ابتكار ثوري في سياسة مكافحة المخدرات: نموذج عملي من سويسرا

7 دقيقة
سويسرا
shutterstock.com/Rasto SK
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نظرة على التغيير الجذري والناجح في نهج سويسرا للتعامل مع مشكلة المخدرات في أعقاب وباء الهيروين في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، وما تعلمناه من هذا العمل فيما يتصل بعملية الابتكار الاجتماعي.

في عام 1961، اعتمدت الأمم المتحدة الاتفاقية الوحيدة للمخدرات (Single Convention on Narcotic Drugs)، وهي معاهدة تهدف إلى مكافحة تعاطي المخدرات من خلال العمل الدولي المنسق. تسعى الاتفاقية إلى حظر استخدام بعض المخدرات وتجارتها وإنتاجها إلا للأغراض الطبية والعلمية، ومكافحة الاتجار بالمخدرات. وعلى الرغم من مثل هذه الجهود، فالمبادرات والسياسات الفاشلة، فضلاً عن انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بتعاطي المخدرات، استمرت في اعتراض التقدم على المستويات المحلية والوطنية والعالمية. وما زال أمامنا الكثير من العمل لمواجهة الأضرار العديدة التي تلحقها المخدرات بالصحة والتنمية والسلام والأمن في جميع مناطق العالم.

ومع ذلك، فقد تحقق بعض النجاحات في هذا المسعى كما هي حال سويسرا. بين عامي 1991 و2010، انخفضت الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة في البلاد بنسبة 50%، وانخفضت حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية بنسبة 65%، وانخفض عدد متعاطي الهيروين الجدد بنسبة 80%. واليوم، أصبح “نموذج الركائز الأربع” الذي تسترشد به سياسات مكافحة المخدرات السويسرية القائم على الوقاية والعلاج والحد من الأضرار وإنفاذ القانون، معترفاً به دولياً باعتباره خطوة رئيسية في تغيير طرق مكافحة المخدرات.

استخلص الباحثون والمختصون دروساً في الصحة العامة والنظام العام والسياسة العامة من هذا النجاح الجزئي، لكن القليل منهم فكر في طرق الاستفادة منها في عملية الابتكار الاجتماعي. بناءً على مراجعة الدراسات العلمية والتغطية الصحفية والمواد السينمائية وتقارير مؤسسات المجتمع المدني، وغيرها من الدراسات حول سياسة مكافحة المخدرات السويسرية، بحثنا في النصوص التي قدمت رؤى حول تطوير البلاد لأساليب جديدة. وفي هذه العملية، حددنا خمسة عوامل رئيسية أدت إلى النجاح تساعد قادة التغيير الاجتماعي على التفكير في عمليات الابتكار الاجتماعي وتحسينها.

1. الضغط من أجل اتخاذ إجراءات

لم تكن الرغبة في الابتكار سبب إعادة النظر في مشكلة المخدرات في سويسرا، بل فشل الأساليب القائمة الواضح الذي لا يمكن إنكاره. ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، اتجهت أنظار العالم نحو مدينة زيورخ السويسرية، إذ أصبحت وهي إحدى أغنى المدن في العالم “سوقاً للممنوعات“، بحسب وصف إحدى مقالات صحيفة نيويورك تايمز. كان مدمنو المخدرات يتجمعون بانتظام وسط المدينة دون مأوى أو مراحيض أو حمامات، على بعد أمتار قليلة من الشركات والبنوك والفنادق المزدهرة، وسجلت زيورخ أول حالة وفاة بسبب جرعة زائدة من الهيروين في عام 1972، واستمر تعاطي المخدرات في المدينة في الارتفاع على نحو مطرد. في أوائل الثمانينيات، راجعت الحكومة السويسرية القانون الفيدرالي استجابةً لتزايد تعاطي المخدرات، وحددت عقوبات جنائية صارمة على حيازة المخدرات غير المشروعة وتعاطيها وبيعها. وفي السنوات التي أعقبت ذلك، واجهت الشرطة صعوبات في تطبيق القانون، فبدأت بالتسامح مع التعاطي في “مناطق خاضعة للرقابة” مثل بعض المتنزهات، حيث لا تعتقل الشرطة المتعاطين. وبحلول أواخر الثمانينيات، كان الآلاف من الناس في جميع أنحاء البلاد يبيعون المخدرات ويشترونها ويتعاطونها علناً.

وفي الوقت نفسه، أخذ فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) في الارتفاع، وفي الأعوام الأولى التي أبلغت فيها الدول عن بيانات فيروس نقص المناعة البشرية، كان معدل الانتشار في سويسرا عام 1986 الأعلى في أوروبا الغربية، وأدى ذلك إلى سلسلة من المشكلات، وكان النظام العام والصحة العامة في موقف حرج. كان من الواضح أن الأساليب الحالية لحل المشكلة فاشلة جداً، وأجبرت خطورة الوضع واضعي السياسات والشرطة ومسؤولي الصحة والسكان على التفكير في طرق بديلة للتعامل مع المشكلة.

2. التحالفات والتعاون والتنسيق

بدأت إدارة مدينة زيورخ التعاقد مع مؤسسات تقدم خدمات مباشرة للسكان، لكن العديد منها انخرط في البداية في أنشطة متضاربة أو سيئة التنسيق، وأثارت الهيئات العامة والمؤسسات غير الربحية في المدينة وخارجها جدلاً من خلال تقديم برامج استبدال المحاقن وأماكن الحقن الآمنة والملاجئ، وعلى الرغم من أن السلطات كانت تغض الطرف عن ذلك في معظم الأحيان، تعرّض الأطباء الذين كانوا يزودون متعاطي المخدرات بمحاقن نظيفة لتقليل مخاطر العدوى والسيطرة عليها للتهديد بالعقوبات.

ومع مرور الوقت، شكلت هذه المجموعات تحالفات وأصبحت أكثر تنسيقاً؛ بدأ العاملون في مجال الخدمات الاجتماعية والشرطة والطاقم الطبي بالتعاون، ونظموا عمل الهيئات الدينية والمجتمع المدني لمساعدة متعاطي المخدرات المشردين، وطالب ممثلو المدينة بمنحهم سلطة أكبر لصنع القرار في سياسة مكافحة المخدرات ودعوا إلى اتخاذ تدابير جديدة، بما فيها الحد من ضرر المخدرات. إذ بدأ مسؤولو الصحة ممارسة الضغوط من أجل وضع خطط لاستبدال المحاقن التي جعلت من الممكن استخدام المخدرات دون أضرار جسدية لا يمكن علاجها مثل الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية، بعد أن أثبتت سياسة حظر الاستبدال فشلها،

وظهرت تحالفات لدعم هذه الممارسات التي شكلت بديلاً لنموذج سياسة الحظر. ازداد تعاون العاملين في مجال الخدمات الاجتماعية والشرطة وواضعي السياسات والعاملين في مجال الصحة والباحثين لوضع البرامج الشرطية والاجتماعية والصحية في إطار سياسة متسقة، ومع تجلي النجاحات الأولية، تزايد دعم الجمهور وواضعي السياسات وهيئات التمويل العام لهذه الجهود التعاونية.

3. تجميع الأدلة ورصدها وتوثيقها

مع ارتفاع مستوى التنسيق في العملية وحصولها على الدعم العام، أكد المسؤولون الحاجة إلى جمع الأدلة ورصدها وتوثيقها والرغبة في الاستثمار فيها. ونظراً لخطورة المشكلة، وافق واضعو السياسات بسرعة على الابتكارات المعقولة في الأماكن المحمية حتى يتمكنوا من جمع البيانات حول تأثيراتها واتخاذ القرارات استناداً إلى تلك البيانات. على سبيل المثال، على الرغم من أن تعاطي المخدرات كان غير قانوني رسمياً، سمح المكتب الفيدرالي للصحة العامة بتجارب العلاج بمساعدة الهيروين (HAT)، التي تسمح بصرف وصفات الهيروين الخاضع للرقابة للمدمنين في مدن زيورخ وبرن وبازل وجنيف. وبين عامي 1991 و1999، دعم المكتب الفيدرالي للصحة العامة أكثر من 300 برنامج، تلقى كثير منها دعماً على مستوى الولاية أو البلديات، وبلغ الإنفاق الفيدرالي ما يزيد على 15 مليون فرنك سويسري (نحو 15 مليون دولار أميركي) سنوياً. وفي عام 1997، أنشأت الحكومة لجنة اتحادية لقضايا المخدرات تتألف من 14 خبيراً أكاديمياً في مجال المخدرات لتقديم المشورة بشأن سياسات مكافحة المخدرات.

وسرعان ما أثمرت هذه الجهود مجموعة رائعة من الأدلة التي شكّلت أساساً لصناعة القرارات المتعلقة بالبرامج ووضع السياسات والمناقشات العامة، على المستويين المحلي والدولي.

4. الديمقراطية المباشرة والتنفيذ المحلي

لأن سويسرا جمهورية فيدرالية وتطبق نظام الديمقراطية المباشرة، فهي تستند في سياساتها إلى الأوضاع المحلية بدرجة كبيرة وتتشكل من الرأي العام. لذا، كما هي الحال مع أي مشكلة اجتماعية أخرى، لم يكن من الممكن تشكيل تحالفات صغيرة تعمل على تطوير الحلول خلف الأبواب المغلقة وتنفيذها وفقاً لنهج تنازلي من القمة إلى القاعدة. وفي الوقت نفسه، كانت كل منطقة محددة أو ولاية تستطيع أن تختبر حلولها الخاصة، وبالتالي تتجنب الحاجة إلى الإجماع الوطني.

من المحتمل أن يساعد هذا التوجه المحلي في التغلب على أحد التحديات الأساسية التي تواجه تنفيذ سياسات مكافحة المخدرات، فهي تُوضع غالباً على المستوى الوطني في حين تنشأ الضغوط من أجل اتخاذ الإجراءات على المستويات المحلية. لا يمكن للمدن، وبخاصة التي تتبنى نظام الديمقراطية المباشرة، أن تتحمل خسارة دعم السكان الذين يعتمدون على الخدمات الاجتماعية أو الطبقة الوسطى التي تدعم سياسات الرعاية الاجتماعية السخية. ولهذه الأسباب نرى أن المجتمعات المحلية هي الأنسب لوضع الحلول الممكنة واختبارها.

في زيورخ، نظّم مسؤولو المدينة اجتماعات عامة منتظمة لمواجهة مقاومة الأحياء لمنشآت الحد من أضرار المخدرات. وساعدت المؤتمرات الوطنية لسياسات مكافحة المخدرات في عامي 1991 و1995 على إثارة نقاش مكثف بين السياسيين والمختصين في سياسات مكافحة المخدرات، وفتحت تقاريرها النقاش أمام وسائل الإعلام والجمهور، ما أدى في النهاية إلى زيادة الدعم العام لنهج السياسات العملي.

5. إضفاء الطابع الرسمي

في البداية، انتقدت الجماعات المحافظة داخل سويسرا والدول المجاورة والأمم المتحدة سياسات مكافحة المخدرات الجديدة، زاعمة أن إجراءات مثل تجارب العلاج بمساعدة الهيروين تنتهك اتفاقيات حظر المخدرات الخاصة بالأمم المتحدة. ولكن مع مرور الوقت، ومع تزايد الأدلة على نجاح تدابير الحد من أضرار المخدرات، بدأ المنتقدون يعترفون بصحة النهج السويسري.

مرّ أكثر من عقد قبل أن تعترف منظمة الصحة العالمية (في عام 2003) والاتحاد الأوروبي (في عام 2008) بدور تدابير الحد من أضرار المخدرات. وعلى الرغم من أن سويسرا تبنت نموذج الركائز الأربع وصرف وصفات الهيروين لعقود، فهي لم تراجع قانون المخدرات حتى عام 2008 بعد أن تضاءلت المشكلة فعلياً. يشير بعض العلماء إلى أن انخفاض استخدام الهيروين لم يكن بسبب السياسات العامة الناجحة فحسب، بل بسبب تقدم الجيل الذي كان يستخدم الهيروين خلال سنوات الذروة في السن وانجذاب الأجيال الشابة إلى أنواع أخرى من المخدرات.

دروس للمبتكرين الاجتماعيين

صحيح أن هذه الحالة وحيدة وحدثت في سياق سويسرا الفريد، لكننا نعتقد أنها تقدم أفكاراً مهمة لعمليات الابتكار الاجتماعي.

  • تؤدي المشكلات الاجتماعية البارزة التي لا يمكن إنكارها ولا تحملها إلى تحفيز اتخاذ الإجراءات، ولن تتمكن المجموعات ذات النفوذ من حشد الموارد وخوض المخاطر وتجاوز القوانين لتجربة حلول جديدة إلا عندما تدرك قصور الأساليب القائمة وفشلها. ومن المفيد استكشاف الطرق التي تجعل المشكلات الاجتماعية ذات صلة بأصحاب الموارد والسلطة منذ البداية.
  • تبدأ عمليات الابتكار الاجتماعي غالباً بعمل فردي غير منسق ثم تتجه نحو التعاون، إذ يتخذ الأفراد أو المؤسسات الفردية الخطوات الأولى نحو التغيير، لكن التغيير الواسع النطاق يتطلب تعاوناً واسع النطاق بين القطاعات. في حالتنا، أدى التعاون بين العاملين في مجال الخدمات الاجتماعية والعاملين في مجال الصحة وواضعي السياسات والشرطة والمجموعات المجتمعية إلى ظهور نهج الركائز الأربع، الذي يمثل إلى حد كبير حلاً وسطاً بين الأساليب التي تتبناها الجهات كلها.
  • يتضمن الابتكار الاجتماعي التجريب والمرونة، ويتضمن أيضاً التوسع وإضفاء الطابع الرسمي. ومن المهم أن نضع في أذهاننا أن عمليات الابتكار الاجتماعي تتطلب وقتاً وصبراً واستعداداً للتعامل مع الإخفاق وعدم اليقين. اختبرت الوكالات الحكومية تدابير جديدة مثل تجارب العلاج بمساعدة الهيروين على مستوى محلي وغير رسمي وبجهد ضئيل نسبياً، لكن نجاحاتها كانت مجرد بداية؛ إذ استغرق الأمر أكثر من عقد من الزمن حتى تعترف الحكومة الفيدرالية رسمياً بالبرامج الفعالة وتمنحها طابعاً رسمياً وتوسّع نطاقها على المستوى الوطني.
  • تساعد الأبحاث المنهجية المُحكمة الطويلة المدى على تعزيز الابتكار المستمر المستنير، وفي سويسرا، أفسحت التجارب غير الرسمية الأولية على المستوى المحلي مجالاً لأبحاث منهجية مُحكمة، ما أدى إلى إنتاج الأدلة اللازمة للسياسات والبرامج. وساعد ذلك على زيادة المعلومات حول طبيعة المشكلة وحلولها المحتملة، وأتاح لواضعي السياسات والجمهور صنع قرارات مستندة إلى المعلومات اللازمة.
  • بوسع المجتمع برمّته دعم الابتكار الاجتماعي والحفاظ عليه. وبناءً على ما تقدم، يؤدي حشد جهود السكان وتثقيفهم حول المشكلات الاجتماعية والحلول المحتملة إلى توليد دعم كبير للتغيير على نطاق واسع. أدت الجهود المبذولة لإشراك المجتمع المدني وتقديم المعلومات اللازمة له وحشد جهوده إلى الحصول على دعم غالبية السكان السويسريين -المعروفين بأنهم محافظون ومقاومون للتغيير- لاستثمارات وتغييرات كبيرة في سياسات مكافحة المخدرات.
  • الابتكارات الاجتماعية ليست أبدية. تتغير طبيعة المشكلات الاجتماعية بمرور الوقت، والابتكارات التي تنجح الآن قد لا تنجح في المستقبل، لذا من المهم مراقبة التغيرات والتطورات التي تطرأ على المشكلات الاجتماعية. وفي حين نجح النهج السويسري في الحد من انتشار تعاطي الهيروين، تغيرت أنماط تعاطي المخدرات على مر السنين ولا تزال البلاد تواجه صعوبات في مكافحة أنواع أخرى منها.

استغرقت عملية ابتكار سياسات مكافحة المخدرات في سويسرا أكثر من عقدين من الزمن وشاركت فيها مستويات المجتمع كافة، لكنها حققت نجاحاً ملحوظاً. نأمل أن يتمكن المبتكرون من توسيع نطاق عملهم وزيادة حجمه من خلال نقل بعض هذه الأفكار إلى سياقات وقضايا اجتماعية أخرى.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.