سجّل العالم في يوليو/تموز الفائت من العام 2023 أعلى درجات حرارة في تاريخه، إذ ضاعفت مدن وبلدات عدة في جميع أنحاء العالم إجراءاتها للحفاظ على سلامة سكانها. يرجع تسجيل درجات الحرارة القياسية إلى عدة عوامل، مثل التغير المناخي وظاهرة النينيو (ارتفاع الحرارة الدوري لمياه المحيط) في المحيط الهادئ، كما يُظهر هذا الارتفاع التحديات الحقيقية التي تواجهها المدن. يعد ارتفاع درجات الحرارة حالياً أكثر أسباب الوفاة المتعلقة بالمناخ، ويؤثر سلبياً في إنتاجية قوة العمل ويتسبب في خسائر اقتصادية بسبب العمال الذين تتأثر صحتهم وظروف عملهم بالحرارة الشديدة.
أبرزت أبحاث عدة حول العدالة المكانية على مدار العقد الماضي تأثير الفوارق بين أحياء المدينة في جميع جوانب الحياة، وتعني العدالة المكانية عدالة توفير الموارد والبنية التحتية التي تسهم في تحسين نوعية الحياة للمجتمعات المختلفة في المدينة. إذ يؤثر مكان إقامتك وعملك في حياتك بدرجة كبيرة، فهما يحددان مستوى ارتفاع درجات الحرارة ليلاً ونهاراً، وعوامل الحماية المتوافرة لديك من الطقس الحار، مثل المساحات الخضراء المتاحة وفيء الأشجار المتوافر عندما ترتفع درجة الحرارة. ولا يتوزع الناس على الأحياء كيفما اُتفق عليه، بل نتيجة التمييز العرقي الهيكلي وعدة عوامل اقتصادية مثل الاستطباق والتهجير التي تدفع أصحاب الموارد القليلة إلى أماكن ذات بنية تحتية اجتماعية ومادية ضعيفة لا توفر الشروط الصحية المناسبة. ويُعد الأطفال وكبار السن وسكان العشوائيات والمجتمعات المهمشة الأخرى أكثر عرضة لتأثيرات الحرارة الشديدة من غيرهم.
قد يبدو ذلك مروعاً، لكن ما يدعو للتفاؤل هو فهم العديد من قادة المدن لهذه القضايا واستخدامهم التنمية الاقتصادية والسياسات المناخية والصحية والنقل والبنية التحتية لتحسين الصحة والتصدي للتغير المناخي وتعزيز كل من العدالة الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعاتهم. في عام 2021، عُيّن أول "كبير مسؤولي ارتفاع درجات الحرارة" في عدة مدن من بينها أثينا وميامي ودكا، إذ أُنشئ هذا المنصب للتعامل مباشرة مع تحديات التغير المناخي الشديدة والكبيرة التي تواجه العالم.
ينتظر الناس من رؤساء البلديات ومجالس المدن على نحو متزايد أن يكونوا "فاعلين" وليس "متقاعسين" لأنهم في موقع المواجهة المباشرة لأزمة المناخ. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن هؤلاء القادة أقرب إلى المجتمع وثمة تحمّل مسؤولية على المستوى المحلي؛ إذ يمكن أن يؤدي الإخفاق في التصرف إلى خسارة الانتخابات. وفي الوقت الذي يرغب فيه الكثير في اتخاذ إجراءات أكثر طموحاً وسرعة بشأن المناخ على المستوى العالمي، قد نجد العزاء في العمل على مستوى مدننا لتحقيق النتائج.
باختصار، تُعد المدن مواقع رئيسية لتجارب التصدي للتغير المناخي، ويتطلع قادة المدن بوتيرة متسارعة بعضهم إلى بعض لاكتساب الأفكار والدروس والإلهام.
التعاون اللازم لمواجهة التحديات العالمية
أظهرت جائحة كوفيد-19 أهمية ألا تواجه المدن التحديات منفردة. في شبكة سي 40 سيتيز (C40 Cities)العالمية المؤلفة من نحو 100 مدينة كبرى تعمل على التصدي للتغير المناخي، ألقى الوباء الضوء على قوة العمل الجماعي والمنصات التي تسهل التعلم المشترك السريع. في ظل التحديات الطارئة للجائحة، تعاون رؤساء البلديات في شبكة سي 40 سيتيز للعثور على كافة الحلول، مثل توفير وسائل النقل العام الآمنة ودعم العمال الأساسيين (وخاصة عمال وتجار الاقتصاد غير الرسمي) وتنفيذ نهج مبتكر لتوزيع منسق للغذاء. وذلك دليل آخر على أن هذه المدن تتمتع بتجهيزات جيدة للتعلم والتعاون، وأنها قادرة على التعاون في مواجهة التحديات العالمية الكبرى.
وينطبق الشيء نفسه على العمل المناخي. على سبيل المثال، على الرغم من خطط الرئيس السابق للبرازيل جايير بولسونارو المناهضة للبيئة، تعاون بعض أكبر مدن البلاد مثل ساو باولو، وريو دي جانيرو، وسلفادور، وكوريتيبا لتطوير خطط عمل مناخية طموحة تتماشى مع اتفاق باريس للمناخ، وتلك الخطط قيد التنفيذ حالياً. أطلق رئيس بلدية مدينة كوريتيبا رافائيل جريكا رسمياً مشروع الهرم الشمسي للمدينة في وقت سابق من هذا العام، وهو أول محطة للطاقة الشمسية تُبنى في مكبِّ نفايات سابق في أميركا اللاتينية، إلى جانب استثمارات عدّة في الألواح الشمسية للمباني في جميع أنحاء المدينة. اكتسبت مدينة كوريتيبا أفكاراً مُهمة حول أفضل السبل لتوسيع نطاق نجاحات المشروع، إذ حددت نحو 2,600 مبنى عام في جميع أنحاء المدينة بوصفها مواقع مناسبة لمشاريع طاقة كهروضوئية مماثلة. يسهم الهرم الشمسي في تقليل انبعاثات الكربون بما يعادل إزالة أكثر من 20,000 سيارة من الطريق مدة عام واحد، بالإضافة إلى توفير أكثر من 500,000 دولار أميركي سنوياً.
تتمثل العوامل الأساسية لنجاح أي مشروع مشابه في التعاون الوثيق بين الإدارات الحكومية المختلفة منذ بداية المشروع، واعتماد نهج شامل مع المعنيين الداخليين والخارجيين، وتحديد القوانين البيئية والضريبية ذات الصلة وحقوق الأراضي، والعثور على شركاء ماليين أقوياء لتأمين التمويل المناسب والمستدام.
تجاوزت النتائج حدود كوريتيبا، إذ ألهم مشروع الهرم الشمسي مدناً أخرى. في شهر يوليو/تموز الماضي، وقعّت بلدية مدينة ريو دي جانيرو شراكة بين القطاعين العام والخاص واتحاد شركات ريو سولار (Consortium Rio Solar) لتنفيذ مشروع كاريوكا سولاريوم (Carioca Solarium). وخلال الـ 12 شهراً المقبلة، سيُجهّز مكب نفايات خارج الخدمة في منطقة سانتا كروز الواقعة غرب المدينة بـ 11,000 لوح شمسي، ما ينتج طاقة نظيفة لـ 45 مدرسة و15 وحدة رعاية صحية، ويوفر نصف مليون دولار يُصرف على الطاقة سنوياً. امتد الاهتمام بهذا النموذج إلى مدن مومباي وكيب تاون وداكار وجاكرتا وكوالالمبور.
دروس لقادة المدن حول العالم
ما نراه في البرازيل واحداً من مئات الأمثلة على التنسيق والتعلم العالمي، ومن الضروري فهم أوجه التعاون والتبادل. خلال عملي في شبكة سي 40 ومع شبكات المدن الأخرى، شهدت لحظات صناعة القرار بشأن عمليات التعاون بين المدن، ولاحظت ثلاثة دروس يمكن أن تساعد قادة المدينة على تسريع التعلم واتخاذ الإجراءات.
- لا يمكن دائماً تكرار الأفكار الجيدة كما هي، ولكن يمكنها إلهام الآخرين والتكيف بحسب سياقاتهم. يعمل العديد من الحلول على تقليل الانبعاثات وتحسين جودة الهواء، مثل تطوير البنية التحتية للدراجات أو أنظمة النقل السريع بالحافلات، والتي يمكن لأي مدينة نسخها وتكرارها إلى حد بعيد. لكن بالنسبة إلى المحاولات والمبادرات الأكثر تعقيداً، نتعلم الدروس المهمة عبر تبادل الاستراتيجيات حول تعزيز الدعم وتصميم حلول مناسب لمدينة بعينها. على سبيل المثال، ساعد التوجه لإغلاق بعض الشوارع في المناطق السكنية في برشلونة أمام حركة مرور المركبات على إنشاء "مربعات سكنية عملاقة"، التي ساعدت بدورها على توليد مجموعة من المشاريع المماثلة.
اقترح المهندس المعماري سلفادور رويدا مفهوم المربعات السكنية العملاقة أول مرة في عام 1987، وفي خطة التطور العمراني الممتدة من عام 2013 إلى عام 2018 في برشلونة، قدَّمت المدينة فكرة (superilles) وتعني بالإسبانية "الجزر العملاقة"، والمعروفة أيضاً باسم المربعات السكنية العملاقة. أنشأ هذا المشروع الممول من الحكومة جزيرة للمشاة ومساحات خضراء هادئة، وأعاد الشوارع إلى الناس دون الحاجة إلى طلب أراضٍ إضافية، وذلك عن طريق دمج عدة كتل صغيرة لتشكل كتلة واحدة كبيرة. كان الهدف تقليل التلوث المروري وإعطاء الأولوية للتطور الصحي المستدام، كما كان خطوة جريئة لإنشاء مربعات مؤلفة من تسع كتل حوّلت الشوارع المخصصة للسيارات إلى أماكن عامة للنشاطات الاجتماعية والمشي وركوب الدراجات.
تواجه المدن التي تسعى إلى تنفيذ مشاريع مماثلة اعتراضات عدة بسبب المخاوف من تأثيرها في الشركات الصغيرة أو الأحياء المجاورة. يتلخص الدرس المستفاد من تجربة برشلونة في أنه يمكن لمجالس المدينة إعطاء الأولوية للأحياء ذات الدخل المنخفض لمعالجة عدم المساواة في النتائج الصحية وتوفير المساحات الخضراء، وذلك من خلال التركيز على العدالة المكانية والمشاركة المجتمعية الحقيقية. بعد العديد من المشاريع التجريبية الناجحة والتحليل الدقيق لتأثيرات المشروع بعد التنفيذ، تخطط برشلونة لإقامة 503 مربعات سكنية عملاقة في جميع أنحاء المدينة بحلول عام 2030. واليوم، بدأ أكثر من 250 مدينة دراسة طرق إقامة المربعات السكنية الكبيرة، مثل برلين وبوغوتا ولوس أنجلوس. لا تتعلم المدن الابتكارات التكنولوجية بعضها من بعض فحسب، بل تتعلم الابتكارات الاجتماعية الجوهرية لتحقيق التحول الجذري.
- إن لم تكن أهداف العمل المناخي مدروسة بعناية، فقد تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة كما لو أننا لم نفعل شيئاً. يتطلب تعزيز المساواة عملاً مدروساً بعناية. وتُعد برامج كفاءة الطاقة وتجديد المباني من الإجراءات المُهمة للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة وتلبية الطلب على الطاقة والتكيف مع التغيرات الحادة في درجات الحرارة. ولكن تتطلب المبادرات التي تشجع على تجديد المنازل أو شراء السيارات الكهربائية عمليات شراء بالدفع مقدماً، ما يجعلها في متناول المجتمعات ذات الدخل المتوسط أو المرتفع. قد توسع هذه المبادرات فجوة عدم المساواة الحالية ما لم تركز على المساواة، لا سيما في ظل أزمة تكلفة المعيشة الحالية وتأثيرها في المجتمعات المنخفضة الدخل ومجتمعات ذوي البشرة الملونة وسكان العشوائيات والفئات المهمشة الأخرى.في عام 2020، قادت عمدة مدينة كويزون في الفلبين جوي بيلمونتي المدينة في إعادة هيكلة الأقسام المسؤولة عن التغير المناخي، لكنها لم تتوقف عند هذا الحد؛ إذ أكدت أن المساواة كانت أساس هذا العمل. وأنشأت وحدة جديدة مسؤولة عن تعميم المساواة وإدماجها في العمل المناخي. يهدف هذا الإصلاح الجذري إلى ضمان أخذ المناخ وعدم المساواة في حسبان المشاريع التي تُخطط وتُنفذ. وتتمثل إحدى الطرق التي تتبعها المدينة لتحقيق ذلك في المشاركة الحقيقية والهادفة والتشاور مع المجتمع، وبخاصة المجموعات التي يصعب الوصول إليها. تقدِّم مدينة كويزون مشاريع تسهم في تحسين سلامة الكوكب والتركيز على المساواة إلى جانب الإصلاح المؤسسي. على سبيل المثال، حصلت المدينة على التمويل الكافي لتحويل مدارسها إلى الطاقة الشمسية لتوفير طاقة نظيفة ومعقولة التكلفة وموثوقة للمجتمعات. سيساعد المشروع المدينة على خفض تكاليف الطاقة في 50 مدرسة من خلال تقليل استجرار الكهرباء الباهظة الثمن من الشبكة العامة. ويمكن تخصيص المال المدَّخر للمواد التعليمية، وتحسين المرافق، ورفع مهارات المعلمين. كما تسهم الطاقة الشمسية النظيفة في تقليل تلوث الهواء في المدينة وتحسين الحالة الصحية لجميع المجتمعات.
- يجب أن يبحث القادة في العواقب السلبية لعدم المساواة في الصحة في المجتمعات عند تنفيذ الحلول المناخية. تتعرض المجتمعات ذات الدخل المنخفض لتأثيرات تراكمية، لأن نقص الموارد يعني أن السكان يعيشون في مناطق ذات نوعية حياة متدنية في المدينة (أي مساحات خضراء قليلة وجودة هواء متدنية) ومساكن متدنية الجودة (أي ضعف في عزل الأسقف ولا كهرباء)، وبالتالي يعانون المشكلات الصحية بدرجة أكبر من باقي السكان. قادة المدن الذين يبدؤون بالبحث عن المشكلات والبيانات المتعلقة بالتفاوتات الصحية المنهجية في مدنهم، ويتخذون إجراءات مناخية حضرية، يفتحون عالماً من الحلول الإبداعية الجديدة.على سبيل المثال، يمكن أن يعرّض المناخ الرطب والبارد سكان مدينة كيب تاون للإصابة بمرض السل وأمراض أخرى، خاصة في الأحياء ذات الدخل المنخفض حيث يفتقر السكن غالباً إلى العزل المناسب. أدركت قيادة المدينة إمكانية تحسين صحة المجتمعات وكفاءة الطاقة في المباني من خلال تجديد الأسقف في المجتمعات ذات الدخل المنخفض. أظهرت نتائج المشروع التجريبي تحسناً كبيراً في مستويات الصحة والسعادة لدى السكان الذين حصلوا على أسقف معزولة جديدة، كما انخفضت مستويات الإجهاد المرتبطة بالعبء المالي لتكاليف الطاقة والرعاية الصحية. تخطط المدينة بعد تلك التجربة الناجحة لتوسيع البرنامج ليشمل 40,000 منزل، مع تخفيضات متوقعة للانبعاثات تصل إلى 28,000 طن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً.
تقدِّم هذه الأمثلة لمحة عن حجم تأثير رؤساء البلديات والمجالس المحلية على العلاقة بين المناخ والصحة والمساواة. كما تشارك هذه المدن بكثافة في العديد من الأنشطة الدبلوماسية المتعلقة بالمدن عبر شبكات المدن وقادتها. وهي تتعلم الحلول المجربة والمختبرة وتتبادلها، وتنشئ منصات تعزز المنافسة الصحية بين المدن العالمية لزيادة طموح العمل المناخي وحجمه ووتيرته. يوفر التعاون بين هذه المدن مصدراً لا مثيل له من معارف الأقران ومواردهم والمنفعة المتبادلة. تؤتي الدبلوماسية ثمارها في عالم تتنامى فيه العولمة والمناطق الحضرية.
عندما نتذكر كيف تعامل العالم مع أزمة المناخ، سنتذكر قصة تواصل المجتمعات والمدن والبلدان. وبقدر ما نحتاج إلى تعاون قادة العالم، نحتاج إلى تعاون رؤساء البلديات ورؤساء أقسام النقل ورؤساء الهيئات المختلفة في مجالس المدن والأفراد في المدن. عندما تستمر هذه الروابط في النمو وينتشر التعلم من تجارب المدن الأخرى، سيزدهر العمل المناخي على نطاق غير مسبوق، وسنشهد مستقبلاً مشرقاً يزدهر فيه الجميع في كل مكان.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.