كيف يمكننا مواجهة الفقر؟

مواجهة الفقر
shutterstock.com/Richard Cavalleri
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كم نحن حريصون على حل مشكلاتنا! وكم نبحث بإصرار عن إجابة أو منفذ أو علاج! نحن لا ننظر في المشكلة بحد ذاتها، لكننا نلتمس باهتياج وقلق إجابات قائمة على تصوراتنا الذاتية دائماً، وعلى الرغم من أننا نسبب مشكلتنا بنفسنا، فنحن نفكر في حلولها بعيداً عنها. فالبحث عن الحلول يعني تجنب المشكلة، لكن الحل ليس منفصلاً عن المشكلة بل جزء منها. تعليقات على الحياة، الفيلسوف جيدو كريشنامورتي.

لدينا جميعنا تجربة مع الفقر؛ فهو بالنسبة للبعض ذكرى قريبة، بينما يُشكل الوضع الراهن للبعض الآخر. ربما لا نمتلك سكناً أو طعاماً أو مالاً لشراء ما نحتاج إليه، أو ربما نواجه تداعيات افتقارنا لهذه الأساسيات في مراحل سابقة من حياتنا، أو ربما كنا فقراء بالمعنى المجازي، أي لا نحصل على الموارد أو الفرص التي تتاح للآخرين بسهولة. وفي أي حال من الأحوال، من المرجح أننا لا نحتاج إلى البحث طويلاً في تاريخنا العائلي لنجد أسلافاً عانوا من الفقر المدقع والمطلق.

لكن بالنسبة لمعظمنا، عملياً، قد تكون أكثر تجربة ملموسة نمتلكها مع الفقر هي تعاملنا مع شخص فقير وجهاً لوجه. مثلاً عندما نتوقف عند إشارة مرور، ويقترب منا رجل يحمل لافتة من الورق المقوى ويطلب المال، أو عندما تقترب منا امرأة أثناء مغادرتنا لمتجر بقالة وتطلب منا قروشاً لتشتري الطعام لأطفالها.

في مثل هذه اللحظات، نشعر وكأن ثقل المعاناة البشرية بأكملها قد أُلقي على كاهلنا، فنشعر بفيض من المشاعر؛ يملؤنا الغضب بسبب الفقر وانعدام العدالة، والشفقة على الشخص الذي يعاني، والانزعاج لأنه طلب منا المال، وتأنيب الضمير لأننا لم نعطه ما يكفي، ومن الصعب التعايش مع هذه المشاعر لفترة طويلة.

لذلك نحاول تحليل الموقف منطقياً؛ ربما يكون الرجل الذي يحمل اللافتة مدمناً على المشروبات الكحولية، أو مصاباً بمرض نفسي، أو محارباً قديماً يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة. وقد تكون المرأة أرملة، أو مهاجرة غير شرعية، أو جزءاً من عملية احتيال تستخدم التسوّل ذريعة لها. وإذا كانت نتائج تحليلنا المنطقي تُحرّض فينا الرغبة بالمساعدة في حال اخترنا تفسيراً لصالح الشخص، نبدأ حينها بالتساؤل عمّا يمكننا فعله لتقديم المساعدة: ربما نستطيع تقديم بعض المال، أو الاتصال بدائرة الخدمات الاجتماعية، أو وصله بأسرته التي انقطع عنها.

لكننا بعد ذلك نتساءل عن الأثر الذي تُحدثه أفعالنا حقاً، فنتساءل، هل كان الأمر يستحق العناء؟ وما الأثر الذي يُمكن أن نحققه فعلاً؟ نختار أفعالنا في نهاية المطاف بناء على تقييمنا للأثر الذي نتسبب به، سواء اخترنا التبرع بالمال أو تقديم مساعدة موضوعية أكثر، أو اخترنا غض النظر ببساطة، وفي هذه الحالة يساعدنا التقييم المنخفض لتأثير أفعالنا على تسويغ اتخاذنا هذا القرار.

هذه طريقة استجابة المجتمع للفقر عادة، فنحن نحدد الأسباب ونقترح الحلول ونقيّم أثرها. وكلّ من هذه الاستجابات تبدو منطقية ومناسبة تماماً، إلا أنها كلها تشبه الإدمان الذي يساعدنا على تجنّب التجربة العاطفية التي يثيرها الفقر داخلنا. ونتيجة لذلك، تفوتنا الخبرة والمعرفة التي كنا سنكتسبها إذا اختبرنا تلك التجربة بالكامل.

عندما يواجه الإنسان ما لا يحبه تتمثل استجابته الأولى غالباً في البحث عن تفسير منطقي، لماذا هذا هنا؟ كيف حدث هذا؟ من فعل هذا؟ لماذا؟ وفي حالة الفقر، نرغب في معرفة أسبابه. من أين يبدأ الفقر؟

ترون في الأعلى لائحة بأسباب الفقر التي تظهر على موقع ويكيبيديا، وهي مذهلة، إذ تتضمن الحروب والأمراض والديكتاتورية والكوارث والإفراط في الاعتماد على الزراعة وقلة التصنيع والعنف المنزلي والحمل لدى المراهقين. لكن هل هذه هي أسباب الفقر حقاً؟ أهذه الأسباب هي ما يجعل الفقر موجوداً؟

بالطبع لا، فكل هذه الأشياء و الفقر منها موجودة بشكل أو بآخر منذ بداية الوجود البشري. الفقر هو الحالة الأولية للجنس البشري ولا يحتاج إلى سبب، إذ انطلقت التجربة البشرية من الفقر، وحتى وقت قريب نسبياً كانت قضية يائسة إلى حد ما. والحرب والأمراض والتمييز العرقي وغيرها من “الأسباب” المذكورة سابقاً ليست إلا تداعيات أخرى لهذا اليأس الذي هو أساس البشرية.

الفقر ليس شيئاً جديداً دخل إلى الوجود الإنساني السعيد والمتناغم لأسباب متنوعة، ويجب علينا إقصاؤه مجدداً، كما لا يمكننا تحديد أسبابه ومعالجتها واحدة تلو الأخرى إلى أن يختفي. نحن نبحث عن الأسباب فقط لأننا نتوق إلى إيجاد تفسير منطقي يساعدنا على كبت المشاعر التي يُحركها الفقر داخلنا، وننظر إلى الأسباب كي يبدو لنا الفقر “منطقياً”، نريد تحجيم الفقر لنجعله جزءاً من النظام حولنا بدلاً من أن يكون جزءاً منا.

إدمان الحلول

ثم نضع حلولاً للفقر ونتخذ إجراءات لتنفيذها، وبذلك لا نضطر لمواجهة تجربتنا العاطفية مع الفقر لأننا بالفعل نفعل ما نستطيع فعله للتخلص منه. ولكن من أين تنشأ هذه الحلول؟

في كتابه “طبيعة الفقر الجماعي“، كتب جون كينيث غالبريث أن ما يعتبره الناس سبباً للفقر هو دائماً الافتقار إلى ما يمكنهم تقديمه إلى الفقراء. نريد جميعاً أن نكون ذوي قيمة، لذلك نصوغ رؤية للعالم نضع فيها الحلول للمشكلات التي نلاحظها. ويشير غالبريت إلى أن النماذج الغربية الأولى من التطور الاقتصادي صُممت لتقديم المساعدة التقنية والمالية إلى البلدان الفقيرة، نظراً لأن هذا ما كان يمكن للغرب تقديمه.

وبالمثل، الحلول المقترحة اليوم هي أفكار وسياسات وتقنيات يزداد انتشارها في الغرب. فالابتكارات المالية (مثل التمويل المتناهي الصغر) كانت ذات شعبية كبيرة، والشمول الاجتماعي رائج أيضاً لأن البلدان الغربية تسنّ التشريعات لمواجهة التفرقة والتمييز. ومثلما نحمي حقوق الأقليات في الغرب، تحتاج البلدان النامية إلى حماية حقوق الأقليات أيضاً بلا شك، وتصبح تنمية اليافعين مهمة مع وضع البلدان الغربية آمالها في أبنائها من أجيال الألفية.

هذه الحلول الهادفة ليست سيئة بحد ذاتها، وفي الواقع قد يمثل كل منها أحد أوجه عالم يخلو من الفقر، تماماً مثلما يمثل كلّ مما يسمى بأسباب الفقر أحد أوجه العالم الذي يعاني الفقر. نمتلك بعض أوجه العالم الخالي من الفقر بالفعل، ولذلك نعدّها حلولاً، لكن الأوجه التي لا نمتلكها بعد كثيرة، ولن نصل إليها إلا إذا كنا مستعدين لخوض التجربة العاطفية التي يولدها الفقر فينا.

إدمان التأثير

بلغ اهتمام المانحين بإحداث تأثير ملموس ذروته في السنوات الأخيرة، ويريحنا هذا الإدمان من خلال ترسيخ الفقر على أنه شيء خارجي يمكننا تغييره من مكاننا من خلال إرضاء أنفسنا بالنجاحات الموثقة وخلق الأعذار عندما نرى أن جهودنا لن تكون ذات فائدة تذكر.

لماذا نشعر أننا مجبرون على إحداث تأثير؟ الفقر هو الحالة الأولية للبشر ترافقهم منذ خلقوا، وأنا لا أقلل من شأن التحسينات المتزايدة المتوافرة، ولكن نظراً إلى الدور الأساسي للفقر في المسيرة البشرية، هل يحتمل أن تحدث استجاباتنا الهادفة له تأثيراً قابلاً للقياس على مدى بضع سنوات؟

لا أعتقد ذلك، بل أظن أننا نقيّم تأثيرنا أساساً لدعم ادعاءاتنا الأنانية بالكفاءة، ولنحجّم الفقر ونطمئن أنفسنا أننا نؤثر في العالم وأن حياتنا لها معنى. هذا الإحساس بالمعنى يعتمد على التكوين الزمني: فنحن نجعل الغد أفضل من اليوم، ولكن هل قمة استجابة متاحة للفقر تكون هادفة بمعزل عن البنية الزمنية؟

الحضور الفعال لمواجهة الفقر

في الوقت الحالي، يكون لحياتنا معنى عندما نكون حاضرين تماماً مع من يعانون حولنا. يعرّف المدرب التنفيذي، دوغ سيلسبي الحضور بأنه “حالة من الوعي في الوقت الحالي، يميزها الإحساس بالانفصال عن الزمن والترابط والحقيقة الأكبر”. يسمح الحضور للشخص الآخر بالتعبير عن المشاعر التي يحملها منذ زمن طويل والتخلص منها، إذ ربما تكون قد أسهمت في الكوارث المتكررة في حياته، ويتيح له تخيل طريقة جديدة تماماً لوجوده في العالم، عندها فقط يمكنه الاستفادة بالكامل من الموارد والفرص التي قد تكون متاحة بالفعل من حوله.

ولكن كي نكون حاضرين تماماً من أجل الفقراء، علينا أولاً أن نكون حاضرين تماماً مع أنفسنا وعواطفنا؛ كلمة “عاطفة” باللغة الإنجليزية (Emotion) مشتقة من الجذر اللاتيني الذي يحمل معنى “الخروج”، فمن داخل الفضاء العاطفي الذي يخلقه الفقر فينا سنجد طريقنا للخروج منه في النهاية. وعلى العكس، فالجذر اللاتيني لكلمة “الإدمان” (Addiction) يعني “تسليم النفس” أو “الاستسلام”، ونحن نستسلم إلى إدماننا لنتجنب الحضور على وجه التحديد:

  • إدماننا على الأسباب يجعلنا منفصلين لا متصلين، ما يجعل الفقر جزءاً من نظام خارجي لا داخلي يشكل جزءاً منا.
  • وإدماننا على الحلول يضعنا في إطار زمني ذهني نرى فيه مستقبلاً أفضل من الحاضر.
  • وإدماننا على التأثير يتجاهل الحقيقة الكبرى عبر الاحتفاء بإنجازاتنا الفردية.

إذا حررنا أنفسنا من هذا الإدمان فقد نجد حل الفقر الذي يكمن في مشكلة الفقر بحد ذاتها، قد نجد أننا، كما يقترح كريشنامورتي، نخلق المشكلة بأنفسنا لأننا نرى أن العالم لا يعاني أي مشكلة، بل الناس يعانون المشكلات لأنهم يرغبون في أن يكون العالم مختلفاً عن واقعه. فلنتقبل العالم كما هو ونبدأ نقاشاً جديداً حول شعورنا تجاه الحياة في الحاضر، ومن ثم “نخرج” من هذا الواقع.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.