بينت الأبحاث أن الإنسان يميل أكثر إلى مساعدة الأشخاص القريبين منه جغرافياً أو نفسياً، ربما لأنه يشعر بتعاطف أكبر تجاههم أو بالانتماء إليهم أو يعتقد أنه قادر على تحقيق أثر أكبر بمساعدته لهم.
تتناول ورقة بحثية جديدة هذه النزعة، وتدرس احتمالات ميل البعض أكثر للتبرع لصالح مستفيدين في مناطق بعيدة جغرافياً بسبب اختلاف هوياتهم أو التجارب التي مروا بها، وتحلل الباحثات تحديداً ما إذا كان "التنقل السكني" -استعداد الفرد للانتقال من مدينة إلى أخرى أو انتقاله فعلاً أو تعريفه بأنه شخص متنقل- مرتبط بتقديم تبرعات أكثر للأفراد والقضايا خارج نطاق مجتمعه المحلي.
ألف هذا البحث كلّ من الأستاذة المساعدة لمادة التسويق في كلية روبرت آتش سميث للأعمال (Robert H. Smith School of Business) في جامعة ميريلاند، ياجين وانغ، وأستاذة كرسي رالف تايزر لمادة التسويق في الكلية نفسها، آمنة كرماني، والأستاذة المساعدة لمادة التسويق في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، شاولين لي، وأجرين فيه 4 دراسات بأساليب مختلفة للتمعن في هذه المسألة.
في أول دراسة أجرينها، عملن على تحليل بيانات دراسات لجنة الأسرة الصينية (China Family Panel Studies) لعام 2010، وهي دراسة استقصائية طولية سنوية يجريها معهد استقصاءات العلوم الاجتماعية (Institute of Social Science Survey) بجامعة بكين، ودرسن على وجه التحديد بيانات 30 ألف مواطن صيني قدم تبرعات مالية بعد الزلزال المدمر الذي أودى بحياة 70 ألف شخص في مقاطعة سيتشوان الصينية عام 2008، وتبين أن المتبرعين الذين غيروا مكان إقامتهم سابقاً، أي خاضوا تجربة "التنقل السكني"، حتى وإن لم يسكنوا المقاطعة نفسها قطّ، قدموا تبرعات أكبر مقارنة بالذين لم يغيروا مكان إقامتهم.
في الدراسة الثانية، جمعت الباحثات 350 مقيماً في الولايات المتحدة من منصة التعهيد الجماعي، أمازون ميكانيكال تورك (Amazon Mechanical Turk)، وطرحن عليهم حملتَي تبرع مختلفتين لصالح قضية مجاعة الأطفال، تستهدف إحداهما أطفالاً في منطقتهم المحلية وتستهدف الأخرى أطفالاً خارج الولايات المتحدة، وسألنهم عن رغبتهم في التبرع بمبلغ وهمي وقدره 10$، وعن طريقة التبرع التي يفضلونها. فوجدن مجدداً أن المشاركين الذين تعلو معدلات التنقل السكني لديهم، والذين كانت تنقلاتهم في الماضي أكثر، أكثر ميلاً للتبرع لصالح الأطفال خارج الولايات المتحدة ومنحهم مبالغ أكبر من المال مقارنة بغيرهم من المتبرعين.
في الدراسة الثالثة، طرحت الباحثات على أكثر من 200 طالب في جامعة ميريلاند عدة أسئلة لتوجيه تفكيرهم نحو التنقل ومعرفة تأثيره على رغبتهم في التبرع لصالح أشخاص في مناطق بعيدة عن مناطق إقامتهم، ثم عرضن عليهم مبلغ دولارَين وفرصة التبرع لصالح مؤسسة خيرية للأطفال، إما محلية وإما دولية. بغضّ النظر عن تاريخ تنقل المشاركين، كان الطلاب الذين وجهت الباحثات تفكيرهم نحو التنقل وتخيلوا أنهم يغيرون مكان إقامتهم باستمرار يرغبون بالتبرع للمستفيدين غير المحليين أكثر.
وفي الدراسة الرابعة، اختبرت الباحثات تأثير التنقل السكني على الهوية المحلية: هل يضعف ارتباط الأشخاص الذين يعدّون أنفسهم كثيري التنقل بمجتمعهم المحلي؟ جمعت الباحثات 628 شخصاً من منصة بروليفيك (Prolific) لتوفير المشاركين في الدراسات الاستقصائية، ووجهن تفكيرهم بطريقة مشابهة للطريقة التي اتبعنها في الدراسة السابقة، ثم طلبن من المشاركين التبرع بمبلغ افتراضي من المال لصالح قضايا محلية وعالمية؛ على الرغم من أن المشاركين الذين توجهت أفكارهم إلى الشعور بأنهم يتنقلون باستمرار كانوا راغبين أكثر في التبرع لصالح القضايا العالمية، فهم لم يفقدوا رغبتهم في التبرع لصالح القضايا المحلية.
تقول وانغ إن بحثاً سابقاً يشير إلى أن الأشخاص الذين غيّروا أماكن إقامتهم تقلّ سلوكيات التضامن الاجتماعي لديهم أثار اهتمامهنّ بمسألة التنقل السكني،
وفي إشارة إلى نشأتها في الصين وتنقلها بين بكين ومينيسوتا وماريلاند تقول: "تنقلنا أنا وزميلتاي في تأليف البحث كثيراً في الماضي،ولكننا لم نصبح أقلّ فائدة للمجتمع".
شرعت المؤلفات في إعادة تعريف المعنى الذي تحمله كلمة "مفيد للمجتمع"، واعتمدن التنقل السكني مقياساً لأنه من المنطقي أن يشعر الأشخاص الذين عاشوا في أماكن مختلفة بارتباط أكبر مع الناس في العالم أجمع. تقول وانغ إن البيانات تثبت صحة الفرضية: "بالمقارنة مع أشخاص لم يغيروا أماكن إقامتهم قطّ، قدم الذين تنقلوا كثيراً تبرعات أكبر للمستفيدين في مجتمعات بعيدة، سواءً كانوا على صلة بهذه المجتمعات أم لا".
يقول أستاذ مادة التسويق في جامعة إلينوي بمدينة أوربانا-شامبين، كارلوس توريلي، إن الورقة البحثية تحمل رأياً جديداً ومعاكساً لفكرة أن الناس يفضلون بصورة أساسية التبرع للقضايا القريبة من محيطهم نتيجة الانتماء إلى المجموعة، وفي المقابل يعتقد الأفراد الذين تنقلوا في السابق أنهم ينتمون أيضاً إلى مجموعة مختلفة؛ مجموعة مواطني العالم.
ويقول أيضاً: "الفكرة هي أنك حين تغير مكان إقامتك يضعف ارتباطك بمكان محدد، وترى أنك تنتمي إلى العالم بأكمله ومنفتح عليه ولست محدوداً بمنطقة محلية ضيقة".
ياجين وانغ وآمنة كرماني وشاولين لي: "ليس قصياً فلا تطاله أيدي العَون: التنقل السكني، والهوية العالمية، والتبرعات للمستفيدين البعيدين"، من مجلة" أبحاث المستهلكين" في إصدارها المقبل.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.