نشأ "نبيل" في أسرة اعتادت تقديم يد العون للغير دون تفكير، بدأ يخرج بعد مواعيد مدرسته بصحبة أبيه خلال أيام محددة والاطمئنان على عدد من الأسر التي يعرف أنها لا تمت لهم بأي صلة قرابة. ومع بلوغه العقد الثالث من العمر، كان "نبيل" يحث زملاء الدراسة للتعاون فيما بينهم، والوصول بيد الخير إلى الكثير من الأسر المحتاجة التي تعاني من تداعيات الفقر، سواء مرض خطير، أو انعدام سبل الراحة والأمان في أثناء أصعب شهور السنة برداً، أو مساعدة زميل بكتاب دراسي. ومن هنا، جاء مفهومه عن العمل الخيري، وتعزز مع مرور الأعوام.
يشير مفهوم العمل الخيري إلى تقديم خدمة ما عن طريق الإرادة الحرة دون توقع مكاسب مالية بالضرورة، وخلال العقود الماضية، تأثرت الأعمال التطوعية بالمجتمع بشكل متنوع وعميق من شأنه أن يعزز الاندماج الاجتماعي، ومساعدة الفئات المهمشة، وبالتالي خلق مجتمع مدني تفاعلي يمكنه المساهمة في بناء الاقتصاد وتأسيس مجتمع أكثر أماناً وقوة، ومع ذلك، فإن العمل الخيري يمر بالكثير من الأمور الصعبة التي قد تحد من قوته المجتمعية بداية من الرسالة التي تُقدم لدعوة الغير إلى التطوع أو تقديم المساعدة لمن يحتاجها، فالأمر يتخطى مرحلة النشأة التربوية، كما حدث مع "نبيل".
تحديات أمام رسالة العمل الخيري
انتشر مفهوم العمل الخيري في المنطقة العربية بصفة كبيرة، متعلقاً بعدد من القضايا التقليدية بداية من الفقر، أو الدعم في أثناء الأزمات، أو تقديم يد العون إلى الطلاب، وقد يستمر أغلب أصحاب العمل الخيري بالتبرع لصالح القضايا الخيرية "التقليدية"، لكن بعض المعطائين العرب يبحثون عن منهج جديد لتقديم إسهاماتهم وملاحظة أثرها في المجتمع، فهو أولاً وأخيراً، ذلك النشاط الذي يقدمه الأفراد أو المؤسسات بهدف تقديم سلع أو خدمات مجانية يمكنها مساعدة المحتاجين.
لكن للأسف تخضع بعض طرق الدعوة إلى الإقدام على العمل الخيري أو الأعمال التطوعية إلى استنكار شديد؛ نظراً للرسالة التي تُقدّم بها. فقد قدّم الفيلسوف السلوفاني "سلافوي جيجك" (Slavoj Žižek) في كتابه "العيش في نهاية الزمان" (Living in the End Times) فلسفة واقعية عن ماهية الرسائل التي تحث الأفراد على الانخراط في العمل الخيري، فهناك من يشبّه إنقاذ حياة طفل بسعر كوبين من القهوة، وكأنها دعوة للاستمرار بالحياة دون الشعور بالذنب فقط، والشعور بالرضا لإمكانية المشاركة في الكفاح ضد المعاناة التي يواجهها الغير، وعدم الدعوة الفعلية لتغيير حياة الأفراد إلى الأفضل.
وحالياً، فإن حملات طلب الدعم وجذب التبرعات، تواجه الكثير من المشكلات في طرح رسالة محددة، فعلى سبيل المثال، نجد الأطفال المصابين بمرض السرطان سنوياً يظهرون في رسائل جمع التبرعات خلال شهر رمضان، يحكون بلغة ركيكة قصتهم في المعاناة مع المرض، وفي هذا السياق، يمكن الاسترشاد بما أوضحته الباحثة المصرية فريدة مصطفى حسين الهندي في دراسة بعنوان "أمن المستهلك والدور المعدل للانفتاح على الخبرة في العلاقة بين أبعاد الابتزاز العاطفي ونية التحول إلى علامة أخرى"، حيث تؤكد وجود تأثير إيجابي لأبعاد الابتزاز العاطفي سواء الشعور بالخوف، أو الشعور بالذنب، أو الشعور بالالتزام، في السلوكيات؛ ما يدعو المؤسسات إلى الالتزام بممارسات تسويقية أخلاقية يمكنها التأثير الإيجابي في المجتمع. وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاعت العديد من البرامج والمبادرات تحديد رسالة واقعية مؤثرة تدعو إلى العمل الخيري، وتسرد تجارب فعلية يمكنها التأثير في المجتمع، وحث أفراده على الانخراط في مد يد العون.
برنامج قلبي اطمأن
بعيون تقاوم الألم، استطاع الطفل "عوّاد" أن يسرد قصته بردود واضحة حول عدم حصوله على هوية، وبحثه عن الطعام، وواقع العيش برفقة جدته، بعدما رحل والديه وإخوته الأربعة بالكامل إثر انهيار منزلهم، وكأنه يقاوم الدموع بعدما استرجع مشهد رحيلهم، ووجوهم التي غابت عنها الحياة أمام عينيه. قصة "عواد" الذي تماسك في أثناء حديثه بين الانقاض ويغمره الأتربة، عن هدية والدته الراحلة التي لا يخلعها أبداً، تركت أثراً كبيراً في نفوس كل من شاهده، واعتبر الكثيرون أن كل المشاكل التي قد يمرون بها لا تُقارن بما يعانيه الأيتام في المخيمات.
تلك الحلقة من برنامج "قلبي اطمأن"، شهدت تفاعلاً كبيراً بعد عرضها، خاصة بعدما طرُح السؤال الأهم على عواد، وهو: "ما هي أمنيتك؟"، لم يأخذ الطفل الصغير سوى ثانيتين ليرد: "أتمنى أن يكون والدي على قيد الحياة"، كما تمنى أن لا ترحل جدته أبداً، وفي حالة حصوله على المال، لم يتردد "عوّاد" ليقرر أنه سيعطيه لعمته حتى تشتري لهم الطعام. هنا، عرف المشاهد ماهية الأمنيات التي تراود أيتام المخيمات، فلا وجود لأمان بعد فقدانهم للأهل، ولا وجود لبراءة طفل يسعى للاستمتاع بلعبة ما بعد مشهد رحيلهم أمامه.
رحلات واقعية
بعد خمسة مواسم، في رحلة قرر مقدمها أن يتنحى عن دور البطولة، ويترك هذا الدور لكل من صمد في وجه التحديات المجتمعية الصعبة، والظروف الطارئة التي قد يعاني منها في الوطن العربي، سلّط البرنامج الضوء على القضايا الاجتماعية المهمة سواء في التعليم، أو عمالة الأطفال، أو تكلفة العلاج، وغيرها الكثير من الأمور المتعلقة بحل المشكلات المجتمعية، لذلك يعتبر برنامج "قلبي اطمأن" من أهم النماذج التي طرحت قضايا متعددة عربياً، واستهدف المجتمع برسالة واقعية دون الوقوع في فخ الابتزاز العاطفي.
وفي موسمه الخامس، حرص البرنامج على تقديم حلقة خصيصاً تحت مسمى "تجربتنا في العمل الخيري"، ولم تمتنع رسالة البرنامج من توضيح أن العمل الخيري وتقديم يد العون قد يمر ببعض التحديات الصعبة، بينما أشاروا إلى أهمية تعزيز هذه الرسالة الهادفة التي يمكنها القضاء على الفقر. أثارت الحلقة المخاوف العربية تجاه نسب الفقر المرتفعة في المنطقة، حيث رجح البنك الدولي في تقريره "إحياء التكامل الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عصر ما بعد جائحة كورونا" الصادر عام 2020، ارتفاع عدد الفقراء في المنطقة من 178 مليون نسمة إلى 200 مليون نسمة، من أصل نحو 450 مليوناً يسكنون المنطقة. وفي الوقت الذي وصلت فيه نسبة الفقر في إحدى الدول العربية إلى 82%، تمكنت بعض الدول الأخرى من العمل على تقليل نسب الفقر؛ بفضل وفرة الموارد، وحُسن الإدارة.
رسالة تفاعلية
تتمحور رسالة برنامج "قلبي اطمأن" حول تسليط الضوء على حالاتٍ اجتماعية واقعية، حيث يسافر الشاب الإماراتي "غيث" إلى بلدانٍ مختلفة. وقد تعمد مُقدمو البرنامج على جعل شخصيته مجهولة، وذلك للتركيز في المقام الأول عمل الخير وليس على الشخص الذي يقوم بهذه المهمة، لذلك فالجميع حالياً يربط بينه وبين المعطف والشنطة، وهم على يقين بأنهم على وشك الإبحار في عالم جديد لمدة 30 دقيقة، يُتركون بعدها مع الكثير من القرارات المتعلقة بالانخراط في العمل الخيري.
وفي رمضان للعام الحالي، أطلق البرنامج حملة "إصنع سعادة جديدة" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تحث مستخدمي ورواد هذه المواقع ومتابعي البرنامج على تقديم التبرعات، دون رتوش تجميلية، بل برسالة واضحة تماماً، تعتمد على دقة البرنامج ورسالته الواقعية، والتي تُثبت نجاحها بالفعل، والدليل ملايين المشاهدات التي يحصدها والتفاعل القوي من كل أنحاء العالم.
وفي الختام، يمكننا الاستشهاد بما تطرحه رسالة برنامج "قلبي اطمأن" قائلين: "أنتم أيضاً مدعون لتكونوا جزءاً من رحلة التغيير الاجتماعي هذه؛ طالما الدنيا بخير والناس للناس"، فالرسالة الحقيقية للعمل الخيري يمكن أن تُدخل الألم والأمل إلى نفوس كل الناس، وتدعوهم دون إجبار أو ابتزاز عاطفي، إلى الانخراط في واقع يمكنهم العمل على تغييره بالفعل.