والداعمين لنقل الأخبار إليهم، كانت الاستجابة العامة لترقية كارلا إيجابية. إلا أن حوالي 20 بالمئة من الشركاء الذين تحدثنا معهم على الهاتف أظهروا دعمهم لنا في وجهنا، ولكن قاموا لاحقاً إما بتخفيض الدعم، أو جعلوا كارلا تعيد التقديم على طلب التمويل! وعلى الرغم من أن الوضع المالي للمنظمة كان جيداً، إلا أنني عندما أعيد التفكير بالأمر الآن أظننا كنا متفائلين زيادة عن اللازم في تقديرنا للآثار المالية للانتقال. كان ملجأنا الدائم المال الذي نتركه في المصرف في كل الأوقات وإيرادات التعهدات التي كانت مريحة بالنسبة لي -كرئيسة تنفيذية مثبّتة- ولكنها كانت بالكاد كافية لرئيس تنفيذي معين حديثاً. بسبب ذلك، أنا أنصح المؤسسين الذين ينوون المغادرة بأن يكون لديهم تمويل ميزانية لمدة سنة كاملة على الأقل في وقت حصول الانتقال، أو خطة للعمل بميزانية أصغر في السنة التالية.
على الصعيد الداخلي، لم أكن مستعدة لكل العاطفة التي اجتاحتني لدى إعلان النبأ لطاقمنا. أعطيت الكثير لـ «كود 2040»، ما جعل المغادرة أمراً حلواً ومراً بنفس الوقت. كنت فخورة، وممتلئةً بالحماس، لكن حزينةً في نفس الوقت. وقد أخذني إعصار المشاعر على حين غرّة، إلا أن هذه المشاعر احتوت أيضاً على تقدير كبير لكارلا، وثقة بأن منظمة «كود 2040» يمكن لها أن تحيا وتزدهر من دوني، وتحت قيادة كارلا. إن التركيز على هذا الإيمان بكارلا ساعدني على تقبّل خياري بالابتعاد عن المنظمة وعن دوري فيها.
كانت هذه الدروس الثلاثة مهمة لي بشكل خاص كمؤسِسة حققت بعض الأمجاد التي يقدمها القطاع الاجتماعي لرواد الأعمال، وفي نفس الوقت أرادت للمنظمة التي ساهمت في تأسيسها أن تنجح في النهاية من دونها. إنني أشجع جميع المؤسسين على أن يتفحّصوا بشكل دائم التزامهم بأدوارهم، وأن يقوموا في نفس الوقت بتشجيع القيادة في الآخرين، لا سيما وأنه في ظل غياب تكافؤ الفرص بين قادة المشاريع الاجتماعية وغير الربحية نحن بحاجة لإفساح المجال للمزيد من القادة ذوي نسب التمثيل القليلة، بأن يستلموا زمام القيادة في المنظمات ذات الشأن. إن القيام بذلك يعني التنحي عندما يلزم الأمر ذلك، حتى عند غياب خارطة طريق وعندما يكون من الضروري لغير المتوقع أن يحدث.
نبذة عن الكاتب:
لورا وايدمان باورز:
هي ريادية اجتماعية حائزة على جوائز في مجالها. كانت سابقاً ريادية مقيمة في نيو ميديا فينتشرز وعملت في فترة إدارة أوباما في البيت الأبيض على قضايا تتعلق بالمساواة في مكان العمل والوصول إلى رأس المال. وهي مؤسسة مشاركة في «كود 2040» وتعمل حالياً كرئيسة تأثير في اكوينج جرين.