قال تشارلز بوكوفسكي: "إننا نعيش كل حياتنا كالحمقى ثم نموت في نهاية المطاف". وقال أيضاً: "في بعض الأحيان تستيقظ من سريرك صباحاً وتعتقد أنك لن تنجو في هذه الحياة، لكنك تضحك من الداخل متذكراً كل الأوقات العصيبة التي شعرت فيها بهذه الطريقة". هكذا تحدث بوكوفسكي عن حال الفرد مواجهاً الحياة بكل ما تحمله من تحديات وصدمات مفاجئة. فألم الأمس قد يغدو دافع اليوم وأمل المستقبل.
التعاسة بعد التوسع الحضري
يمر الإنسان بالعديد من الأوقات التي يظن فيها أنه لا مجال للسعادة أبداً، وأنه لن يتمكن من بلوغها على الإطلاق. يأتي ذلك في الوقت الذي يواجه فيه التحديات التي تهدد إصراره على المضي قدماً في الحياة. يعيش نحو 4.2 مليار شخص نحو 55.3% في المناطق الحضرية اليوم، أي أكثر من نصف سكان العالم. وبحلول عام 2045، من المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بمقدار 1.5 مرة أي إلى أكثر من ستة مليارات.
ومع ذلك، فإن هذا التوسع الحضري السريع يفرض أيضاً تحديات جمة قد تؤدي إلى الفقر وانعدام فرص الإسكان الميسور التكلفة بالنسبة لما يقرب من مليار شخص وصفهم "تقرير السعادة العالمي" بفقراء الحضر الذين يعيشون في مستوطنات غير رسمية على الأطراف الحضرية، وهم ضعفاء وغالباً ما يكونون عرضة للنشاط الإجرامي ومستقبل مجهول الملامح أبرز ما يميزه الكآبة الشديدة.
هناك العديد من الأسباب التي تفسر تأثير الإصابة بالتعاسة، سواء بسبب عدم الرضا عن تلك الحياة الصعبة، أو إمكانية الإصابة بالأمراض العقلية المزمنة الناتجة عن المعاناة مع البطالة، أو الفقر، أو البؤس المستمر.
آثار السعادة المستدامة
اعتاد عالم النفس الأميركي إد داينر القول: "إن الطريق إلى توفير السعادة هو حياة مكرسة لأهداف مهمة وذات مغزى ولأشخاص آخرين". لعقود من الزمان، وُجدت مقاييس السعادة لتجعلنا نتساءل: هل يمكن أن تكون السعادة منغمسة في الذات دون الحاجة إلى العمل أو مشاركة الأسرة على سبيل المثال؟ لكن الإجابة جاءت عكس ذلك تماماً، فالأشخاص السعداء هم الأشخاص الذين يعملون بفاعلية أكبر ويساعدون المجتمع أيضاً.
تسهم مصادر السعادة العميقة من مشاركة العائلة أو الآخرين، فيما يمكن تسميته بالسعادة المستدامة، التي تؤدي إلى التمتع بصحة أفضل وطول العمر، وعلاقات اجتماعية سوية، إضافة إلى مواطنة أفضل وتعزيز السلوكات الاجتماعية الخيرية، وتحسين الصحة العقلية والمرونة عند مواجهة الأزمات. الأشخاص السعداء لا يشعرون بالتحسن النفسي باستمرار فقط، لكنهم يعملون بشكل أفضل، وينجحون في تقديم يد المساعدة لمن حولهم لعيش حياة عالية الجودة أيضاً؛ فهم يمتلكون طاقة استثنائية لحل مشكلات المجتمع الاجتماعية والعمل على نشر الإيجايبة.
تلك السعادة المستدامة لا يمكن أن تتأثر بالمشكلات اليومية، بل تعتمد على تطوير الذات بأفضل الطرق التي تتناسب مع القيم الشخصية، وهي التي تدفع الإنسان إلى السعي بجهد لتحقيق أهداف سامية. على عكس السعادة اللحظية التي يفقد تأثيرها مع مرور الوقت.
مسؤولية حكومية
لكن هل السعادة مسؤولية الفرد أو الحكومات؟ قد تكون الأسباب السابقة هي التي جعلت بعض الحكومات في العالم مثل الدنمارك أو سويسرا مهتمة بتحسين مؤشرات السعادة لديها، والعمل على توفير كل مقومات السعادة للمواطنين من أجل مجتمع أكثر توازناً وازدهاراً.
تعمل الحكومات على توفير بعض مقومات السعادة للأفراد أو بالأحرى ضمان حقوقهم الآدمية، بداية من توفير المياه النظيفة، وصولاً إلى تأمين الرعاية الصحية وتطوير الأدوية الخاصة بالأمراض المعدية، وما إلى ذلك، فهي أمور لا يمكن للفرد أن يوفرها لنفسه.
أما فيما يتعلق بالفرد، فيمكنه ممارسة الرياضة، وتناول الطعام جيداً، وارتداء أحزمة الأمان في أثناء القيادة، والامتناع عن التدخين.
في حالة السعادة، نعلم أن مزاج الشخص الفطري مهم لسعادته. ولكن هناك أيضاً سلوكات وخيارات يتخذها الأشخاص يمكنها أن تؤثر على مستوى سعادتهم. ويمكن أن تؤثر الأشياء التي تقوم بها الحكومة على السعادة أيضاً. لذلك لا يوجد مفتاح واحد بسيط للسعادة.
قد يحاول العديد من الأفراد جعل أنفسهم سعداء؛ لأن الحكومات لا تستطيع القيام بذلك وهو ليس من مسؤولية الحكومة بحسب وجهة نظرهم. لكن لماذا تختلف السعادة عن التعليم أو الاقتصاد أو الصحة؟ يجب أن تقوم الحكومة بدورها ويمكن لسياساتها أن تؤثر بالتأكيد على السعادة.
لماذا تتصدر "فنلندا" مؤشر السعادة العالمي؟
هل سبق أن زرت "هلسنكي"؟ حسناً، إن تبادر إلى ذهنك ذلك الشخص القوي البنية في المسلسل الإسباني الشهير "لا كاسا دي بابل" (La Casa de papel)، فعلى الأرجح أن ما ستقرؤه في السطور الآتية سيكون مخيباً للآمال بعض الشيء؛ لأنه ليس متعلقاً بالمسلسل.
"هلسكني" هي عاصمة فنلندا وأكبر مدنها على الإطلاق، ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة وفقاً لأحدث الإحصائيات، وهي أكبر مركز سياسي وتعليمي ومالي وثقافي وبحثي في فنلندا. لكنها، والأهم من ذلك كله، هي المدينة الأكثر سعادة في العالم، وذلك قد يمت بصلة إلى الشخصية الدرامية في المسلسل إلى حدٍ ما.
في الوقت الذي اعتاد العديد من سكان فنلندا وصف أنفسهم بأنهم أكثر ميلاً للحزن، مع اعترافات بالشك الدائم حول ما يتعلق بالسعادة العامة، جاء تقرير السعادة العالمي مغايراً لذلك، نافياً هذه الإدعاءات.
ومنذ أن أصدرت "الأمم المتحدة" تقريرها للسعادة العالمي عام 2018، تصدرت فنلندا قائمتها العالمية في الدراسة الاستقصائية التي تسعى إلى تحديد الحرية الشخصية للأفراد وقياس مدى رضاهم عن حياتهم، إضافة إلى مقاييس أخرى مثل الناتج المحلي الإجمالي والدعم الاجتماعي وتصورات الفساد.
تتميز فنلندا بخدماتها العامة ذات المستوى العالمي، ومستويات منخفضة من الجريمة وعدم المساواة، ومستويات عالية من الثقة في السلطة، فلا أحد يعيش في الشوارع، ولا مجال لوجود ما يسمى بالبطالة، وهناك حلول مستمرة للمشكلات الصحية.
حافظت فنلندا أيضاً على صدارتها للعام الرابع على التوالي منذ عام 2018، على أنها أسعد دولة في العالم بناءً على تقرير عام 2021. وأرجع العاملون على التقرير الفضل إلى شعور المواطنين الفنلنديين بالدعم المجتمعي والثقة المتبادلة، إلى جانب مساعدة الدولة على تجاوز جائحة "كوفيد-19". بالإضافة إلى ذلك، فقد شعر الفنلنديون بأنهم يتمتعون بالحرية في اتخاذ خياراتهم الخاصة، وأظهروا قدراً ضئيلاً من الشك في الفساد الحكومي. كل هذه الأمور أسهمت بقوة في تعزيز السعادة.
سعادة الإنسان في الإمارات
بعدما عرف العالم بسعادة فنلندا، انتعشت السياحة إليها من كل حدب وصوب. كما حاول العديد من الأفراد معرفة كيفية المعيشة في هذه الدولة السعيدة، وهو ما تتشارك به دولة الإمارات العربية المتحدة إذا ما نظرنا إلى مؤشر سعادة الدول العربية؛ ما جعلها أيضاً واحدة من أكثر الدول العربية استقطاباً للمغتربين.
تربعت الإمارات العربية المتحدة على صدارة مؤشر السعادة العالمي عربياً، وأكدت الباحثة ليلى علوي صالح السعدي من جامعة "دبي" في دراستها بعنوان "تحديد معايير مؤشر السعادة في دولة الإمارات لتطوير أدوات أفضل لتعليقات المستخدمين" أن 91% من الإماراتيين سعداء بنوعية حياتهم، كما يسعد غير الإماراتيين أيضاً بنوعية الحياة في الإمارات.
تحرص دولة الإمارات على توفير السعادة للمواطنين والمقيمين لضمان الرخاء والرفاهية على أرضها. ولتعزيز ذلك، عيّنت وزير دولة للسعادة في فبراير/شباط 2016، حيث تهتم الوزارة بمسؤولية مواءمة الخطط، والبرامج، والسياسات الحكومية لتحقيق سعادة المجتمع، ولم تقف الإمارات عند هذا الحد، فقد أضافت حقيبة وزارية جديدة لمنصب وزير دولة للسعادة، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، ليصبح وزير دولة للسعادة وجودة الحياة.
كما اعتمدت البرنامج الوطني للسعادة والإيجابية الذي يعمل على تضمين السعادة وجودة الحياة في سياسات وبرامج وخدمات الجهات الحكومية كافة، وترسيخ قيم السعادة باعتبارها أسلوب حياة في المجتمع الإماراتي، إضافة إلى تطوير أدوات قياس السعادة.
وقد أوضحت الباحثة الإماراتية في دراستها، التأثير الفعلي لهذه الجهود على المستخدمين والعملاء، حيث اعتمدت على نماذج لثلاثة قطاعات مهمة في الإمارات:
- التعليم: يبحث الأفراد في المقام الأول عن المناهج التعليمية والخدمات والإدارة ذات الجودة العالية، فضلاً عن وقت الخدمة القصير وتكاليف التعليم المنخفضة.
- الرعاية الصحية: يبحث الأفراد عن علاج وخدمات عالية الجودة، دون الحاجة إلى الانتظار طويلاً، مع الحفاظ على انخفاض التكاليف.
- المنفعة: تكمن الأولوية الأولى للأفراد في وقت الخدمة القصير والخدمات ذات الجودة العالية وآخر اهتمامهم هو التكلفة المنخفضة.
ختاماً، فإن الخدمات الحكومية الذكية قد أسهمت أيضاً في توفير السعادة للمواطنين وتعزيها في المجتمعات - وليس الأفراد- في دولة الإمارات. كما أكدت نتائج الدراسة الإماراتية أن الجودة والوقت والتكلفة هي مؤشرات السعادة الرئيسة للقطاعات. ومن هنا، فإن الإمارات لم تعد تبحث عن السعادة بل تنتجها من أجل جودة الحياة لمواطنيها والمقيمين على أراضيها.