في عام 1989، استاء ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز من الاستنزاف المستمر للموارد الطبيعية، لهذا عرض على مجموعة من المتخصصين فكرة إنشاء مركز متخصص في دراسة الاستدامة وتأثيرها على البشرية والحياة الطبيعية والكوكب كله (أي القدرة على تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها)، معللاً ذلك بعدم وجود منصة تجمع قادة الأعمال لاستشراف أثر الاستدامة والتحديات المناخية على أعمالهم. وحتى تحظى الفكرة بالتميز، ارتأى أن تحمل لواء هذه المهمة جهة عريقة مثل جامعة كامبريدج. وعلى الرغم من نخبوية الفكرة وشح المعلومات حينها، عمل الفريق على وضع أسس هذه الرؤية برعاية فخرية مباشرة من الأمير تشارلز نفسه، تتوجت بأيقونة معروفة اليوم باسم "معهد كامبريدج لقيادة الاستدامة" (CISL).
وبعدها بسنوات، بدأت مصطلحات مثل "الاستدامة" و"التغير المناخي" و"الاحتباس الحراري" و"الاقتصاد الدائري" وغيرها تنتشر في الأوساط العلمية وعالم الأعمال، وتزامن ذلك مع إطلاق سلسلة مؤتمرات الأطراف للأمم المتحدة المعنية بالمناخ (المعروفة باسم كوب) في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. وعلى صعيد أشمل، تكاتف العالم في عام 2006 لمواجهة تحديات الاستدامة، وعلى رأسها ملف التغير المناخي، معلناً عن 17 هدفاً تنموياً ومستداماً أملاً بتحقيقها بحلول عام 2030.
وبالعودة إلى قصة المعهد، فبعد اعتلاء الملك العرش، جدد تشارلز الثالث رغبته في استمرارية الرعاية الفخرية الملكية للمعهد على الرغم من تعاظم مسؤولياته وبروتوكولاته الصارمة، انطلاقاً من إيمانه بأن أهمية الاستدامة وتداعياتها على البشرية تتزايد اليوم أكثر مما كانت عليه قبل أكثر من 37 عاماً. واليوم يصل معهد كامبريدج لقيادة الاستدامة، ومقره مدينة كامبريدج البريطانية، إلى مختلف بقاع العالم من خلال فروعه ومبادراته وبرامجه المتعددة، وتضم شبكته أكثر من 40 ألف قيادي ومبتكر ومتخصص في شؤون الاستدامة.
رحلة "شانيل" للاستدامة تنطلق من كامبريدج
بحكم عملي الحالي تحت مظلة المعهد بصفة رائد أعمال مقيم، فقد أشغل فضولي التعرف عن قرب على أثره وسبب سطوع نجمه كأيقونة في رسم أجندة الاستدامة حول العالم، وما شهدته هو استراتيجيتهم القائمة على الشراكات بين القطاعات الأكاديمية والتجارية، ومنها تعاونهم مع مجموعة السلع الفاخرة "شانيل"، حيث حاولت الأخيرة إعادة بناء سلسلة الإمداد الخاصة بها لتكون أكثر استدامة، بدءاً من طريقة تصميم القطع الفاخرة، وطريقة التعامل مع البضائع المتكدسة أو التالفة، مروراً باستراتيجية الشحن التي تستخدم طرقاً أقل انبعاثاً للكربون، وحتى طرق التغليف، وهذا انعكس بلا شك إيجاباً على تطبيق تجارب مبتكرة منذ عام 2021 أسهمت في بناء قدرات الشركة، وتوفير الطاقة لخطوط الإنتاج وانتقاء المواد الأولية المستخدمة.
ولا يقتصر دور المعهد على تقديم المشورة للمؤسسات الكبرى، بل يتضمن أيضاً التدريب، ومنح الدرجات العلمية والمهنية في مجالات الاستدامة المختلفة، وتحفيز ثقافة الابتكار للوصول إلى حلول مستدامة في قطاع الأعمال، بما في ذلك المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال.
بيئة محفزة للابتكار أنتجت الحمض النووي والكومبيوتر وقانون الجاذبية
وهنا لا بد من الوقوف لملاحظة أن المعهد نفسه ليس مكمن السر، بل البيئة المتكاملة، التي تبدأ بتبعيته للجامعة، ووجوده في مدينة تضج بالعلم والابتكار. فبالنظر لجامعة كامبريدج العريقة التي يمتد تاريخها لأكثر من 800 عام، وهي اليوم رابع أقدم جامعة في العالم، فلا يمكننا أن نغفل إسهاماتها في رفد البشرية بالمعارف والعديد من الاكتشافات العلمية التي غيّرت وجه العالم، مثل اكتشاف بنية الحمض النووي واختراع الكمبيوتر. ومن أبرز العلماء الذين عاشوا في كامبريدج إسحاق نيوتن (عالم الفيزياء والرياضيات الذي وضع قوانين الحركة وقانون الجذب العام)، تشارلز داروين (عالم الأحياء الذي وضع نظرية التطور)، وستيفن هوكينج (عالم الفيزياء النظرية الشهير بأبحاثه حول الثقوب السوداء)، وآلان تورينج (عالم الرياضيات وهو أبو علوم الكمبيوتر).
وقد أسهمت الجامعة في مأسسة عملية الابتكار وتجسير الهوة بين الحقل الأكاديمي وسوق العمل، بما يضمن نفع البشرية من خلال ترجمة البحوث إلى براءات اختراع لتجد طريقها للأسواق وتكون في متناول العامة. كما تزخر سجلات خريجيها بأكثر من 47 رئيس دولة، وأكثر من 125 فائزاً بجائزة نوبل.
أصول مليارية تحت رهن البحث والعلم
على الصعيد الاقتصادي، تتمتع جامعة كامبريدج بتأثير ملحوظ تضمن من خلاله قيام المؤسسة العلمية على أساس مستقل، فعلى سبيل المثال، كلية ترينيتي (أغنى الكليات من بين 32 كلية تابعة للجامعة) هي من ضمن أكبر 10 ملاّك للعقارات في المملكة المتحدة، ولوضع هذا في سياق توضيحي، فإن مجموع العقارات التي تملكها كلية ترينيتي وحدها دون بقية كليات الجامعة يفوق مساحة مملكة البحرين. ولديها استثمارات ضخمة في علامات تجارية عريقة منها 40% من سلسلة أسواق تيسكو، و20% من شركة الاتصالات O2، وغيرهما.
ومن جانب آخر، يمتد الأثر الاقتصادي للجامعة عبر شراكتها الوثيقة مع القطاع الخاص، حيث عملت على جذب أكبر شركات التقنية والأدوية في مناطق حرة تابعة للمدينة الصغيرة لتكون مراكز للبحث والتطوير، بما في ذلك شركة مايكروسوفت وآرم وآبل وأسترازينيكا وغيرها. واليوم، وبفضل هذا التحالف الوثيق بين مصدر العلوم ورواد التكنولوجيا، باتت مدينة كامبريدج ثاني أكبر مدينة من حيث قيمة قطاع التقنية على مستوى المملكة المتحدة (18%)، بعد العاصمة لندن، وبما يوازي قيمة قطاع التقنية في إسبانيا وإيطاليا مجتمعتين، وبذلك استحقت مدينة كامبريدج بجدارة وصفها بـ "وادي السيليكون الأوروبي".
3 دروس مستفادة من وحي الإقامة والعمل
إن كانت تجربة الإقامة والعمل في كامبريدج قد أضافت شيئاً على الصعيدين الشخصي والمهني، فيمكنني تلخيصها على النحو الآتي:
1. التركيز على الهوية: نجحت كامبريدج، بوصفها مدينة وثقافة عمل، في التركيز على الهوية المتمحورة حول التكنولوجيا والاستدامة. وقد أدت هذه الرؤية إلى تدفق الجهود البحثية والأكاديمية والسياسات الحكومية والامتيازات الريادية في ذلك الاتجاه دون تشتت. والأهم من ذلك أنك ستعتاد على سماع كلمة "لا" مراراً حين تقدم أفكاراً "خارج الصندوق".
2. التفاعل وليس التفرّج: إن وجودك في كامبريدج سواء بصفة طالب أو رائد أعمال أو باحث فقط لن يحقق لك الاستفادة القصوى، بل إن التفاعل مع البيئة المحيطة والاندماج في هذا الحراك هو ما سيُحدث التغيير، وأعني هنا أن الفعاليات والمؤتمرات والمشاركات البحثية واللقاءات الاجتماعية وعضويات الجمعيات المتخصصة وخوض النقاشات مع أصحاب الاهتمام المشترك هي التي يمكن أن تكون نواة التطوير المنشود.
3. التوقيت والمكان: أو عامل الحظ إن شئت أن تسميه، والمتمثل في أن تكون في التوقيت والمكان المناسبين. فالمدينة اليوم ليست كما كانت قبل ظهور الإنترنت والذكاء الاصطناعي، وقد لا تكون كذلك في القادم من السنوات. لذا فإن اختيار الوجهة التي نزدهر فيها بأفكارنا وطموحنا مرهون بتوقيت سطوع نجم هذه البقعة الجغرافية أو تلك. والتاريخ خير شاهد على مدن عالمنا العربي وحضارته السالفة.