مع حلول عام 2024 لا يزال العالم يكافح من أجل مواجهة أزمة تغير المناخ وتكاليفها المتزايدة باستمرار، وفي الوقت الذي تتطلع فيه الشركات والمؤسسات إلى زيادة استثمارها في الاستدامة تبقى هناك حاجة إلى التركيز على المجالات التي تمكّنها من تحقيق تأثير أكبر.
لماذا الاستثمار في الاستدامة؟
تُظهر الدراسات أن الشركات التي تركز على الاستدامة والممارسات المسؤولة بيئياً واجتماعياً يمكنها تحقيق أداء مالي أعلى وإدارة المخاطر على نحوٍ أفضل، ما يضمن لها الاستقرار والنمو على المدى الطويل. فالشركات التي تعطي الأولوية للاستدامة تكون أكثر قدرة على التكيف مع ظروف السوق المتغيرة وأكثر استعداداً لمواجهة التحديات المستقبلية، بالإضافة إلى دورها في إحداث تغيير إيجابي، سواء من خلال الحد من انبعاثات الكربون، أو تعزيز ممارسات العمل العادلة، والتنوع والشمول.
وعليه، أصبحت الاستدامة مجالاً استثمارياً مهماً لدى الشركات، وينظر إليها قادة الأعمال والرؤساء التنفيذيين على نحو متزايد على أنها فرصة لخلق القيمة.
جعل الاستدامة أولوية
يُدرك القطاع الخاص اليوم أكثر من أي وقت مضى مسؤوليته في الانتقال إلى اقتصاد أكثر استدامة، فبحسب مؤشر الاستدامة البيئية (Environmental Sustainability Index) الصادر عن شركة هانيويل المتخصصة في المنتجات والحلول والتقنيات الصناعية، تخطط الغالبية العظمى من الشركات في عام 2024 إلى زيادة الإنفاق على مبادرات الاستدامة البيئية بما في ذلك كفاءة الطاقة وخفض الانبعاثات، في حين أبلغ 83% من المدراء التنفيذيين عن خططهم لزيادة الاستثمارات في مبادرات الاستدامة.
وفي عام 2023، زاد عدد المدراء التنفيذيين على مستوى العالم الذين يفهمون الجدوى التجارية للاستدامة ثلاثة أضعاف مقارنةً بعام 2022، بحسب ما توصل إليه تقرير حديث صادر عن معهد كابجيميني للأبحاث بعنوان: "العالم في توازن 2023: زيادة الوعي بالاستدامة مع تأخر الإجراءات" (A World in Balance 2023: Heightened sustainability awareness yet lagging actions)، وفي الوقت الذي ظلت فيه الاستثمارات في مبادرات الاستدامة ثابتة بين عامي 2022 و2023، فإن أكثر من نصف الشركات تعتزم زيادة استثماراتها في الاستدامة في عام 2024.
لكن ما الذي يزيد من التأثير الإيجابي لهذه الاستثمارات على البيئة والمجتمع؟ يمكن للشركات إحداث تأثير كبير من خلال تطوير تقارير الاستدامة وتوظيف تقنيات المناخ والحلول الرقمية.
التركيز على أسس التحول المستدام
ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته، فعلى الرغم من أن تقارير الاستدامة تُظهر قدرة الشركات على التحكم في انبعاثات النطاقين 1 و2، لا يزال فهم انبعاثات النطاق 3 يمثل تحدياً.
وتشير انبعاثات النطاق 3 إلى الانبعاثات الملوِّثة للبيئة التي تنتج عن الأصول أو الموارد غير المملوكة للشركة أو التابعة لها مباشرة، ووفقاً لتقرير معهد كابجيميني للأبحاث، تراجعت نسبة الشركات التي تقيس انبعاثات النطاق 3 في عام 2023، وقد يُعزى ذلك إلى أن هذه الانبعاثات لا تقع ضمن سيطرة أي شركة على الرغم من أنها تشكل الجزء الأكبر من انبعاثاتها.
لذا يجب على الشركات التأكد من امتلاكها موارد داخلية أو خارجية يمكن تتبُّعها، والتوجه نحو تصميم منتجات مستدامة يومية وميسورة التكلفة، ومن الضروري أيضاً التعاون مع الأطراف المشاركة في سلسلة التوريد لإحداث أثر أكبر في خفض الانبعاثات، على سبيل المثال عملت شركة وول مارت على مشروع غيغاطن (Project Gigaton) الذي يهدف إلى تقليل انبعاثات النطاق الثالث من خلال الشراكات مع المورّدين.
الاستفادة من تكنولوجيا المناخ
تُعد تكنولوجيا المناخ، مثل مصادر الطاقة المتجددة وتقنيات احتجاز الكربون، مكملاً أساسياً للتغيرات السلوكية نحو الاستدامة، إذ يرى ثلاثة أرباع قادة الأعمال أنها أداة رئيسية لإزالة الكربون من سلاسل القيمة الخاصة بهم وإنشاء صناعات ونماذج أعمال جديدة، ما يجعلها مجالاً ديناميكياً من حيث الابتكار والاستثمار، فنجد أن تكنولوجيا التقاط الكربون وتخزينه واستخدامه ساعدت شركة بترول أبوظبي - أدنوك على الالتزام باستراتيجيتها للاستدامة البيئية.
على الرغم من ذلك، تمثل التكلفة الإضافية لهذه التقنيات عقبة رئيسية أمام الاستثمار فيها، على سبيل المثال، فإن تكلفة الإسمنت المنخفض الكربون المنتج باستخدام احتجاز الكربون تزيد بنحو 75% عن تكلفة الإسمنت التقليدي، في المقابل، هناك تقنيات مثل السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مدعومة بالحوافز والسياسات التي تجعلها متكافئة من حيث التكلفة مع التكنولوجيات التقليدية.
لكن عموماً، يحتاج توسيع نطاق تكنولوجيا المناخ إلى التعاون عبر الحدود والصناعات والقطاعات، بدءاً بالحكومات.
المزيد من الحلول رقمية
يعد الاستثمار في العمل المناخي وإعداد التقارير من أولويات الأعمال المستدامة، ومع تزايد وضع الاستدامة في صدارة جداول أعمال الشركات، يواجه صنّاع القرار مشكلتين رئيسيتين هما: الضغط من أجل إزالة الكربون من عملياتهم، والحاجة إلى تحسين التقارير وتنظيمها.
إن إدخال متطلبات معقدة في إعداد التقارير مثل انبعاثات النطاق 3، إلى جانب الاعتراف المتزايد بمخاطر الأعمال التي يفرضها الامتثال للمعايير البيئية والاجتماعية، يدفع الشركات إلى الاستثمار في مجموعة من الأدوات والتكنولوجيات المختلفة. إذ رصد تقرير رويترز عن الاستدامة العالمية تطور استراتيجيات الاستدامة واستثماراتها على مستوى العالم، وتوصل إلى أن حلول تحليل البيانات وحساب الانبعاثات وتقنيات تحسين العمليات تُعد الوجهات الثلاث المفضلة للاستثمار، لكن الأمر سيتغير بحلول عام 2026، مع تزايد شعبية حلول إدارة الانبعاثات والمخاطر المستدامة.
وبحسب تقرير معهد كابجيميني للأبحاث بعنوان: "العصر الرقمي البيئي: الانتقال المزدوج إلى الاقتصاد المستدام والرقمي" (The Eco-Digital Era: The Dual Transition to a Sustainable and Digital Economy) يؤمن أكثر من نصف الشركات بقدرة التكنولوجيا على تحقيق أهداف الاستدامة، ومن المتوقع أن يتضاعف الاستثمار الرقمي على مدى السنوات الخمس المقبلة إذا وظّف توظيفاً صحيحاً، فالاستثمار في الحلول الرقمية سيزيد على نحو كبير من خفض الانبعاثات واستهلاك الطاقة.
عند اعتماد البيانات والتحليلات إلى جانب الأدوات الرقمية، مثل الذكاء الاصطناعي والتوائم الرقمية والواقع الافتراضي والواقع المعزز، ستتمكن الشركات من خفض تكاليف التطوير، وزيادة الكفاءة، وتسريع عمليات الابتكار.
بالنظر إلى المستقبل؛ من المتوقع أن ترتفع الاستثمارات التي تراعي المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة إلى 50 تريليون دولار بحلول 2025، وستخلق البيانات والتكنولوجيا الرقمية نماذج أعمال جديدة تسهم في إحداث تأثير مجتمعي أوسع.