لطالما أظهرت البيانات في الولايات المتحدة تبايناً في نتائج الولادات؛ في النظام الطبي الأميركي، إذا كان الطفل من ذوي البشرة السمراء، فهو عرضة للوفاة بنسبة تتجاوز الضعفين مقارنة بطفل ذي بشرة بيضاء، بغض النظر عن استثمار أمه في التعليم أو رعاية ما قبل الولادة. والاحتمال أقل بقليل بالنسبة لطفل من السكان الأصليين.
ما السبب؟ أنفقت المؤسسات الممولة مبالغ طائلة على دراسات تحلل أعمار الذين ينجبون أطفالاً ومستوى تعليمهم والرعاية التي حصلوا عليها قبل الولادة وعوامل علم الوراثة والسلوك والدخل الخاصة بهم، لكنهم لم يتوصلوا إلى إجابات شافية. لكن دراسة حديثة أجريت على مليوني طفل رضيع في الولايات المتحدة توصلت إلى أن أطفال أغنى الأسر من ذوي البشرة السمراء أقل عرضة للبقاء على قيد الحياة مقارنة بأطفال أفقر الأسر من ذوي البشرة البيضاء. وعلى الرغم من الاستثمارات المالية الكبيرة والجهود الوطنية والمحلية المتضافرة لتحسين صحة الأمهات، ما تزال ثمة فوارق.
ثمة جانب غير مدروس بدرجة كافية في الصورة العامة يتعلق بالصدمة الاجتماعية المتوارثة بين الأجيال (الآثار النفسية والعاطفية الناجمة عن تجربة أحداث مؤلمة أو مأساوية على المستوى الاجتماعي). تشير قاعدة بحثية متنامية إلى أن السياق الاجتماعي في الفترات الزمنية السابقة يؤثر بقوة على الصحة والرفاهة في الوقت الحاضر. وتشير الإحصائيات إلى أنه إذا وصل أسلاف والدة الطفل على متن سفينة عبيد من غرب إفريقيا، فسيكون الطفل أكثر عرضة للوفاة مرتين مقارنة برضيع أبيض، وستكون والدته أكثر عرضة للوفاة بسبب مضاعفات الحمل بثلاثة أضعاف. لكن في حال كانت الأم نفسها قادمة مباشرة من غرب إفريقيا إلى الولايات المتحدة، فالإحصائيات تشير إلى أن وضع الطفل سيكون أفضل بكثير.
تربط هذه البيانات بين القمع الاجتماعي على مدى عدة أجيال (التمييز العرقي ضد ذوي البشرة السمراء والعنصرية ضد السكان الأصليين في سياق الولايات المتحدة) ونتائج الولادة. وتوسع المنظور من خصائص أجسام الأفراد ليشمل تجربة اجتماعية شاملة، ومن اللحظة الراهنة إلى التجارب التي خاضتها الأجيال السابقة، وهذا بدوره يتيح للمؤسسات الممولة والمبتكرة تجاوز الحلول المستندة إلى نموذج واحد يقتصر على جسم الأم وسلوكها، والانتباه لمجموعة واسعة ومختلفة من الاستجابات المحتملة.
العمل انطلاقاً من منظور واسع
تشرف الرائدة في مجال الولادة واختصاصية التوليد ومؤسِّسة مركز شيكاغو ساوث سايد للولادة (Chicago South Side Birth Center)، جينين فالري لوغان، على الاستجابة للتفاوت بين الولادات التي تأخذ السياق الاجتماعي والأجيال في الحسبان. يرتكز اهتمامها بالأطفال ذوي البشرة السمراء وأسرهم على الثقافة والتقاليد وتعمل على مكافحة التمييز العرقي ضد ذوي البشرة السمراء. يتميز هذا النهج بالنظرة الشاملة إلى السياق الاجتماعي، إذ يربط بين المرأة التي تلد والموارد المتاحة لها، ويعلمها كيفية فهم جسمها ويزرع فيها الثقة بقدرتها على التعامل مع الموارد المتاحة لها. كما أنه يشمل أسر الأطفال ومجتمعاتهم ويتعامل مع التجارب المؤذية التي تتعرض لها الأجيال؛ فهو يتعرف على أثر الصدمات السابقة التي يجب علاجها، ويشجع أفراد العائلة على المشاركة في تفاصيل الحمل والولادة ويزودهم بالمعرفة اللازمة لتوفير الرعاية اللازمة عند قدوم الطفل. تظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن لوغان ومعاونيها يقدمون نموذجاً لرعاية عملية الولادة يقلل الفوارق ويؤدي إلى ولادة آمنة ومكتملة المدة ووزن صحي للطفل عند الولادة، وهي رعاية ترسم مساراً صحياً للأجيال القادمة. ولكن يكمن التحدي (وإمكانية التحول) في قدرة المؤسسات الممولة على التعرف على تأثير هذا النهج.
تعلمنا في مؤسسة شيكاغو بيوند (Chicago Beyond) أن فهم القضايا الاجتماعية والبيئية التي نسعى لمعالجتها على نحو مترابط يزيد احتمالية تحقيق نتائج ناجحة. ويظهر ذلك في عملنا مع مؤسسات مشابهة لمركز شيكاغو ساوث سايد للولادة. شيكاغو بيوند هي مؤسسة ممولة تلتزم دعم حياة حرة دون قيود، وتدعم كل من يدعم الإنسان. أسست ليز دوزير هذه المؤسسة بعد وفاة العديد من طلابها الشباب ذوي البشرة السمراء والروح المرحة والجريئة في حي ساوث سايد بمدينة شيكاغو بسبب أحداث عنف أظهرت آثار الصدمات الجماعية عبر الأجيال. وما يزال هذا النوع من العنف يتفاقم في مدينة شيكاغو وغيرها. أظهر تحليل المنتدى الاقتصادي العالمي أن تفاقم أوجه عدم المساواة المرتبطة بقضايا مثل حقوق الملكية وإعادة توزيع الثروة على مدى عدة أجيال يؤدي إلى ضرر جسيم واستدامة الصدمات على مستوى العالم.
يشمل عملنا اليوم تمويل الجهود غير المعروفة التي تقودها المجتمعات المحلية لتحقيق تغيير في الأنظمة. على سبيل المثال، قدمنا التمويل لشراكة بين رائدة الدفاع عن العدالة نيكا جونز تابيا، ومتحف شيكاغو للأطفال، ومركز ذا سينتر فور تشايلدهود ريزيليانس (the Center for Childhood Resilience) في مستشفى لوري للأطفال، وأحد أكبر السجون في الولايات المتحدة. أسفرت هذه الشراكة عن زيارات مستمرة تركز على مصلحة الطفل لأكثر من 70,000 طفل من أبناء السجناء المحتجزين في سجن مقاطعة كوك كل عام. يدعم نموذج الزيارة الصحة النفسية للأطفال، وعودة الآباء إلى المجتمع بمجرد إطلاق سراحهم، وتحسين الروح المعنوية بين موظفي السجن. من خلال العمل من منظور واسع، يتجاوز هذا النهج النموذج الوحيد لخدمات الرعاية الاجتماعية للأطفال ليشمل معالجة انقطاع الروابط بين الآباء والأبناء.
أحد السبل لإدراك غايتنا
في حين تركز هذه الأمثلة على الأطفال والعائلات، يشكل فهم الصدمات وطرق التعافي منها مدخلاً إلى تغيير فعال للأنظمة يتناول جميع أبعاد القضية. نحن نعرّف "الصدمة" على أنها ما يحدث عندما تطغى تجربة ما على قدرة الشخص الطبيعية على التأقلم والتعافي. لا ينصب التركيز على الأثر الخارجي للصدمة، بل على الجرح أو الألم الذي يعانيه الناس على المستويين الفردي والجماعي نتيجة لها. تنتشر الصدمة في كل جانب من جوانب القطاع الاجتماعي، بما في ذلك مؤسساته وأفراده. يرى الذين يركزون على التعليم أدلة على الصدمة في بيانات الصحة النفسية للطلاب والنتائج الأكاديمية، ويعزو الذين يعملون على القضايا البيئية الصدمة إلى انفصال الإنسان عن الطبيعة.
وكما ذكرنا، يحفز هذا الفهم المؤسسات الممولة على ترك المنظور المعتاد والمحدود الذي يعتمد على زاوية واحدة، وتبنّي إطار منهجي أشمل. فهو يساعدنا على التعرف على الروابط المتبادلة بين الأفراد والأسر والمجتمعات والأنظمة؛ وبين الماضي والحاضر والمستقبل؛ وبين الرفاهية الجسدية والعاطفية والفكرية والروحية والجماعية؛ وبين العمل الذي ننجزه في ذواتنا ومؤسساتنا والقضايا التي نسعى لتغييرها، ويغير أهداف تمويلنا وطرائقه وتأثيره.
لكن الفرص الجديدة الناشئة من هذا النهج لا تتماشى في كثير من الأحيان مع نماذج التمويل التقليدية، ما يمكن أن يؤدي إلى الإحباط. وبالتالي، فإن أحد الجوانب المهمة لدمج الفهم الجديد هو دراسة كيف تقيّد العمليات الحالية تفكيرنا وطرق عملنا. نعرض هنا 5 تغييرات عملية يمكن للمؤسسات الممولة تبنيها لتوسيع منظورها وتقليل حجم الضرر وتحقيق تأثير أكبر، وهي تستند إلى 7 سنوات من التعلم والتعاون مع القادة العاملين في مجتمعاتهم الخاصة، والدروس المستفادة من العلماء في عدة تخصصات مثل التفكير المنظومي وعلم البيئة، وممولين من جنوب العالم وشماله.
1. توسيع منظور التمويل
يؤدي استهداف كيان واحد وتأطير الأفراد بوصفهم مصدراً للمشكلات الاجتماعية إلى إخفاء جوانب عدة وتقييد قدرة المؤسسات الممولة على دعم التغيير. كما ذكرنا أعلاه، لا يكمن الحل للتفاوت في الولادات المستندة إلى العِرق في أجسام الأمهات أو سلوكهن أو تعليمهن أو دخولهن؛ بل يتجذر في نظام القمع المتوارث بين الأجيال،
وبالتالي فالتغيير الأول هو توسيع المنظور بفعالية. لا يقتصر توسيع المنظور على إضافة لغات جديدة إلى طلبات تقديم العروض، ويتطلب من المؤسسات الممولة أكثر من الاكتفاء بجولة استماع وحيدة أو توظيف شخص لديه هوية معينة، بل هو ممارسة تتطلب من المؤسسات الممولة العمل بطرق جديدة لاكتشاف القيمة في مجالات غير مألوفة، ويشمل جميع البشر ضمن السياق الاجتماعي الأوسع الذي يضم الأصول الفردية والجماعية ومواطن القوة والتحديات؛ ويوقف البحث عن حل واحد؛ ويقدم صورة أدق للمشكلات والفرص تتيح تقديم التمويل بطريقة استراتيجية. يمكن لأطر العمل الواردة أدناه أن تساعد المؤسسات الممولة على تحديد مستويات النظام التي تحتاج إلى معرفة المزيد عنها، والتدقيق في مواضع دمجها لوجهات النظر المتعددة (الموضوعية والمتعلقة بالتجربة الشخصية، والمتعلقة بالحاضر والماضي) وفي المواضع حيث يضيق منظورها عن غير قصد.
استفادت مؤسسة شيكاغو بيوند من الفحص المكثف لوجهات النظر المدمجة في التوجيهات أو العمليات أو المستبعدة منها قبل تطبيقها، كما تتضمن ممارستها التزاماً ثقافياً بالبحث عن وجهات نظر مختلفة بدلاً من صدها، والتمويل والتعلم من قادة مجتمع غير معروفين. وبإلهام من الجمعية العامة لمشروع بوسطن يوجيما (Boston Ujima Project)، وهو مشروع ابتكاري اقتصادي يديره أعضاؤه ويجمع سكان الأحياء المجاورة والعمال وأصحاب الشركات، أنشأنا جمعية شعبية للمساعدة على وضع الاستراتيجيات وتقديم المشورة حول عملنا. تضم المجموعة عشرات الأفراد الذين يجتمعون كل 3 أشهر ولا يعملون مستندين إلى قوة مؤسساتهم أو ألقابهم، بل إلى قوة علاقاتهم المجتمعية.
2. توسيع المعرفة والمقاييس المؤسسية
يفتقر القطاع الاجتماعي إلى البيانات، بما فيها البيانات المتعلقة بكيفية تعزيز رفاهة الفرد والمجتمع والبيانات الواردة من المتأثرين بشدة بالصدمات، وأحد الأسباب هو تفاوت السلطة بين المؤسسات الممولة والباحثين والمؤسسات المجتمعية والمجتمعات، ما يخل بإتاحة البيانات وصلاحيتها وقيمتها. في الواقع، يمكن أن تكون الطرق التي يجمع بها القطاع البيانات وينشرها مضرة، إذ يؤدي الإفراط في التركيز على ما تسهل مراقبته عن بُعد إلى هدر المال والوقت والطاقة، ويدفع مقدّمي الخدمات إلى تعديل استراتيجياتهم لتناسب ذلك. علاوة على ذلك، يعتقد العديد من المؤسسات الممولة أن الإشراف الجيد على الأموال يعني تمويل "الحلول التي خضعت إلى التدقيق". ولكن في كثير من الأحيان لا تكون هذه الحلول فعالة إلا وفقاً لنموذج تقييم خاص وعقلية المدققين وخبراتهم ونهج المؤسسة الممولة في التعامل مع المخاطر (انظر التغيير رقم 4 أدناه). في حال دعمت المؤسسات الممولة المبادرات وقيّمتها بناءً على نطاق ضيق من الأبحاث المؤسسية، فستبقى المعرفة المؤسسية التي تستند إليها حلقة مغلقة.
ومع ذلك، يمكن للمؤسسات الممولة الالتزام برغبتها في إدارة الأموال بفعالية وتحسين دقة بيانات القطاع الاجتماعي في آن معاً. ولإظهار الصورة كاملة، يتعين على مجالس الإدارة والموظفين الحرص على أن تتضمن المعرفة التي يستندون إليها في صناعة القرارات وجهات النظر الغائبة لدى من يتمتعون بخبرة مباشرة في المشكلات الاجتماعية. يعزز الدمج الفعال -وليس الرمزي أو الكاذب- قدرة المؤسسات الممولة على التعرف على التأثير البالغ الأهمية، وتعزيز قدرة الآخرين، والعمل من منظور مكتمل أكثر في عملياتها اليومية. على سبيل المثال، يتضمن جزء من استراتيجيتنا لتوسيع المعرفة المؤسسية الاستفادة من قوة الشبكات لإبراز القادة المعترف بهم في المجتمع والعمل خارج المؤسسات غير الربحية الممولة بانتظام، وتوسيع وعينا بالنهج والاستراتيجيات التي نجهلها، وتمكيننا من توفير التمويل المؤسسي للمرة الأولى. تُشرك مؤسسة رودينبيري فاونديشن (The Roddenberry Foundation) الشبكات بقوة على مستوى العالم،
وينطبق الأمر نفسه على المقاييس. من خلال إدراك أهمية حق المؤسسات في اتخاذ القرارات وتحديد المسار، والمشاركة الجماعية والقدرة على بناء العلاقات، بالإضافة إلى استخدام النُهج المخصصة للسياق وتحقيق أهداف قابلة للقياس والتوسع، يمكن للمؤسسات الممولة أن تميز بوضوح أكبر فرصة تحقيق أثر شامل. يؤكد ذلك قيمة النُهج الجماعية المتعددة الأجيال والمستويات في القياس، إذ يمكن أن يؤدي الاقتصار على قياس نتائج الأفراد إلى معاملة البشر وكأنهم يمثلون المشكلة الاجتماعية نفسها، لذا بدلاً من حصر التركيز على تحسن سلوك الأفراد، تطرح مؤسسة شيكاغو بيوند أسئلة مثل: كيف يؤثر هذا الاستثمار على العوامل التي تسبب الضرر الشامل؟ كيف تعزز هذه المؤسسة الآخرين وتمدهم بالقوة؟ كيف يدعم هذا الاستثمار ما يهم هذا المجتمع من وجهة نظره؟
3. تكييف عمليات التمويل وشروطه لتتوافق مع الغاية
تشترط عمليات التمويل في كثير من الأحيان على المجتمعات التي تسعى للحصول على الدعم توثيق الصدمات وسردها؛ ثم تقدم الموارد "لأفضل أسوأ قصة". اعتادت المؤسسات الممولة عند الإبلاغ عن نتائج تمويل الأثر الاجتماعي التركيز على الأفراد الذين نجحوا على الرغم من الصعوبات الهائلة، وتسليط الضوء على دور المؤسسة الممولة، وهي تغفل بذلك عن نوعية المعلومات التي تمهد الطريق لمعرفة حلول شاملة للتحديات التي يواجهها المجتمع، ومن هذه المعلومات الصدمات الشاملة والممتدة على مدى عدة أجيال، والإسهامات والروابط داخل مجتمع الفرد التي عززت تعافيه. بالإضافة إلى أن هذا التركيز يشوه الإطار الذي تقيس به المؤسسات الممولة النجاح،
إذ تتعين عليها معرفة عيوب هذه الممارسات وتعيد تصميم عملياتها لتشجيع وضع الرؤى والتعاون بين قادة المجتمع، بدلاً من التركيز على أثر الصدمات والمنافسة. قد يكون وضع الرؤى أمراً صعباً بالنسبة إلى البالغين، وبخاصة المؤسسات والأفراد الذين اعتادوا توثيق ما يجعل صدمات مجتمعهم أسوأ من صدمات المجتمعات الأخرى للحصول على الدعم الخيري أو الحكومي، وبوسع المؤسسات الممولة إظهار نواياها والاستثمار في تصميم التجارب وتيسيرها للمساعدة على تعزيز ثقة الأفراد والمؤسسات وشعورهم بأنهم يحظون بالانتباه الكامل وتحفيزهم على مشاركة أحلامهم وتطلعاتهم، وبدلاً من مطالبة الناس بقضاء الوقت في كتابة المقالات (وهي مهارة غير مرتبطة بالعمل الذي يسعون للحصول على تمويل له)، نعمل في مؤسسة شيكاغو بيوند مع المجموعات التي تطلب التمويل لفهم هوية أفرادها وقصصهم وبياناتهم، ثم نكتب لها طلبات التمويل بأنفسنا. بناء العلاقات جزء أساسي من العملية ويخلق فهماً متبادلاً يمثل نقطة انطلاق للتمويل، ويولي هذا النهج خبرة الشركاء المحتملين ومعرفتهم قدرها من الاحترام، ويؤدي إلى اكتساب رؤية جديدة ووثائق مفيدة لتطوير المؤسسة وتمويلها المستقبلي.
شروط التمويل ليست أقل أهمية. يتيح التمويل المرن الطويل المدى -وهو نهج تدعمه البيانات والمختصون ومشاريع مثل ترست بيزد فيلانثروبي (Trust-Based Philanthropy)- المجال لجهود التغيير لتحقيق إمكاناتها في وقت قريب، وتوسيع العمل وتعميقه واستدامته واستدامة المشاركين فيه. لاحظ الكثير من الناس ذلك، وهو واضح في عملنا مع مؤسسات عدة مثل مؤسسة لايف آفتر جاستس (Life After Justice)، التي تهدف إلى إنهاء الأحكام القضائية الخاطئة في الولايات المتحدة وتطوير نموذج خدمة التعافي المباشرة الأولى من نوعها للمتهمين الذين تبرئهم المحكمة، وكل ذلك بقيادة أشخاص عانوا بسبب أحكام قضائية خاطئة. يؤدي الحصول على تمويل مرن لدعم التكيف على مدى عدة سنوات إلى قدرة هذه المؤسسة ذات الأداء التحويلي على الاستثمار في استراتيجية قانونية و
نموذج تعافٍ خاصين بها، بالإضافة إلى استدامة عملها والأفراد المشاركين فيه، ويمنح المؤسسة القدرة على تعزيز أسسها والسعي وراء الفرص الثمينة الجديدة عند ظهورها. كما يثمّن شركاؤنا التمويل الإضافي الذي يدعم صراحةً رفاهة الذين يقودون العمل وينجزونه.
4. التحليل الشامل للمخاطر
تقود الأنماط اللاواعية في عملية صناعة القرار البشري المؤسسات الممولة إلى تصور مخاطر كبيرة في مجموعات الأفكار أو الأفراد أو القدرات التنظيمية التي لا تعرفها جيداً. تتمتع المؤسسات الممولة عادةً بسلطة تحديد من يتحمل المخاطر، وتبعد المخاطر دون إدراك وتوجهها إلى المستفيدين من المنح الذين يتمتعون بقدر أقل من السلطة المؤسسية، ولذلك نتائج عكسية تتمثل في زيادة استقرار المؤسسات الممولة وإضعاف استقرار المؤسسات والأفراد المسؤولين عن تحقيق النتائج.
يساعد الاعتماد على العمليات المستندة إلى الأدلة المؤسسات الممولة على مراجعة منطقها، فهي تعطل الأنماط اللاواعية في عملية صناعة القرار ما يقلل احتمالية التقليل من شأن القادة ذوي الإمكانات العالية والجهود الواعدة. وإذا أرادت المؤسسات الممولة حقاً إحداث تأثير مجتمعي، فعليها أن تأخذ المخاطر التي يواجهها المستفيدون من المنح في الحسبان إلى جانب المخاطر التي يتعرض لها المجتمع على نطاق واسع، ومخاطر عدم كفاية التمويل وانقطاعه أيضاً. ومن خلال البحث عن وجهات نظر الأشخاص الأقرب من القضايا الاجتماعية ووجهات النظر المتعددة، يمكن للمؤسسات الممولة تحديد مجموعة المخاطر التي لن يروها بغير هذه الطريقة وتحديد طرق تخفيفها، ومن ثم فهمها وزيادة احتمالية النجاح.
أدى تحليل التمويل الذي نقدمه وتطوير الأدوات اللازمة لتعطيل التفكير اللاواعي إلى الانتقال من تمويل المؤسسات غير الربحية المعروفة إلى التمويل المدروس للقادة والمؤسسات والأفكار غير المعروفة. وفيما يتعلق بالمخاطر، وجدنا أن تطويرنا العملي لطلبات التمويل ساعد على الكشف عن المخاطر والاستجابات التي قد نتجاهلها. خذ مثلاً أحد شركائنا، مؤسسة سينترو سانار (Centro Sanar) غير الربحية التي تقدم خدمات مجانية للصحة النفسية بجودة عالية في القسم الجنوبي الغربي من مدينة شيكاغو، عندما علمنا أن التأخير في التمويل الحكومي أدى إلى ظهور مشكلات لديها تمكّنا من توفير مبلغ أكبر من التمويل الأولي الذي يمكنها استخدامه للتمويل المؤقت عند الحاجة. ساعد ذلك مؤسسة سينترو سانار على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة برواتب الأطباء المعالجين، الذين يعانون صدمات ثانوية كبيرة في أثناء العمل مع الأفراد والعائلات لمعالجة حالات الكآبة المعقدة.
5. التعلم وتحمل المسؤولية
تميل المؤسسات الممولة إلى طرح الأسئلة ومحاسبة الآخرين، ولهذا السبب تركز تقارير التأثير والمقاييس على ما فعلته وما لم تفعله المؤسسات غير الربحية. يتجاهل هذا النهج المعلومات التي تحتاج المؤسسات الممولة إليها للتقييم والابتكار، تماماً مثل حالات المعرفة المؤسسية المحدودة، وتشمل هذه المعلومات الطرق التي تسبب بها المؤسسات الممولة أذى غير مقصود بعملياتها الداخلية ومشاركتها في نظام اقتصادي يولّد التفاوتات ويطيل أثر الصدمة، لأن المؤسسات الممولة في الأساس جزء من نظام اجتماعي يحتاج إلى إصلاح.
لذلك يتمثل التغيير الخامس في توظيف المؤسسات الممولة لسلطتها وقدراتها المؤسسية
لمعرفة الأذى الحاصل وتطوير ثقافات التعلم والمساءلة المتبادلة داخلها. تركز مؤسسة كاميلباك فينتشرز (Camelback Ventures) على هذا الأمر، وهذا يعني إجراء تحقيق ذاتي منتظم: هل نفذنا ما التزمنا به هذا العام؟ هل أجرينا تحسينات قابلة للقياس في العمل بصفتنا جهة تمويل؟ كيف تُرسخ ثقافتنا المؤسسية عبر عمل مجلس الإدارة وباقي أقسام المؤسسة آثار الصدمة أو تعزز عمليات التعافي؟ كيف تسهم إجراءاتنا في تغيير الأنظمة وفي عملية التعافي؟ كيف تسهم عملياتنا في إحداث الضرر، وكيف يمكننا الحد من ذلك؟ وكيف نعرف ذلك؟
تسعى مؤسسة شيكاغو بيوند جاهدة إلى إجراء تحسينات منتظمة وهادفة تعتمد على تقييم الاستراتيجية وآليات التمويل والسياسات والممارسات، إذ تجري مراجعات أداء سنوية لجميع الموظفين من أجل تقييم التعلم والتأكد من ترجمة المراجعات التي تجريها بانتظام مع شركائها إلى إجراءات فعلية، بما فيها تجهيز الخدمات على أرض الواقع مثل تغليف المواد الغذائية وتوزيعها على شبكات المجتمع خلال جائحة كوفيد-19، أو زيادة التمويل لتعويض التضخم. نُبلغ شركاءنا بالتغييرات التي نجريها حتى يتمكنوا من ملاحظة تأثيرها فينا، إذ يؤدي ذلك إلى إطلاق دورة محمودة تساعدنا على تحسين عملنا على نحو أفضل وأسرع.
من الغريب إلى الممكن
تسعى المؤسسات الممولة إلى معالجة التحديات الاجتماعية والبيئية على نحو منهجي، ومن المنطقي أن نبدأ بدراسة دورنا في هذه التحديات. يقيد العديد من ممارسات التمويل التقليدية تفكيرنا وطرق عملنا بطريقة تحد من إمكانية التغيير بدرجة كبيرة،
وتتبنى المؤسسات الممولة العديد من الاستراتيجيات والثقافات المؤسسية والمواقف المختلفة تجاه السلطة والمشاركة والثقة. يمكن للتغييرات الخمسة الموضحة أعلاه أن تساعد المؤسسات الممولة على زيادة فعاليتها في تغيير الأنظمة واحترام الالتزام بالدقة وتحمل المسؤولية والحكمة في التعامل مع المخاطر. يمكننا توسيع منظورنا تجاه التحديات والحلول الاجتماعية من خلال إبعاد المؤسسات الممولة عن مركز الاهتمام وتعميق التفاعل مع الأفراد والمؤسسات، كي يصبح التمويل وسيلة لازدهار الناس والعالم الطبيعي على المدى الطويل.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.