تحقيق التأثير الجمعي يبدأ ببعض التحولات الفكرية

التأثير الجمعي يتطلب تحولات فكرية
www.unsplash.com/Vale Zmeykov
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على التفكير الجمعي أن يأخذ في عين الاعتبار هوية المشاركين، وكيف يعملون معاً، وكيف يحدث التقدم؛ وذلك في سبيل أن يكون فعالاً. منذ النشر الأولي عن «التأثير الجمعي» في مجلة ستانفورد للابتكار الاجتماعي (عدد شتاء 2011)؛ اكتسب التأثير الجمعي زخماً هائلاً باعتباره مقاربةً مضبوطةً تجمع بين مختلف القطاعات لحل المشاكل الاجتماعية والبيئية على نطاقٍ واسع.

إن فكرة التأثير الجمعي ليست بجديدة، فالعديد من التعاونات سبقت المقال الأصلي، وتجسد الشروط الخمس للتأثير الجمعي؛ إلا أن المقال الأصلي أنشأ إطار عملٍ ولغةً لاقيا استحساناً كبيراً بين الممارسين المحبَطين من أساليب التغيير التي كانت موجودة. منذ عام 2011، بدأت مئات التعاونات الجديدة بتنفيذ مبادئ التأثير الجمعي على مختلف الأصعدة حول العالم؛ بدءاً من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وحتى أستراليا وإسرائيل وكوريا الجنوبية، كما بدأت أفكار التأثير الجمعي تؤثر على السياسة العامة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، تم تبني هذا المفهوم في منح مقدّمة من مراكز السيطرة على الأمراض، وصندوق الابتكار الاجتماعي، ومبادرة من البيت الأبيض، وإحدى برامج مؤسسة الخدمة الوطنية والمجتمعية.

درس فريقنا في «اف اس جي» جهود التأثير الجمعي الناجحة في جميع أنحاء العالم، ودعم العشرات من جهود التأثير الجمعي الجديدة، ودرب الآلاف من الممارسين. لقد ألهمتنا نجاحاتهم؛ من تحسين نتائج محاكمة الأحداث في ولاية نيويورك، إلى الحد من ربو الأطفال في دالاس، أو تعزيز التحصيل التعليمي في سياتل.

غالباً ما يسأل الناس عما إذا كنا سنحسّن الشروط الخمس للتأثير الجمعي؛ والتي أوضحناها في المقال السابق؛ وهي: أجندة عمل مشتركة، أنظمة قياس مشتركة، أنشطة معزِّزة بشكلٍ مشترك، التواصل المستمر، منظمات دعم أساسية (يمكنك الاطلاع على “الشروط الخمس للتأثير الجمعي” أدناه). على الرغم من أن عملنا قد عزز أهمية هذه الشروط الخمس، كما أنها لا تزال بمثابة الأساس للتمييز بين التأثير الجمعي وأشكال التعاون الأخرى (راجع “الحفاظ على نزاهة نهج التأثير الجمعي “في الصفحة 4)؛ نحن ندرك أيضاً أنها ليست كافيةً دائماً لتحقيق تغييرٍ على نطاق واسع، فبالإضافة إليها؛ توجد بعض التحولات الفكرية الضرورية لشركاء التأثير الجمعي، وهذه التحولات تتعارض بشكلٍ جذريٍّ مع النُّهج التقليدية للتغيير الاجتماعي. تعنى هذه التحولات الفكرية بمن هم منخرطون في العملية، وكيف يعملون معاً، وكيف يحدث التقدم، ورغم أن هذه التحولات ليست غير منطقيةٍ بالضرورة؛ إلا أنها قد تكون معاكسةً للثقافة السائدة بشكلٍ كبير؛ وبالتالي قد تخلق عقباتٍ حقيقيةً أمام جهود التأثير الجمعي.

اقرأ أيضاً: التأثير الجمعي: حوار حول المشاركة المجتمعية

التحول الفكري الأول: من هم المشاركون


اجعل أنظار الأشخاص الصحيحين جميعاً على المشكلة | كما قلنا في مقالنا لعام 2011 في SSIR: “التأثير الجمعي هو التزام مجموعة من الجهات الفاعلة المهمّة من مختلف القطاعات، بأجندة أعمال مشتركة لحل مشكلة اجتماعية معينة”، فالمشاكل المعقدة -بحكم طبيعتها- لا يمكن حلّها من قبل أي منظمة أو قطاع بمفرده، ومع ذلك؛ فإن العديد من عمليات التعاون التي تسعى إلى حل المشكلات الاجتماعية والبيئية المعقدة لا تزال تتجاهل الشركاء المهمين في الحكومة والقطاعات غير الربحية والشركات والقطاعات الخيرية، فضلاً عن الأشخاص ذوي الخبرة الحية في هذه القضية. إن تضمين وجهات النظر المختلفة جذرياً في كثير من الأحيان لهؤلاء المشاركين المتنوعين، يمكن أن يولّدَ حواراً أكثر جدوى.

يمكن لوجهات النظر من القطاعات المتعددة أن تحسن الفهم الجماعي للمشكلة، وتخلق حسّاً مشترَكاً بالمسؤولية. في نيويورك، اجتمعت مجموعةٌ من القادة من القطاعات المتعددة معاً في عام 2010 لإصلاح النظام القضائي للأحداث؛ والذي كان يُنظر إليه على أنه غير كفؤ وغير فعال وغير آمن، مع ارتفاع معدلات عودة الشباب إلى الإجرام. تضمنت المجموعة قادةً من قوى تطبيق القانون ومكتب المحافظ والوكالات الحكومية والمحلية الكبيرة ومحامين مجتمعيّين وقضاةً ومنظماتٍ غير ربحيةٍ وخيريةً خاصة. لم يعمل العديد من المشاركين مع بعضهم البعض من قبل، وكان لدى بعضهم وجهاتُ نظرٍ مختلفةٌ جذرياً، وعلى مدى عدة أشهر؛ تصارعت هذه المجموعة مع وجهات نظرهم المختلفة، وابتكروا في نهاية المطاف رؤيةً مشتركةً للإصلاح: لتعزيز نجاح الشباب وتحسين السلامة العامة؛ تمتلك هذه المبادرة الآن موظفين أساسيين مدمجين في قسم خدمات العدالة الجنائية في الولاية يقومون بتنسيق العمل بين مئات المنظمات المشاركة. بعد ثلاث سنوات، استندت الجهود إلى نجاحاتٍ سابقة، وساهمت في تحقيق نتائج ملحوظة، فقد انخفض عدد الشباب المُحتَجَزين لدى الدولة بنسبةٍ مذهلةٍ بلغت 45%، وانخفضت اعتقالات الأحداث بنسبة 24%، مع عدم وجود زيادةٍ في معدل الجرائم أو الخطر على السلامة العامة.

بالإضافة إلى إشراك القطاعات الرسمية؛ تعلّمنا أهمية العمل مع الأشخاص الذين عاشوا التجربة. في الكثير من الأحيان؛ يتم استبعاد الأشخاص الذين سيستفيدون في النهاية من تغييرات البرنامج أو السياسة، من عملية فهم المشكلة، ومن ثمّ تحديد الحلول وتنفيذها؛ حيث تعدُّ المشاركةُ الحقيقيةُ مع الأشخاص الذين يواجهون المشكلة بشكلٍ مباشرٍ، أمراً بالغَ الأهميّة لضمان فعاليةِ الاستراتيجيات المتّبعة. على سبيل المثال؛ يلعب الشباب دوراً مهماً في «بروجكت يو – تيرن»؛ وهي مبادرة تأثيرٍ جمعيٍّ في فيلادلفيا، تركّزُ على تحسين نتائج الشباب المنقطعين عن الدراسة عن طريق إعادة ربطهم بالمدرسة والعمل. تركز مجموعة عمل المبادرة «صوت الشباب»، على ضمان دمج الشباب في جميع جوانب مشروع «يو – تيرن»؛ بما في ذلك المشاركةُ في اجتماعات اللجان، كما يشارك الشباب أيضاً في مشاريعٍ محدّدة؛ مثل تطوير حملةِ توعيةٍ عامةٍ حول الحضور إلى المدرسة، وقد آتت هذه المبادرة ثمارها، فقد حقّق مشروع «يو – تيرن» زيادةً بنسبة 12 نقطة مئوية في معدلات التخرج من المدارس الثانوية في فيلادلفيا منذ بداية البرنامج عام 2005.

التحول الفكري الثاني: كيفية عمل الأشخاص معاً

العلائقية لا تقلّ أهميةً عن العقلانية | في مقاله بعنوان “الأفكار البطيئة” في عدد 29 يوليو 2013 من مجلة نيويوركر، تساءل الباحث في نظريات الأنظمة «أتول جواندي» عن سببِ انتشار بعض الابتكارات القوية والموثّقة جيداً التي تساعد في علاج الأمراض الاجتماعية بسرعة، بينما لا تنتشر أخرى. تم العثور على إحدى الإجابات عن هذا السؤال بالنظر إلى مشكلة الموت أثناء الولادة العالمية، ففي كلّ عام، تموتُ 300000 أمٍّ وأكثرُ من ستِّ ملايينِ طفلٍ في وقتٍ قريبٍ من الولادة؛ معظم هذه الوفيات تحدث في البلدان الأفقر، وكما يشير جواندي، فإنّ العديدَ – وربّما الأغلبية – من هذه الوفيات يمكن تفاديها؛ حيث أنّ الحلولَ البسيطةَ المُنقِذَةَ للحياةِ لأسبابِ هذه الوفيات معروفةٌ منذُ عقودٍP إلا أنّها -ببساطةٍ- لم تنتشر.

لماذا يحدثُ هذا؟ يقتبس جواندي من الباحث الراحل إيفريت روجرز: “الانتشار هو في الأساس عمليةٌ اجتماعيةٌ يقوم من خلالها الأشخاص الذين يتحدثون إلى الآخرين بنشرِ ابتكارٍ ما”؛ يوضّح جواندي هذه الملاحظة من خلال وصفِ مدربةِ ولادةٍ في شمال الهند؛ والتي تمكنت -بعد أكثر من خمسِ زيارات- من إقناعِ قابلةٍ في مستشفىً ريفي بتضمين ممارسات ولادةٍ معتمدةٍ على الأدلة؛ تبنّت القابلة الممارسات الجديدة، لأن المدرّبةَ أقامت علاقةَ ثقةٍ معها؛ وليس بسبب مدى إقناع الممارسات المعتمدة على الأدلة. على حدِّ تعبيرِ ستيفن ام. ار. كوفي، ومن وجهة نظر شائعةٍ في عالم التنمية المجتمعية؛ يحدث التغيير “بسرعةِ حدوث الثقة”.

كما رأينا، فإنّ البياناتِ والأدلةَ معطياتٌ أساسيةٌ في عمليات التأثيرِ الجمعيّ؛ إلّا أنّنا يجب ألّا نستهينَ بقوّةِ العلاقات؛ حيث يمكنُ أن يؤدي الافتقار إلى العلاقات الشخصية، فضلاً عن وجود الغرور وتاريخٍ متعثرٍ للعلاقات، إلى إعاقة جهود التأثير الجمعي، لذا يجب على ممارسي التأثير الجمعي استثمار الوقت في بناءِ ثقةٍ وعلاقاتٍ قويتين بين الأشخاص؛ مما يفسح المجالَ للرؤيةِ والتعلم الجماعيَّين. علّق أحد القادة على النجاح الأخير الذي حققته جهود إصلاح قضاء الأحداث في نيويورك قائلاً: “هناك الآن حدسٌ مشتركٌ حول سببِ قيامنا بالأشياء والمكان الذي نريد أن نقود النظام إليه؛ إن عملية الجلوس إلى نفس الطاولة والتعرف على بعضنا البعض قد غيرت عملنا ومستوى الثقة التي نمنحها لبعضنا البعض “؛ يمكن أن ينجحَ التأثير الجمعي فقط عندما تهتمُّ العمليةُ باستخدام الأدلة وتقوية العلاقات على حدّ سواء.

الهيكلية والاستراتيجية على ذات القدر من الأهمية | عند الشروع في مبادرة تأثيرٍ جمعي، غالباً ما يميل أصحاب المصالح إلى التركيز على إنشاء “استراتيجية”؛ أي مجموعةٍ محددةٍ وملموسةٍ من الأنشطةِ التي يعتقدون أنها ستَضمنُ التقدّمَ نحو هدفهم. رغمَ أهميةِ امتلاكِ فكرةٍ عن كيفية معالجة الشركاء لمشكلةٍ ما؛ إلا أن الحلول لا تكون معروفةً منذ البداية في كثيرٍ من الحالات. نعتقد بوجودِ حاجةٍ إلى تحولٍ فكريٍّ مفصليٍّ؛ حيث يجب أن يدركَ ممارسو التأثير الجمعي أن قوة التأثير الجمعي تأتي من تمكين “الرؤية والتعلم والعمل الجماعيين”؛ بدلاً من اتباع خطة خطية. تُمكّنُ الهيكليات التي تُنشئها جهود التأثير الجمعي، الأشخاصَ من الالتقاء بانتظام للنظر في البيانات، والتعلم من بعضهم البعض في سبيل فهم ما ينجح وما لا ينجح؛ يؤدي مثل هذا التفاعل بالشركاء إلى تعديل إجراءاتهم، “مضاعفة دمج” الاستراتيجيات الفعالة والسماح لحلولٍ جديدةٍ بالظهور.

تعمل جهود التأثير الجمعي على تنسيق أعمال العشرات -وأحياناً المئات- من المنظمات، ويتطلب هذا التنسيق هيكليةً مقصودةً، كما كتبنا في المقال المنشور بتاريخ 26 يناير 2012 في مجلة SSIR بعنوان “توجيه التغيير: إنجاح التأثير الجماعي”؛ تنشئُ مستويات التعاون المتتالية طرقاً متعددةً للأشخاص للمشاركةِ وتوصيلِ الدروس وتنسيقِ جهودهم؛ من خلال هيكلةِ كيفية مشاركة أصحاب المصلحة للمعلومات والتفاعل مع بعضهم البعض، تتيحُ المبادراتُ إمكانيةَ التوصّل لرؤىً جماعيةٍ تحدّدُ استراتيجياتٍ جديدةً مع تطوّر العملية.

اقرأ أيضاً: التأثير الجمعي واسع النطاق يتطلب تنسيقاً بين القطاعات

مشاركةُ الفضل لا تقلّ أهميةً عن نيلِ الفضل | إحدى أكبرِ العوائقِ التي رأيناها تقف أمام تحقيقِ التأثيرِ الجمعي هي رغبةُ المنظّماتِ المنفردة في السعي للحصول على الفضلِ مقابلَ عملها؛ هذه النزعةُ مفهومةٌ- لا سيما في بيئةٍ يُطلب فيها بشكلٍ متكررٍ من المنظمات غير الربحية إظهار دليلٍ على تأثيرها الفريد من أجلِ الحصول على تمويلٍ سخيٍّ للمنح،؛وحيث تحمّلُ مجالسُ الإدارة موظّفي المؤسسة مسؤوليةَ النتائج، وتتطلّعُ الشركات إلى تقويةِ علاماتها التجارية، ومع ذلك؛ فإنّ السعيَ للحصول على الفضلِ المباشرِ أمرٌ صعبٌ للغاية في عمليات التعاون التي تتمّ على نطاقٍ واسعٍ، ويمكن له أن يمنع المشاركين من اتخاذ قراراتٍ تتماشى مع النظام الأوسع وأجندةِ الأعمالِ المشتركة، وأن يعيقَ جهودهم لإنشاءِ أنشطةٍ يعزز بعضها بعضاً، ونحن لا نعني بذلك أنه لا ينبغي للمنظمات تقييم عملها بدقةٍ وكيف يساهمُ في النتائج المشتركة؛ بل أنه يجب أن تفكر هذه المنظمات بقراراتها في سياق الآخرين. يتطلب القيام بذلك أيضاً تغييراً في السلوك بين الممولين من القطاعين العام والخاص؛ الذين يجب أن يعترفوا بمساهمة المنظمة في أجندة الأعمال المشتركة؛ بدلاً من البحث عن دليلٍ على مساهمة عمل المستفيد من المنحة.

بالنسبة لجهود التأثير الجمعي؛ يمكن أن تكون مشاركة الفضل مع الآخرين أقوى بكثيرٍ من احتكاره؛ لنضع في الاعتبار «المشاركة من أجل الشباب» في مقاطعة فرانكلين ومنطقة شمال كوبين في ولاية ماساتشوستس؛ وهو تحالفٌ حققَّ على مدى السنوات العشر الماضية، تقدماً كبيراً في الحدّ من تعاطي المخدرات والسلوكيات الخطرة الأخرى بين فئة الشباب. يقوم فريق الدعم الأساسي بوضع التحالف في المقدمة دائماً؛ حيث يمنح الجوائزَ علناً لعددٍ مختارٍ من أعضاء التحالف. يتمُّ تقديم لوحات الجوائز سنوياً، ويتم تمريرُ نفسِ اللوحة كل عامٍ مع إضافةِ أسماءِ المستلمين؛ حتى يتمكن أعضاء الشراكة من معرفة كيفية نموّ عملهم بمرور الوقت، كما عقد طاقم الدعم الأساسي أيضاً مؤتمراتٍ صحفيةً تسلّط الضوء على عمل المناطق التعليمية والشركاء الآخرين، للفت الانتباه إلى مساهماتهم؛ تتلخص روح التحالف في هذا البيان الصادر عن أحد قادة التحالف: “نفكر دائماً في من يمكننا لومهُ على النتائج الجيدة”.

الحفاظ على نزاهة مبادرة التأثير الجمعي

إن الوتيرة التي انتشر بها مفهوم ولغة التأثير الجمعي خلال السنوات الثلاث الماضية ملهمةٌ ومحفّزةٌ، نحن متشجعون لرؤية العديد من المنظمات في القطاعين الاجتماعي والخاص تتبنّى هذا المفهوم كطريقةٍ جديدةٍ لتحقيق تغيير الأنظمة على نطاقٍ واسع، فقد بدأ الممارسون والممولون وصانعو السياسات في إدراكِ أن حلَّ المشكلات الاجتماعية المعقدة على نطاقٍ واسعٍ، يمكن أن يحدث بشكلٍ أكثر فعاليةً عندما يعمل الفاعلون معاً؛ وليس من خلال البرامج والتدخلات المنعزلة- وهو تحوّلٌ مهمٌّ للغايةِ في هذا المجال.

لسوءِ الحظ؛ لاحظنا أيضاً أنه إلى جانب الحماس بشأن هذا الزخم، أصبح “التأثير الجمعي” كلمةً رنّانةً تُستخدم غالباً لوصف أشكال التعاون من جميع الأنواع، إنّ العديدَ من الجهود التي تستخدم هذا المصطلح لا تمثّلُ النهج الفريد القائم على البيانات والمشترك بين القطاعات؛ والذي يستخدم الشروط الخمس للتأثير الجماعي، كما أنها ليست مُقصِدةً في بناء الهيكلية والعلاقات التي تمكّن التعلم المستمر الناشئ بمرور الوقت؛ والذي يعد أمراً بالغَ الأهمية للتأثير الجمعي. أفادَ العديد من الممولين بشعورهم بالإحباط من تلقي طلبات المنح التي تدّعي استخدام التأثير الجمعي ولكنها لا تشبه النهج على الإطلاق، وعلى العكس من ذلك، فقد شارك الحاصلون على المنح إحباطَهم من قيام بعض الممولين بإنشاء برامج تفرض المشاركة في التأثير الجمعي؛ الذي يجبر مستحقّي المنح على التعاون مع بعضهم البعض بطرقٍ لا تتماشى مع نهج التأثير الجمعي الناشئ المشترك بين القطاعات، ولا تفيد أيٌّ من هاتين الحالتين في تعزيز الجهود لتحقيق تقدّمٍ إيجابيٍّ ومتّسقٍ على نطاقٍ واسعٍ.

من المهمّ الحفاظ على سلامة نهج التأثير الجمعي، ولكي يستمر المجال في تبني التأثير الجمعي كمسارٍ لتحقيق تغييرٍ واسعِ النطاق؛ يجب على الجهود التي تُعرّف نفسها بشكلٍ مناسبٍ على أنها تأثيرٌ جمعيٌّ، أن ترى النتائج. بالإضافة إلى أنه لتجنّب الابتعاد عن التأثير الجمعي باعتباره الطريقةَ المفضلة التي يقوم بها القطاع الاجتماعي بالأعمال؛ يجب أن نساعد الجهود التي تطلق على نفسها تأثيراً جماعياً بطريقةٍ غير دقيقةٍ، لفهم التغييرات المهمة التي يحتاجون إليها لزيادة احتمالات نجاحهم. يوجد الكثير على المحكّ؛ إذا تحوّلت النزعةُ الحاليةُ المتجهة نحو العمل الجماعي؛ من خلال سوءِ التفسير وخيبةِ الأمل في التأثير الجمعي، وكان العمل المنعزل يصبح سلوكاً تنظيمياً متوقعاً ومقبولاً مرةً أخرى، فإن إمكانات المجتمع لتحقيق التقدم المطلوب بشكل مستَعجلٍ سوف تتضاءلُ بشدة.

اقرأ أيضاً: استراتيجية التأثير الأقوى تترك أثراً أعمق

التحول الفكري الثالث: كيف يحدث التقدّم

أعِرِ الانتباه للعمل المتكيف؛ وليس فقط للحلول التقنية | إنّ مبادرات التأثير الجمعي مُصمّمةٌ للمساعدة في حل المشكلات الاجتماعية والبيئية المعقدة، كما وصفنا في مقال 21 يوليو 2013  في SSIR بعنوان “احتضان الظهور: كيف يعالج التأثير الجمعي التعقيد”، فإن المشكلات المعقّدة لا يمكن التنبؤ بها وتتغير باستمرار، ولا يتحكم فيها أي شخصٍ أو منظمة بمفرده؛ تتطلّبُ مثل هذه المشاكل حلّاً تكيّفياً للمشكلات. نظراً لأن الإجابة غالباً ما تكون غير معروفةٍ في البداية؛ يجب على المشاركين الانخراطُ في التعلم المستمر والتكيف، يسمح التأثير الجمعي بالحل التكيّفي للمشاكل عن طريق دفع العديد من المنظمات للبحث عن الموارد والابتكارات لحل مشكلةٍ شائعةٍ؛ مما يمكّن التعلّم السريع من خلال حلقات التغذية الراجعة المستمرة، وينسق الاستجابات بين المشاركين.

في المقابل؛ ركزت غالبية القطاع الاجتماعي تاريخياً على تحديد الحلول التقنية المحددة مسبقاً والقابلة للتكرار، وبالتأكيد؛ غالباً ما تكون الحلول التقنيةُ جزءاً مهماً من الحلّ الشامل؛ لكن العمل التكيّفي مطلوبٌ لتفعيلها. في أعمال إصلاح النظام القضائي للأحداث في نيويورك على سبيل المثال، أدرك العديد من أصحاب المصلحة أن إبقاء الشباب المسجونين في مجتمعاتهم الأصلية أو بالقرب منها؛ حيث يمكنهم تلقّي الخدمات والدعم، من المرجّح أن يحسن النتائج، ومع ذلك؛ على الرغم من أن هذا الحل التقني كان واضحاً، فإن السؤال عن كيفية تفعيل السياسة لم يكن كذلك، فقد تطلب الأمرُ حلاً متكيفاً. من خلال بناء الثقة وإرساء التطلعات المشتركة بين أصحاب المصلحة الذين كانوا موضع خلاف سابقاً؛ ساعدت جهود التأثير الجمعي على تمهيد الطريق لتنفيذ تشريعات برنامج “قريب من المنزل”. إنّ نجاح المبادرة في إحداث التغيير المطلوب في السياسة -حيث تم التوقيع على السياسة الجديدة من قبل حاكم الولاية في عام 2012- يُظهرُ التركيزَ الذي يجب على جهودِ التأثير الجمعي وضعهُ على العمل التكيفي؛ الذي يقوم بدوره بإنشاءِ العمليات والعلاقات والهيكليات التي يتم من خلالها إحرازُ تقدّمٍ حقيقيٍّ بوتيرةٍ متسارعةٍ.

 ابحث عن العديد من الحلول الفعالة بدلاً من حلٍّ سحريٍّ وحيد | إن الهدف المطلق لمبادرات التأثير الجمعي؛ تحقيق التغيير على مستوى السكان، يتطلّبُ من جميع أصحاب المصالح التخلّي عن البحث عن حلٍّ واحدٍ سحريٍّ، وبدلاً من ذلك؛ يجب عليهم تغيير طريقة تقكيرهم، وإدراك أن النجاح يأتي من اجتماع العديد من التدخّلات.

يُعتبر هذا التحول في العقلية؛ من البحث عن حلٍّ سحريٍّ إلى إيجادِ حلولٍ جزئيةٍ “من البحث عن الرصاصة الفضية إلى البحث عن الخردق الفضي”، مهماً لشركاءِ المبادرةِ وكذلك للممولين من القطاعين العام والخاص. بالنسبة للممارسين؛ يعني هذا التحولُ التفكيرَ في عملهم كجزءٍ من سياقٍ أكبر، والنظرَ في كيفيةِ تناسبِ مساهماتهم ضمن أحجيةِ الأنشطةِ الكُبرى، وبالمثل؛ يجب على الممولين وصانعي السياسات، التحولُ من الاستثمارِ في التدخلات الفردية ذات نقطة التأثير الواحدة، إلى الاستثمارِ في العملياتِ والعلاقاتِ التي تمكّن العديدَ من المنظماتِ من العمل معاً.

في حالة إصلاح نظام الأحداث القضائي في نيويورك؛ أدّت الجهودُ المتعددة المتضافرةُ إلى خفضِ عدد الشباب المسجونين بشكلٍ كبيرٍ وسريع، أنشأ الشركاء أنظمةَ بياناتٍ مرتبطةً؛ مما سمح للوكالات بالتنسيق بشكلٍ أكثرَ قعاليةً، كما أنشؤوا قاعدةَ بياناتٍ عامةً للبرامج المعتمدة على الأدلة الموجّهة للشباب في نظام المحاكم؛ والتي مكّنت مقدمي الرعاية والأسر من فهم واستخدام العديد من البرامج المتاحة بشفافيةٍ ووصولٍ أكبرَ مما كان ممكناً في السابق، وعلاوةً على ذلك؛ قاموا بجمع أدلةٍ حول نتائج الأحكام القضائية البديلة؛ والتي سمحت للقضاة بتجنب حبس الشباب بسبب جرائم الجنح فقط. أخيراً؛ عززوا التنسيق بين الوكالات الحكومية ومقدّمي الخدمات غير الربحيّين، لقد قاموا بسنّ العديد من التغييرات الإضافية على المستويين التنظيمي والمحلي ومستوى الولاية؛ لم يكن أيٌّ من هذه التغييرات كافياً لإحداث تغييرٍ واسعِ النطاق بمفرده؛ لكنها مجتمعةً تمثل تحوّلاً في النظام يستفيد منه آلافُ الشبابِ والمجتمعات في جميع أنحاء الولاية.

لا يقلّلُ التحوّلُ نحو الحلول الجزئية الفعالة من أهمية البرامج والتدخلات والسياسات الفردية عالية الجودة؛ بل على العكس؛ إنه يؤكّد ضرورةَ كلٍّ من هذه البرامج والسياساتِ للنجاح، وعدم كفايتها في الوقت نفسه؛ بدلاً من عزل البرامج الفردية ومحاولة توسيع نطاقها، يعمل التأثير الجمعي بالشكل الأمثل عندما يركّزُ على الطرق التي تتوافق بها التدخلات أو السياسات الفردية القويةُ معاً، ويُعزّز بعضُها بعضاً لحلّ مشكلة معقدة؛ تُعتبر هذه العقلية مضادّةً للثقافة السائدةِ بالنسبة للعديدِ من الممولين من القطاعين العام والخاص، والممارسين الذين يصممون وينفذون عملهم بمعزلٍ عن الآخرين.

تحقيق التأثير الجمعي

إن الزخم واسعَ الانتشارِ حولَ التأثير الجمعي محمّسٌ بالتأكيد؛ إنه يوضح التحول الحيويّ للمنظمات بعيداً عن تخطيط عملهم في عزلة، ونحوَ رؤيةِ عملهم في سياقِ نظامٍ أوسع؛ مما يمهّدُ الطريق لتغييرٍ واسعِ النطاق. ومع ذلك، فإنّ الشروط الخمس ليست كافيةً بحدّ ذاتها؛ حيث يتطلبُ تحقيقُ التأثير الجمعي إجراءَ تحولاتِ التفكيرِ الأساسية التي وصفناها هنا- حول من يشارك، وكيف يعملون معاً وكيف يحدث التقدم؛ لهذه التحولات آثارٌ كبيرةٌ على كيفية تصميم الممارسين وتنفيذهم لعملهم، وكيفية تحفيز المموّلين للمستفيدين وتفاعلهم معاً، وكيفية تقديم صانعي السياسات للحلول على نطاقٍ واسعٍ، ودون هذه التحولات الفكريةِ الحيوية؛ من غير المرجّح أن تحرز مبادرات التأثير الجمعي التقدمَ الذي صُمِّمَت من أجلِ تحقيقه.

اقرأ أيضاً: تقييم الأثر الجماعي: التعلُّم أثناء العمل

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.