ظهرت الفنون لأول مرة في الكهوف منذ آلاف السنين، وساعدت الإنسان في الفهم والتخيّل والإبداع والتواصل، ومع بدء الحضارة، أصبح الفن والعمل الخيري يعملان جبناً إلى جنب لإحداث التغيير الاجتماعي وغرس القيم وترجمة الخبرات عبر المكان والزمان.
ويمتلك الأفراد معلومات عن ثقافة الإغريق والرومان أكثر مما يعرفونه عن الوضع الاقتصادي السائد في هذه الحضارات، ومن المثير للاهتمام، أنه في فترات الركود الاقتصادي ارتفع عدد الحضور في الأحداث الثقافية، لأن الفنون توفر فرصاً للتفكير والتعلّم والتغيير، وتساعد أيضاً في توحيد الأفراد.
لذلك ينجذب روّاد العطاء إلى الفنون ويعتبرونها إحدى أدوات العمل الخيري لتمكين الشباب وتحسين المجتمعات المحرومة وحتى التعافي من آثار الحروب والصراعات، إذ يمكن أن يساعد العلاج القائم على الفن في تحسين النتائج الصحية عن طريق تقليل الألم والتوتر والقلق، كما يطور تعلّم الفنون مهارات المعرفية الاجتماعية للطلاب مثل التذكّر وحل المشكلات والتواصل.
بالتالي يجب على المانحين استخدام عدسة واسعة عند التفكير في استراتيجية العطاء الخاصة بهم، والعمل على جعل المؤسسات المعنية بالفنون مراكز للتواصل مع الآخرين والمشاركة في مبادرات التنمية المجتمعية.
ويمثل دعم الفنون وجماعات الإبداع دوراً جوهرياً للمانحين في المنطقة العربية التي تتزايد فيها الصراعات والمشاكل التنموية مثل الفقر والمرض، وفي هذا الإطار نستعرض تجربة فن جميل السعودية لتوظيف الفن في العمل الخيري العربي.
فن جميل مراكز فنية لأجل المجتمع
استكمالاً لمسيرة عائلة جميل السعودية في العمل الخيري والاجتماعي حول العالم، انطلقت مؤسسة فن جميل في عام 2003 بهدف حماية التراث الثقافي، وتعزيز ممارسة الفن المعاصر، وريادة الأعمال الإبداعية، واتخذت من السعودية والإمارات مقراً لها، ثم توسّعت في أنشطتها عبر جميع أنحاء العالم.
تعمل فن جميل جنباً إلى جنب مع مجتمع جميل، الذراع الخيرية لمجموعة عبد اللطيف جميل، وتتكامل جهود هاتين المؤسستين في إحداث تغيير إيجابي في المجتمع، إذ تكّرس مجتمع جميل جهودها لدعم الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية؛ فيما تطبّق فن جميل هذه الجهود في مجال الثقافة.
وانطلقت مؤسسة فن جميل من فكرة أن الفنون يجب أن تُتاح للجميع لما لها من دور جوهري في حياة الأفراد، وبناء مجتمعات منفتحة ومتفاعلة وفتح أفُق الحوار والتبادل، وأن الإبداع مقوّم أساسي لأي مجتمع صحي يتطلّع لبناء المستقبل، وتتنوع برامجها بين تنظيم المعارض والأعمال البحثية والتكليفات الفنية، كما أطلقت مبادرات ومشاريع بالتعاون مع شركاء رئيسيين من مؤسسات فنية وأكاديمية عريقة وشبكة من ممارسي الفنون حول العالم، ففي عام 2018، أسست مركز جميل للفنون في دبي بدعم من دبي القابضة ودبي للعقارات ومؤسسات أخرى.
يعمل مركز جميل للفنون في دبي على رعاية الفنانين ودعمهم لإنتاج البحوث والأعمال المميزة، ويتبني نهج مبتكر في تنظيم المعارض والبرامج التعليمية والبحثية، بهدف المساهمة في رعاية وبناء مجتمعات منفتحة ومترابطة. واستقبل المركز خلال الأسبوع الأول من افتتاحه ما يزيد عن 10 آلاف زائر، وشارك في نشاطاته نحو 40 فناناً.
وتبذل فن جميل جهوداً لإنعاش الحرف التراثية عبر الشراكة مع مؤسسة مدرسة الأمير تشارلز للفنون التقليدية ورعايتها لأنشطتها في مصر والسعودية، وفي 2009، تأسس بيت جميل للفنون التراثية في القاهرة بالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية في مصر، لتعليم لشباب المصري الرسم وتجانس الألوان والهندسة الإسلامية التقليدية، والأرابيسك، وينظّم برنامجاً لمدة عامين لدراسة الفنون التراثية في مصر، كما يدعم الخريجين الباحثين عن فرص عمل في مجال الفنون التراثية.
وتتبنى مؤسسة فن جميل طرقاً مبتكرة لدعم مجتمع الحِرف في السعودية، والمساهمة في الجهود المبذولة للحفاظ على ثراء وتنوع التاريخ والتراث المعماري والحِرفي، وعليه افتُتح بيت جميل للفنون التراثية في جدة عام 2015، وينظم برنامجاً لمدة سنة واحدة لتدريس نحو 20 طالباً سنوياً الفنون التراثية واستخدام المهارات لصيانة وترميم المنازل التراثية.
وتركز اهتمام فن جميل أيضاً على نقل ملامح الفن العربي والإسلامي إلى العالمين العربي والغربي، وذلك من خلال جائزة جميل للفن والتصميم المعاصر، وصالة جميل للفن الإسلامي. تماشياً مع الحقبة الجديدة للحياة الثقافية في السعودية، أطلقت المؤسسة حي: ملتقى الإبداع بمدينة جدة، ليصبح أول حاضنة للفنون والإبداع في المدينة، إذ لا يقتصر نشاطه على الفن فحسب، بل سيوفر لسكان جدة نشاطات متنوعة من خلال نوادي الأداء، والعروض المسرحية، والدار السينمائي، وريادة الأعمال والعمارة والتصميم.
تُعد الثقافة والفنون ضرورة للحفاظ على حيوية المجتمع وتوازنه، خصوصاً في أوقات الأزمات، وتجاوباً مع تبعات جائحة كوفيد-19، أطلقت فن جميل منصة للأبحاث والممارسات الفنية المستقلة في عام 2020، لدعم الفنانين والمبدعين الذين تعطلت مشاريعهم بسبب الجائحة، ورصدت المنصة لبرنامجها مبلغ يتراوح ما بين ألف إلى ألفي دولار، ويصل أحياناً إلى 3 آلاف دولار حسب تميّز المشروع وأهميته.
ختاماً، الفنون من الظواهر القليلة التي تترك انطباعاً عميقاً وفورياً ولديها القدرة على تجسيد الحالة الإنسانية بقوة، إذ استطاعت فن جميل خلق حالة فنية مميزة ساهم فيها الشباب في الحفاظ على التراث ودعم الإبداع.