باتت الصحة النفسية عنواناً مهماً للنقاشات نظراً لازدياد مشكلات الصحة النفسية مثل حالات الاكتئاب والقلق في الولايات المتحدة والعالم. وعدت الحكومات ووسائل الإعلام والشركات والمؤسسات الأكاديمية والمؤسسات غير الربحية بالتزامات كبيرة لمعالجة المعدلات المقلقة من اضطراب الصحة النفسية والوفيات الناجمة عن اليأس مثل الجرعات الزائدة من المخدرات وحالات الانتحار، لكن هذه الالتزامات غير كافية. وعلى الرغم من النظر إلى الصحة النفسية على أنها من الاختصاصات الطبية، فثمة قناعة متنامية أن زيادة توفير الخدمات الطبية الخاصة بالصحة النفسية مثل العلاج والطب النفسيين لن تلبي الاحتياجات جميعها في الوقت الحالي. ويرجع ذلك إلى عدد من العوامل مثل قاعدة الأدلة المتنامية التي تشير إلى إمكانية تمتع أفراد المجتمع بكفاءة الأطباء نفسها في تقديم بعض أشكال دعم الصحة النفسية وعدم فصل الصحة النفسية عن مسبباتها غير الطبية مثل القمع والظلم.
وفي الوقت نفسه، يتعامل قطاع التغيير الاجتماعي والابتكار مع مشاكلنا الجماعية التي تشكل أكبر تحديات العصر. ويشهد العاملون منا في قطاع التغيير الاجتماعي ومجتمعاتهم المعاناة اليومية الناجمة عن الفقر والظلم والعنف والتهميش وتدمير المناخ. إذ نعمل في الخطوط الأمامية للاستجابة للأزمات، وفي كثير من الأحيان نجد أنفسنا ممزقين بين أولويات الإغاثة الفورية والإصلاح الطويل الأجل. وتخيّم العناوين الحالية مثل التضحية والبطولة الاجتماعية وندرة الموارد على قصص جهودنا في العمل وشجاعتنا الكبيرة، لكنها لا تخلوا من مواقف الاستبعاد والاستغلال. فلا عجب أن تسود قصص الإنهاك وتخلي عدد لا يحصى من قادة التأثير الاجتماعي عن رسالتهم دون رجعة على الرغم من موهبتهم الهائلة وشعورهم بأهمية رسالتهم.
الصحة النفسية حاجة مُلحة لنجاح التغيير الاجتماعي المعني بالحرية وحل المشكلات الجماعية، وذلك لأنها تساعد على تجاوز صعوبات الحياة وتمدنا بالقدرة على النمو ومساعدة الآخرين. ونظراً لاستفادة نسبة كبيرة من السكان من الإمكانات الكبيرة التي تقدمها الصحة النفسية لهم، يجب ألا تكون مسؤولية قطاع الصحة الرسمي وحده. ولتحقيق التأثير الدائم وللتمتع بالصحة النفسية الجماعية التي نحن بأمسِّ الحاجة إليها، من الضرورة بمكان دمج الصحة النفسية في منظومة التغيير الاجتماعي.
وذلك الدمج ضروري وممكن. من خلال منظومتنا المؤلفة من المبتكرين الاجتماعيين في تجمّع كاتاليست 2030 مينتال هيلث كولابوريشن (Catalyst 2030 Mental Health Collaboration)، وفي مؤسستي بريو (Brio) ومينتال هيلث أميركا (Mental Health America)، شهدنا الإمكانات والنتائج الرائعة لدمج الصحة النفسية في عمل التغيير الاجتماعي. يسعى تجمع مينتال هيلث كولابوريشن بصفته مجموعة من الرواد والمتخصصين الاجتماعيين إلى تسريع الابتكار في مجال الصحة النفسية العالمية، ويرى فيه وسيلة لتحقيق تأثيرين اجتماعي وبيئي مهمين وذوَي فاعلية كبيرة وشمولية واسعة.
الصحة النفسية مورداً للتغيير
تنبع أهمية الدور الذي تؤديه الصحة النفسية في تحقيق تغيير اجتماعي حقيقي من أهمية الصحة النفسية نفسها. إذ يقف تراجع الصحة النفسية حائلاً أمام الفرد أو المجتمع لتوظيف قدراتهما والفرص المتوفرة لهما، وفي المقابل تمكّن الصحة النفسية الجيدة الفرد والمجتمع من تحقيق النمو والازدهار. ويمكن للصحة النفسية أن تدعم استمرارية أي تغيير اجتماعي يتطلب مشاركة وجهداً دائمين بوصفها مورداً داخلياً مهماً.
كما يساعدنا دمج الصحة النفسية في نظم التغيير الاجتماعي على خلق ثقافة تتواءم مع العمل الخيري. فعندما نعمل على تغيير المجتمعات والبنى التنظيمية، نكافح لتغيير المعتقدات وإزالة العقبات الناتجة عن القواعد والأنظمة الموجودة داخلنا وفي طريقة عملنا. وسواء كانت تلك العقبات آثار الصدمات والأحداث المؤسفة، أو تمجيد العمل المضني، أو الإخفاق في خلق فرص للتواصل الصادق، أو تجاهل رفاهنا، قد نخفق في معالجة المعاناة بالطرق التي نتفاعل بها بعضنا مع بعض وبتجريب الطرق القديمة نفسها، وذلك يقلل من احتمالية نجاحنا على نحو مستدام.
لكن ما يدعو للتفاؤل وجود مسارات عدة لدمج الصحة النفسية بوصفها عنصراً حاسماً في التأثير الاجتماعي المستدام. سينضم إلينا على مدار هذه السلسلة صناع التغيير الشامل في هذا المجال لتبادل دراسات متعمقة حول طرق استفادة القادة والمبتكرين داخل الولايات المتحدة وخارجها من الصحة النفسية لدفع التغيير الاجتماعي إلى الأمام. إذ تزودنا وجهات النظر المتنوعة بالمعرفة المطلوبة لإثراء محادثاتنا حول قدرة الصحة النفسية على زيادة التأثير عبر أربعة مجالات حاسمة في التغيير الاجتماعي، وهي المناخ وإحلال السلام والنوع الاجتماعي ومكان العمل.
كيف تُشرك الصحة النفسية في منظومتك للتغيير الاجتماعي؟
نحتاج للنهوض بمستقبل زاهر إلى المزيد من القادة وفرق العمل لدمج الصحة النفسية في التغيير الاجتماعي. تستغرق هذه العملية وقتاً طويلاً، لكننا نؤمن بفاعلية التقدم إلى الأمام ولو خطوة واحدة. إليك 4 ممارسات رئيسية سنبحثها بتعمق أكثر خلال هذه السلسلة.
1. تخيل نفسك عضواً في منظومة الصحة النفسية وعزز المنظومة بالدعم المتبادل.
سنُحدث تحولات كبيرة عندما ندرك أن الصحة النفسية مسؤولية الجميع وليس مسؤولية متخصصي الصحة النفسية فحسب. إذ يقودنا الإدراك البسيط لتأثير ضعف الصحة النفسية على مجتمعاتنا إلى تحديد الموقف والسرعة اللتين يجب أن نعمل بموجبهما، وما هو النجاح المطلوب، وأهمية المشاركة الجماعية في عملية التعافي النفسي. ابدأ بالتعرف إلى آثار الصدمات وأفضل طريقة للتعاون مع الآخرين؛ ثم تعرف إلى الموارد المحلية المتاحة ومصادر الدعم.
في مقالة قادمة حول قدرة الصحة النفسية على تعزيز إحلال السلام، ستروي سيلينا دي سولا من مؤسسة غلاسوينغ إنترناشونال (Glasswing International) التحولات المهمة في طريقة التفكير والضرورية للعمل مع الفئات السكانية الضعيفة، والطرق الأساسية لدراسة تأثير الصحة النفسية والصدمات على عملنا، وكيف نصبح داعمين نفسيين ذوي معرفة في المجتمعات التي نخدمها.
2. احترم التأثير العاطفي والنفسي للظروف الصعبة التي نواجهها.
تُعد الاستجابات العاطفية مثل الحزن والإحباط والغضب استجابات صادقة للظلم وهي مناسبة لمواجهته في العمل نحو التغيير الاجتماعي. إذ تدفعنا هذه المشاعر غالباً نحو العمل، لكن من المهم أيضاً إنشاء مساحات لمعالجة هذه المشاعر وتوجيهها حين ظهورها. يساعدنا توفير نقاشات مفتوحة وحيز للتعبير بالفن، ودروس في الصحة النفسية، ومجموعات الدعم على احترام تجاربنا بدلاً من تجاهل التأثير العاطفي والنفسي الذي يمكن أن يتراكم ويتسبب بالإرهاق بمرور الوقت.
في مقالة قادمة حول القواسم المشتركة بين حركات الصحة النفسية والمناخ، سينضم إلينا خبراء الصحة النفسية ليان زيتز وجون جامير أروتا لمناقشة مواجهة المعاناة الجماعية، ومعالجة الأزمات الأخلاقية، وتوفير الفرص بين مختلف الأجيال للتغيير الطويل الأمد والتعافي النفسي.
3. وفِّر فرصاً للتواصل والدعم المبني على الخبرات المشتركة.
يساعد الدعم المقدم من الذين يعيشون التجربة نفسها على الشفاء ويشعرنا بأننا لا نواجه المشكلة وحدنا. وتتيح لنا هذه العلاقات والتفاعلات الفرصة لتلقي الدعم والإلهام من أشخاص نشعر أنهم يفهموننا ويفهمون تجاربنا على نحو أفضل. بالإضافة إلى باقي موارد الصحة النفسية، يمكننا تحديد الأولويات وتقديم المساحات والمبادرات التي تسمح للأفراد بالتواصل وتبادل الخبرات المشتركة.
يساعدنا الدكتور روكودزو مواموكا في مقالة تركز على الصحة النفسية والنوع الاجتماعي على التعرف إلى كيف يمكن للقادة تعزيز الرفاهة عبر الكشف عن تجاربهم في الصحة النفسية وتكييف الموارد مع احتياجات مجتمعاتهم، وبخاصة القادة الذين ينتمون إلى المجتمعات المحرومة تاريخياً من خدمات الصحة النفسية ومبادرات.
4. شجع أسلوب التواصل المشترك للخبرات النفسية والعاطفية لبناء ثقافة المشاركة الوجدانية.
تعد العلاقات القائمة على المشاركة الوجدانية في العمل ضرورة لدعم الصحة النفسية، وتبدأ بالوعي الذاتي والوعي بالآخر. يستخدم الكثير منا مصطلحات قطاعنا على نحو جيد، ويمكننا تحسين مصطلحاتنا بإضافة مفردات تخص تجاربنا النفسية والعاطفية. ببساطة يمكننا أن نبدأ بالتعرف إلى مجموعة واسعة من حالات الواقع النفسي الداخلي التي يمر بها الزملاء وأعضاء الفريق في سياق العمل نفسه ومن ثم تسميتها. وأحياناً تكون العملية بسيطة مثل تعلم استخدام الكلمات التي تصف أفكارنا وعواطفنا وأحاسيسنا كجزء من تجربتنا الحالية؛ ويمكن أن تتضمن هذه العملية في أحيان أخرى تطوير المهارات لمعرفة ما يجب تركيز الإصغاء عليه في حال واجه أحد الزملاء موقفاً صعباً.
سيكتب مؤسس مؤسسة بيرابي (Bearapy) إينوك لي في مقالتنا الأخيرة عن كيفية تخفيف آثار الصدمات، ومواءمة الصحة النفسية مع القيم، وتحويل ثقافة العمل تدريجياً نحو الدعم والرفاهة.
كلفة الصحة النفسية وآفاقها في التغيير الاجتماعي
ستخفق منظومتنا للتغيير الاجتماعي في تحقيق مجموعة واسعة من الإمكانات التي نحتاج إليها عاجلاً وليس آجلاً دون زيادة الوعي بالصحة النفسية وتعزيزها، ودون تكامل هادف للصحة النفسية عبر البرامج والقطاعات المتنوعة، وسنستسلم لنظام عاجز عن دعمنا جميعاً.
قد يبدو دمج الصحة النفسية في منظومات التغيير الاجتماعي معقداً، ولكن ثمة العديد من المسارات الممكنة للمضي قدماً. تعرض هذه السلسلة قصصاً ودروساً من مبتكرين اجتماعيين أثبتوا أن الصحة النفسية تستحق الاستثمار لتحقيق التأثير الذي نريده في المجتمع. بالنسبة إلى ممولي التغيير الاجتماعي ومؤيديه، نأمل أن تفكروا في كيف يزيد إدراج الصحة النفسية من قدرة العمل الذي تدعموه حالياً. أما بالنسبة إلى زملائنا في خنادق التغيير الاجتماعي، نأمل ألا تصبح هذه التوصيات مجرد بند آخر في قائمة مهامكم الطويلة، بل خطوات ممكنة نحو المزيد من التعافي والحرية في سياق رسالاتكم الاجتماعية المهمة.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.