كيف يمكن تحديد خط الفقر وقياس معدلاته؟

خط الفقر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إن الطريقة التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية لتحديد من هو فقير ومن ليس كذلك – وهو قياس يعتمد فقط على كلفة الطعام – هي طريقة مليئة بالأخطاء. نحتاج إلى نهج جديد، نهج يقيس الفقر من خلال عدة عوامل مثل الإسكان، والنقل، والفروقات الاقتصادية الإقليمية.

في 13 يوليو/تموز من عام 2008، بلغ معدل الفقر في مدينة نيويورك نسبة 18%. وبعد 24 ساعة تضخمت النسبة حتى وصلت 23%. كيف أصبح أكثر من 400,000 من سكان مدينة نيويورك فقراء بين عشية وضحاها؟ الإجابة أن العمدة مايكل بلومبيرغ تبنى طريقة قياس جديدة وأكثر تعقيداً للفقر – وأضاف أنها أكثر دقة أيضاً – من تلك الطريقة التي تتبعها الحكومة الفدرالية. وقد أطلق نهجه هذا نقاشاً في العاصمة واشنطن وخارجها، حول الطريقة التي تتبعها أميركا لتحديد من هو فقير – وهو نقاش يأمل العديد أن يقوم الكونغرس الأميركي بالحسم فيه هذا العام.

إن معظم الأشخاص المهتمين بقياس معدل الفقر – مثل الأكاديميين، وصانعي السياسات، وقادة المؤسسات غير الربحية وأمثالهم – يتفقون على أن الطريقة التي تتبعها الحكومة الفدرالية حالياً لتحديد من هو فقير ومن ليس كذلك، هي طريقة غير فعالة. فقد تم تحديد ما يدعى “خط الفقر” في منتصف ستينات القرن العشرين عن طريق حساب التكلفة المالية لشراء سلة من المواد الغذائية الأساسية، ثم حساب ثلاثة أضعاف تلك القيمة. ويتم في كل عام تحديث خط الفقر ليتناسب مع التضخم الاقتصادي. (خط الفقر الحالي هو 10830 دولاراً أميركياً للفرد الواحد و 22050 دولاراً أمريكياً لأسرة مكونة من أربعة أفراد). إذا كان شخص ما يعيش في أسرة يقل دخلها عن هذا المبلغ، يُعتبر فقيراً. إذا كان دخل الأسرة مساوياً لهذه القيمة أو أعلى منها (حتى ولو بقيمة دولار واحد)، فهو لا يُعتبر فقيراً. ولا يأخذ هذا القياس في الاعتبار تكاليف المعيشة الأخرى إلى جانب الغذاء، وخط الفقر الفيدرالي هو نفسه سواء كان الشخص يعيش في مدينة نيويورك أو مدينة ماكاليستر بولاية أوكلاهوما.

يُستخدم خط الفقر الفدرالي لتحديد مخصصات كافة أنواع المساعدات الفدرالية والحكومية والمحلية والأهلية لتلقيها، وتتضمن هذه المساعدات قسائم الطعام، والمساعدة المؤقتة للعائلات المحتاجة (TANF)، وبرنامج المساعدة الطبية، مديكيد (Medicaid). ولكيفية تحديد خط الفقر تأثيرات مادية حقيقية على العائلات ذات الدخل المنخفض. كما أن خط الفقر هو الطريقة الأكثر أهمية التي تستخدمها أميركا لقياس مدى حُسن رعايتها لأفرادها الأكثر حاجة. وإن وجود نسبة كبيرة ومتنامية من الأشخاص تحت خط الفقر يشير إلى أننا لا نقوم بما يكفي لمساعدتهم. بالمقابل فانحصار نسبة الأشخاص الموجودين تحت خط الفقر وتقهقرها قد تعني أننا على الطريق الصحيح.

حان الوقت لنحسن مقاييسنا للفقر. إلا أن النقاش الحالي حول مبادرة بلومبيرغ وغيرها من المقترحات لتحديث كيفية قياسنا للفقر، تقع في الفخ ذاته عبر اختزال مشكلة معقدة مثل الفقر في رقم واحد أو بالأحرى في خط. إذا كان هدفنا هو الخروج بمقياس أفضل للرفاهة من أجل تشخيص احتياجات الإنسان وتصميم حلول فعالة لها، فلا يمكن لأي “خط” مهما كان مدروساً ودقيقاً أن يفي بالغرض.

نظرا للتحولات اللصيقة بالفقر، تحتاج مؤسسات الخدمات الاجتماعية وصناع السياسات إلى معلومات وبيانات أوفى حول السياقات المحيطة بالفقر وإلماماً أكبر بالفروقات الدقيقة بين سياق وآخر. والبيانات التي نحتاج إليها موجودة مسبقاً. تكمن المشكلة في أن تلك البيانات مبعثرة بين عشرات المؤسسات الحكومية وغير الربحية وتتطلب خبراء للوصول إليها وتفسيرها. فنحن نعيش في عصر المعلومات – وقد حان الوقت ليطالب من يسعون لتحقيق الرفاه العام للمجتمع بالحصول على مزيد من هذه المعلومات. حان الوقت لنتجاوز خط الفقر.

تحديد خط الفقر

تم إنشاء خط الفقر الفيدرالي الحالي في عام 1964 من قبل مولي أورشانسكي، خبيرة اقتصادية كانت تعمل في إدارة الضمان الاجتماعي الأميركية1. كانت مهمتها وضع عتبة لما يعنيه أن تكون فقيراً، لذا بدأت بتحليل واحدة من ضرورات الحياة الأساسية، ألا وهي الطعام. كانت خطوة أورشانسكي الأولى هي تحديد تكلفة إطعام عائلة وفق “خطة الطعام الاقتصادية”، وهي الخطة الأرخص من بين خطط الطعام الأربعة التي تُعتبر متكاملة غذائياً من قبل إدارة الزراعة الأميركية (USDA). ثم وضعت قيمة تقريبية تشير إلى أن العائلة المتوسطة تنفق ثلث ميزانيتها على الطعام. بعدها، أمكن وضع عتبة الفقر عبر حساب ثلاثة أضعاف كلفة أبسط خطة غذائية.

بسبب توقيت حسابات أورشانسكي – حيث أطلق الرئيس ليندون جونسون حربه على الفقر في عام 1965 – سرعان ما تبنت الحكومة الفيدرالية العتبة التي وضعتها أورشانسكي كأساس للسياسة. وبذلك ولد خط الفقر. وباستثناء التعديلات السنوية بسبب التضخم الاقتصادي، فلم يتغير منذ ذلك الوقت.

على مدى عقود من الزمن، تذمر الناقدون من محدودية قياسات أورشانسكي. هل نقوم بتحديد دخل الأسرة قبل اقتطاع الضرائب أم بعده؟ هل نحتسب قسائم الطعام وغيرها من التحويلات؟ وماذا بشأن تكلفة الحاجات الضرورية الأخرى مثل المأوى والمرافق العامة والنقل؟ لماذا يوجد خط فقر واحد للبلد بأكمله في حين أن تكلفة المعيشة تختلف على نطاق واسع في المناطق المختلفة من البلاد؟

بعد ثلاثة عقود من الإحباط والنداءات من أجل التحسين، طلب الكونغرس في عام 1992 من الأكاديمية الوطنية للعلوم (NAS) تأسيس مجموعة من الأكاديميين والمفكرين السياسيين للعمل على هذه المشكلة. وقد صممت الهيئة المعنية بالفقر ومساعدة الأسرة طريقة أفضل لقياس الفقر2. ونشرت التوصيات التفصيلية للمجموعة في مقال بعنوان “قياس الفقر: نهج جديد (Measuring Poverty: A New Approach) وتم السعي إلى التعويض عن أوجه القصور في عتبة أورشانسكي من خلال احتساب الاحتياجات الاستهلاكية الكاملة للعائلات، عبر وضع مقياس أكثر دقة لدخل الأسرة، والتباين الإقليمي في تكلفة المعيشة.

كان المقترح عبقرياً لدرجة أن توصيات هيئة NAS تم تجاهلها بشكل كبير على مدى السنوات الخمس عشرة التالية. لماذا؟ الخبيرة الاقتصادية ريبيكا بلانك، وكيلة وزارة التجارة للشؤون الاقتصادية في إدارة الرئيس باراك أوباما في إدارة التجارة الأميركية، أجابت عن هذا السؤال ببراغماتية ضمن مقابلة أجرتها مع مجلة لوس أنجلوس تايمز (Los Angeles Times) بقولها “لسوء الحظ، لم يرغب أي رئيس (ديمقراطي أو جمهوري) في التعامل مع هذه القضية السياسية الشائكة. فإذا أظهر المقياس الجديد نسبة فقر أعلى، سيبدو الرئيس بمظهر سيئ، لكن إذا أظهر نسبة فقر أدنى، سيتم اتهام الرئيس بتجاهل المشكلة3“.

في غياب المراجعة، أصبح خط الفقر عديم الفائدة بشكل متزايد كأداة لاستهداف وتقييم السياسة العامة، لا سيما على مستوى الولايات والمستوى المحلي. وقد توقفت معظم الحكومات الفدرالية والدولية والمحلية عن استخدام خط الفقر لتحديد أهلية الأفراد للاستفادة من البرامج الاجتماعية. حيث يتم تحديد الأهلية حالياً في الغالب عند مستويات 125% أو 150% أو حتى 200% من خط الفقر الفدرالي.

مع عدم رغبة الحكومة الفيدرالية في مراجعة الطريقة التي تقيس بها الفقر، كان الطريق متاحاً أمام بلومبيرغ لتغيير المقاييس إلى حد كبير على أساس توصيات لجنة NAS. وفي إعلانه عن مقياس الفقر الجديد، قال بلومبيرغ: “إذا كنا جادين بشأن محاربة الفقر، علينا أيضاً أن نبدأ جدياً بقياس الفقر بدقة. لقد تغير الاقتصاد كثيراً منذ منتصف ستينات القرن الماضي, كذلك تغير المجتمع والإعانات الحكومية، إلا أن صيغة قياس الفقر لم تتكيف استجابة لذلك. لا يمكننا ابتكار استراتيجيات فعالة لمعالجة الفقر إلى أن نفهم أبعاده الكاملة4“.

فماذا كانت نتائج معيار بلومبيرغ الجديد، والذي أدى إلى تصنيف ما يقرب من نصف مليون شخص آخر في نيويورك على أنهم فقراء؟ لا شيء تقريباً وفقاً لفرانسيس فوكس بايفن، الأستاذة المتميزة في علم الاجتماع والعلوم السياسية في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. تقول بايفن، حسب ما ينقله عنها مقال بمجلة غوثام غازيت (Gotham Gazette) :”اقترح العمدة بلومبيرغ مقياساً أكثر واقعية للفقر يأخذ في الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة في مدينة نيويورك. … كان بلومبيرغ على حق: حيث أن خط الفقر الرسمي في الولايات المتحدة الأميركية غير واقعي”. وتضيف “لا يأخذ في الحسبان التكاليف الفعلية لمستلزمات المعيشة الأساسية. … إذا كنا نعتقد أن مقياساً جديداً سيعني وضع سياسات أكثر سخاءً، فقد كنا مخطئين5“.

وبالمثل، كان بعض قادة المؤسسات غير الربحية متشككين أيضاً؛ حيث تقول سوندرا يودلمان، المديرة التنفيذية لمؤسسة أصوات المجتمع المسموعة (Community Voices Heard)، وهي مؤسسة أهلية مقرها مدينة نيويورك، إن: “التدابير الجديدة التي تطرحها نيويورك على سبيل المثال، تبدو منطقية أكثر بالتأكيد، لكنها لا تزال تفشل في الاقتراب من فهم الحاجة بعمق بما يكفي لتوفير حلول سياسية قابلة للتطبيق لمعالجة الفقر”.

طرق لقياس الفقر

حتى إذا كان خط الفقر الجديد الذي تستخدمه مدينة نيويورك غير كافٍ، لا بد من أن يكون هناك خط يقيس الفقر بشكل مناسب. أو لعله أمر غير ممكن؟ يجادل باحثون ونشطاء وبعض صناع السياسات بأن المشكلة الرئيسية في النظام الأميركي لقياس الفقر هي أن الخط مقياس مطلق6.

والمقاييس المطلقة تمتلك أوجه قصور واضحة. فمن الصعب تحديد حد أدنى من السلع الضرورية لفرد أو أسرة بطريقة موضوعية. ويصبح الأمر صعباً بشكل خاص في بلد غير متجانس مثل الولايات المتحدة الأميركية، حيث توجد اختلافات إقليمية كبيرة من حيث تكلفة السلع والخدمات. كما أن تعريف ما هو ضروري يتغير بشكل كبير مع مرور الوقت. حيث انخفضت تكلفة الأطعمة في الولايات المتحدة، بينما ارتفعت تكاليف السلع والخدمات الأخرى، مثل الرعاية الصحية. لذلك، فإن قياساً قائماً على تكلفة المواد الغذائية وحدها سيخفق في تقدير الحد الأدنى لكلفة المعيشة مع مرور الوقت. إذاً ما هي السلع والخدمات الأخرى التي يجب أخذها بعين الاعتبار؟ فعلى سبيل المثال، في بعض المدن (مثل لوس أنجلوس) يُعتبر امتلاك سيارة أمراً أساسياً، بينما في مدن أخرى (مثل نيويورك)، يستخدم معظم السكان المواصلات العامة.

إن قياس الفقر بطريقة مطلقة يشكل أيضاً تحديات لأن القوة الشرائية للدولار تتغير ليس فقط بمرور الوقت، بل أيضاً بين منطقة وأخرى. وإن أحد مقاييس الفقر البدائية المستخدمة في العالم النامي هو مقياس مطلق أيضاً، وهو معيار دولار في اليوم، والذي غالباً ما تستشهد به مؤسسات مثل البنك الدولي. باستخدام هذا المقياس، يتم تحديد معدل الفقر في البلدان النامية من خلال النسبة المئوية للأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، أو دولارين في اليوم في البلدان النامية الأكثر تقدماً. وبالرغم من أنه معيار مرغوب لبساطته، فإن معيار دولار في اليوم قد تعرض لانتقادات حادة لأنه لا يأخذ في الحسبان القيمة المختلفة للدولار في البلدان المختلفة7، من بين العديد من العيوب الأخرى. ولا يقتصر الأمر على أن تكلفة الضروريات الأساسية تختلف بشكل كبير من بلد إلى آخر، ولكن أنواع الخدمات التي تقدمها الحكومات (مثل الرعاية الصحية والتعليم) يمكن أن تكون مختلفة تماماً أيضاً.

توجد بالفعل طرائق بديلة لحساب خط الفقر. وأهمها مقياس نسبي للفقر مبني على احتساب نسبة مئوية من دخل أو استهلاك الفرد الشخصي في بلد أو منطقة معينة. فعلى سبيل المثال، يعرف الاتحاد الأوروبي الأفراد الذين يعيشون في منزل دخله أقل من 60% من متوسط دخل الأمة على أنهم يعيشون في فقر. ويناقش مؤيدو مقاييس الفقر النسبية بأنها أكثر فعالية لأنها تأخذ في الحسبان المستويات المتغيرة لعدم المساواة داخل المجتمع. فمع زيادة الثروة الإجمالية للمجتمع، يزداد مستوى الفقر إذا لم تواكب الأسر ذات الدخل المنخفض التطور الحاصل. وإن المقاييس النسبية للفقر تحول تعريف الفقر من كونه يتعلق بالموارد المادية اللازمة للبقاء إلى كونه امتلاك ما هو أقل من الآخرين في المجتمع.

إحدى مشاكل استخدام الطريقة النسبية هي أن التغيرات في معدل الفقر النسبي قد تفشل في توصيف التغيرات الفعلية في الرفاهة المادية “للفقراء”. ونرى في أيرلندا مثالاً حياً على ذلك؛ فللمفارقة، عندما حققت أيرلندا إقلاعاً اقتصادياً في أواخر التسعينات، ارتفع أيضاً معدل الفقر بها. ومع زيادة متوسط الدخل، أصبحت العديد من العائلات التي لم تتعرض لخسارة في الدخل في حالة فقر، على الرغم من أن حالتها المطلقة لم تتغير8. وقد يكون للانكماش الاقتصادي الحالي تأثير معاكس – فمع انخفاض متوسط الدخل، قد يرافقه انخفاض عدد الأسر الفقيرة، رغم أنهم ما زالوا يواجهون صعوبات مادية. فإن نقطة قوة المقياس النسبي للفقر – وهي مراعاته للتوزيع العام للدخل – هي أيضاً واحدة من أهم نقاط الضعف فيه. وإذا كان صانعو السياسات مهتمين في المقام الأول بالحد من المصاعب المادية المرتبطة بالفقر، فإن مقاييس الفقر النسبية قد لا تقدم المعلومات التي يبحث عنها صانعو السياسات.

بالإضافة إلى مقاييس الفقر المطلقة والنسبية، يقترح البعض طريقة ذاتية لقياس الفقر. ففي حين أن مقاييس الفقر النسبية والمطلقة تعتمد على وكالة خارجية لتحديد عتبة الفقر. إلا أن الحكم الأفضل على ما إذا كان شخص ما فقيراً أم لا، قد يكون الشخص الفقير نفسه. تعتمد مقاييس الفقر الذاتية على إبلاغ الشخص نفسه عما إذا كان لديه دخل كافٍ لتلبية احتياجاته أم لا9. لكن مقاييس الفقر الذاتية غالباً ما تكون غير عملية عندما يتعلق الأمر بتقديم الدعم الحكومي للفقراء، على الرغم من أنها مقياس مفيد للرفاهة المدركة الإجمالية. وإذا كان الشخص قادراً على أن يقرر بنفسه ما إذا كان فقيراً ويستحق مساعدة الحكومة، فهناك دافع واضح للادعاء.

ما لا يمكننا معرفته من خط الفقر

لا يوجد خط فقر واحد، مهما كان حسن التصميم أو حسن النية، يمكن أن يوفر المعلومات التي يحتاج إليها قادة المؤسسات غير الربحية وصانعو السياسات لخدمة مجتمعهم بشكل أفضل. فلا يمكن للخط أن يوفر المعلومات حول عمق الحرمان وشدته. ولا يمكنه أن يخبرنا عن مدة حالة الفقر، ولا يوفر معلومات مباشرة حول الحرمان الفعلي، مثل التشرد والمجاعة. بالإضافة إلى ذلك، فإن خط الفقر لا يوفر أية معلومات حول أسباب الفقر أو الأشياء المرتبطة به. وأخيراً، إن الاستناد إلى خط بسيط يحد من فهمنا للفقر في المجالات الاقتصادية، حيث أنه يتجاهل الأبعاد الاجتماعية والسياسية للإقصاء والتهميش.

كما لا يمكن لخط الفقر أن يوفر معلومات حول عمق الفقر وشدته. يمكن أن يتركز هؤلاء الأشخاص المصنفين كفقراء تحت خط الفقر مباشرة، أو قد يتركزون قرب حد انعدام الدخل. وإذا كان معظم الأشخاص الفقراء مركزين تحت خط الفقر مباشرة، فهم على الأرجح يعملون وفقراء. ولمساعدة هؤلاء الأشخاص، يمكن التركيز على برامج الدعم المهني، مثل الإعفاء على ضريبة الدخل المكتسب (Earned Income Tax Credit). بينما يمكن اتباع مجموعة مختلفة من السياسات والبرامج إذا كان لدى معظم الناس دخل ضئيل أو معدوم.

لا يوفر خط الفقر معلومات حول منذ متى وهؤلاء الأشخاص فقراء. حيث أن الفقر المرحلي غالباً ما ينتج عن فقدان العمل أو المرض المفاجئ أو أي أزمة غير متوقعة أخرى. في حين أن الفقر المزمن قد يكون نتيجة إعاقة جسدية أو عقلية، أو الحرمان المتراكم لأجيال، أو نقص كفاءة التعليم، أو نقص الوظائف. وقد يتطلب الفقر المرحلي مساعدة قصيرة الأجل، بينما قد يتطلب الفقر المزمن تدريباً وظيفياً ودعماً أكثر شمولاً.

على الرغم من أن الدخل مرتبط إلى حد كبير بظروف الفرد المادية، فهو يوفر معلومات منقوصة حول الحرمان الفعلي. فهل هذا الفرد غير قادر على دفع الإيجار ولذلك يعيش في الشارع؟ وهل العائلة غير قادرة على شراء طعام كاف لذا يعاني الأفراد البالغون في المنزل من الجوع؟ وهل يحاولون تدبر أمرهم عبر التخلي عن شراء الأدوية التي يحتاجون إليها بشدة؟ في كل من هذه الحالات، نحتاج إلى برامج مختلفة للتخفيف من حدة المشكلة.

بالإضافة إلى ذلك كله، لا يوفر خط الفقر معلومات مهمة حول صحة الفرد، وهي أمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفقر. فالأشخاص الفقراء أكثر عرضة للمشاكل الصحية وأقل عرضة لتلقي الرعاية المناسبة لهذه المشاكل. وفي الوقت ذاته، الأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية أكثر عرضة لأن يكونوا فقراء بسبب عجزهم عن المشاركة الكاملة في سوق العمل. فخطوط الفقر غير قادرة على تفسير هذه الأمور المهمة المرتبطة بالفقر، مما يمثل مشكلة نظراً لأن التدخلات الصحية يمكن أن تلعب دوراً مهماً في الحد من الفقر.

أخيراً، إن معرفة أن الأسرة تحت خط الفقر لا يخبرنا بمدى اندماجها في المجتمع. هناك اختلاف نوعي بين أسرة يبلغ دخلها السنوي 15000 دولار أميركي حيث يكون الأب والأم حاصلين على تعليم ثانوي، ولهما حق التصويت في الانتخابات، ويحصلان على رعاية صحية، ويعيشان في منزل نظيف ومتواضع في حي آمن، وعائلة أخرى بنفس مستوى الدخل والتي لا تمتلك أياً من هذه الأشياء. فالأولى عائلة تنتمي لطبقة عاملة تتدبر أمرها جيداً، والأخيرة هي ما تتألف منها الطبقة الدنيا. فالإقصاء الاجتماعي – وهو مصطلح شائع الاستخدام في أوروبا ولم يحقق انتشاراً كبيراً في الولايات المتحدة – هو درجة انفصال الفرد (أو المجموعة) عن المجتمع الأكبر10؛ حيث تساعد متغيرات الفقر هذه على تقريب فهم أفضل لصورة الإقصاء وإعطاء صانعي السياسات معلومات أفضل لتصميم الحلول.

خط الفقر في الواقع العملي

قد يتفق معظم الأشخاص على أن مدينتي نيويورك ولوس أنجلوس مدينتان مختلفتان تماماً بمشاكل اجتماعية متباينة، ومع ذلك فإن للمدينتين معدلات فقر فدرالية متطابقة تقريباً – 18.6% و18.9% على التوالي. ولكن العوامل الاجتماعية والاقتصادية المختلفة لهاتين المدينتين تشير إلى أن أسباب الفقر من المرجح أن تكون مختلفة تماماً. ومن المرجح أيضاً أن الحلول اللازمة للتخفيف من حدة الفقر أو تخفيض معدلاته في كل مدينة ستكون على ذات القدر من التمايز.

أحد أكثر الفروقات إدهاشاً بين أكبر مدينتين في البلاد هو المزيج العرقي والإثني في كل منهما. ففي حين أن 25.1% من سكان نيويورك من أصحاب البشرة الداكنة، فإن 9.9% فقط من سكان لوس أنجلوس هم كذلك. ومن ناحية أخرى، تمتلك لوس أنجلوس شريحة سكانية لاتينية أكبر بكثير من نيويورك – 48.4% بالمقارنة مع 27.5%. وبالإضافة إلى ذلك، نسبة السكان الذين لا يتحدثون سوى الإنجليزية في منازلهم تبلغ 52.2% في مدينة نيويورك، مقارنة مع 40.2% فقط في لوس أنجلوس.

إن الاختلاف الكبير في معدلات المشاركة في قسائم الطعام بين المدينتين فاضح أيضاً. وعلى الرغم من أن معدلات الفقر الرسمية هي نفسها، فإن 13.9% من سكان نيويورك يتلقون قسائم طعام، مقارنة مع 5.4% فقط من سكان لوس أنجلوس. وإن معدلات المشاركة المختلفة في هذا البرنامج تشير إلى أن البرنامج الذي يناسب مدينة نيويورك قد لا يكون له نفس التأثير في لوس أنجلوس بسبب التركيبة السكانية المختلفة.

ليس من المستغرب أن 11.2% فقط من قاطني لوس أنجلوس يستخدمون المواصلات العامة للذهاب إلى العمل، مقابل 54.6% من سكان نيويورك الذين يستخدمون المواصلات العامة للتنقل. حيث أن نظام النقل العام في مدينة نيويورك منتشر في كل مكان ويوفر وصولاً منخفض التكلفة إلى أماكن العمل في جميع أنحاء المدينة. ويمكن للمرء أن يستنتج من هذه البيانات أن الاستثمار لتحسين النقل العام في لوس أنجلوس قد يساعد في إخراج الناس من دائرة الفقر من خلال تسهيل حصولهم على وظائف والحفاظ عليها، بينما قد يكون لتدخل مماثل في مدينة نيويورك تأثير محدود على الأرجح.

باتجاه الحل

لمعالجة أوجه قصور خط الفقر، أعلنت إدارة أوباما في شهر مارس أنها ستبدأ في نشر “مقياس الفقر التكميلي” (SPM) الذي يشبه المقياس الذي استخدمه بلومبرغ ويستند إلى حد كبير على توصيات لجنة NAS. سيتم حساب مقياس SPM من خلال تحديد الإنفاق الاستهلاكي لأسرة متوسطة عند الشريحة المئوية رقم 33 من الدخل – وهي سوية أعلى بكثير من الحرمان الشديد، ولكنها أقل من متوسط الدخل الوطني. وبعد تحديد إنفاق هذه الأسرة على الحاجات الاستهلاكية الأساسية – مثل الطعام والمسكن والرعاية الطبية – ستقوم وزارة التجارة الأميركية بتحديد ما تحتاج إليه الأسرة لتستمر في العيش على مستوى الحاجات الأساسية. كما سيتم تعديل الخط الجديد إقليمياً وفق تكلفة السكن.

تستحق إدارة أوباما الثناء على محاولتها لتشكيل مقياس أفضل للفقر. لكن الخطة تشكو من عيبين أساسيين؛ أولاً، يفتقر مقياس SPM إلى الدقة. فوفقاً لما قالته بلانك، التي تقود جهود الإدارة، فإن المقياس التكميلي لن يحل محل خط الفقر الحالي عندما يتعلق الأمر بتحديد من هو المؤهل للاستفادة من برامج مكافحة الفقر أو تحديد كيفية تخصيص تمويل مكافحة الفقر. بدلاً عن ذلك، سيصبح الخط مؤشراً إضافياً للاقتصاد الكلي والذي سيوفر طريقة مختلفة لتقييم رفاهة الأسر منخفضة الدخل في أميركا.11

المشكلة الثانية هي أن التباين الإقليمي في خط الفقر يعتمد فقط على الاختلاف في تكلفة السكن، دون وضع اعتبار للاختلافات في التكاليف المهمة الأخرى. وتقول بلانك إن السبب وراء ذلك هو أن البيانات الجيدة الوحيدة التي نحصل عليها سنوياً على مستوى المدينة هي القيم التقريبية لتكاليف السكن المتأتية من استبيان المجتمعات المحلية في الولايات المتحدة الأميركية الذي يجريه مكتب التعداد الأميركي. ولكن لماذا لا نستغل هذه الفرصة لتحسين جمع البيانات وتوسيعها؟ لا يوجد سبب لعدم إمكانية توسيع استبيان المجتمعات المحلية في الولايات المتحدة الأميركية ليشمل نموذجاً للإنفاق الاستهلاكي. وهذا سيسمح بحساب خط فقر مخصص لكل منطقة حضرية مبني بشكل مباشر على احتياجات الإنفاق وأنماط وقدرات الأسر الحقيقية في ذلك المجتمع.

حان الوقت الآن لتطوير بيانات أفضل عن أسباب الفقر وعواقبه. ويجب أن يتم إنتاج مثل هذه البيانات مع الالتزام بثلاثة مبادئ: يجب أن تكون هذه البيانات محلية، وشمولية، ومتاحة. فالإحصاءات الوطنية حول كل شيء من الفقر إلى التحصيل العلمي متاحة بسهولة على أساس سنوي من قبل استبيان المجتمعات المحلية في الولايات المتحدة الأميركية. كما تتوفر إحصاءات على مستوى الولايات لمعظم المقاييس، لكنها في الغالب ليست على ذات القدر من الوفرة والتكرار والتفصيل مثل الإحصاءات الوطنية. لكننا نفتقر بشدة إلى الإحصاءات على المستوى المحلي. فيجب على الاستقصاءات الحكومية أن تقدم عينات ممثلة إحصائياً لجميع المناطق الحضرية الكبرى عندما يكون ذلك ممكناً، وبالنسبة للمؤشرات الأساسية والحيوية، يجب الحرص على التقاط عينة ممثلة من المدن والبلدات والمناطق الريفية الأصغر بشكل متناوب.

إن محددات بيانات الفقر وعواقبها يجب أن تكون أيضاً شمولية. ويوفر مكتب التعداد طريقة مناسبة للوصول إلى بياناته للمستخدمين الذين يرغبون في إنشاء جداول تشمل فرضاً بيانات التحصيل التعليمي حسب العرق والدخل. كما توفر مراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها مقاييس ممتازة لمعدلات الولادة حسب العمر. لكن من المستحيل نظرياً استخدام هذه البيانات لمعرفة معدلات الولادة لدى الأميركيات من أصل إفريقي (تصنيف حسب العرق)، في السنوات الأولى من العشرينيات (تصنيف حسب العمر)، والمتخرجات من الثانوية (التحصيل العلمي). ولهذا السبب تنفق الجامعات والمؤسسات ملايين الدولارات سنوياً لإجراء استقصاءات فردية تجمع بين المتغيرات الأربعة. فعلى الوكالات الحكومية أن تتعاون مع قادة المؤسسات غير الربحية والمؤسسات والخدمات الاجتماعية لضمان أن يكون جمع البيانات شاملاً.

أخيراً، يجب أن تكون البيانات المتعلقة بالفقر ومتغيراتها المختلفة متاحة الوصول بالنسبة إلى غير الخبراء. فالوكالات الفيدرالية تقوم بفرز البيانات لتناسب احتياجاتها وتجيب على الأسئلة المتعلقة بأبحاث سياساتها. حيث تنشر وزارة الزراعة الأميركية، على سبيل المثال، المعدلات الوطنية لانعدام الأمن الغذائي وفق مجموعة من العوامل بما فيها الدخل والعرق ونوع الأسرة. كما أنها تنشر معدلات انعدام الأمن الغذائي لكل ولاية على حدة. فماذا إذا كانت مؤسسة غير ربحية ما مهتمة بانعدام الأمن الغذائي وفق التصنيف العرقي في ولاية ألاباما؟ إن هذه البيانات موجودة ضمن ملف مليء بالبيانات الدقيقة التي يفترض أن تكون متاحة للعامة. إلا أن استخدام هذه البيانات يتطلب برمجيات باهظة الثمن ومعرفة تقنية معقدة ومهارات برمجية للتعامل معها.

يشير ديفيد دودج، الذي يعمل لصالح مؤسسة رايت تو ذا سيتي (Right to the City) في مدينة نيويورك، إلى أنه: “عندما نحتاج إلى بيانات محلية حقاً، علينا الاعتماد على مركز فورمان (the Furman Center) في جامعة نيويورك، الذي يقوم بالكثير من العمل لجمع المعلومات المحلية. لقد نشروا تقارير تحتوي على معلومات محددة حول الأحياء في مدينة نيويورك. ولكن لا ينبغي أن يكون جمع وتحليل هذه المعلومات من مسؤولية المؤسسات غير الربحية. فهذا يجب أن يكون دور الحكومة”. يجب على خبراء الإحصاء الحكوميين إتاحة البيانات ذات الصلة من خلال واجهة سهلة الاستخدام تسمح للمستخدم بتصميم وإنشاء جداول خاصة به، وأن تكون هذه البيانات مخصصة لأدنى مستوى جغرافي ممكن.

من المتوقع أن يعقد الكونغرس جلسات استماع بشأن خط الفقر في فصل الخريف القادم. وتوصيتنا للكونغرس وإدارة أوباما بسيطة للغاية: اجعلوا هذه الجلسة مفيدة. استخدموا أدوات إعادة تحديد خط الفقر كفرصة لتغيير طريقة جمع البيانات حول الأسر ذات الدخل المنخفض، وتحسين الطريقة التي تستخدم بها السياسات والبرامج خط الفقر في تحديد الأهلية وتخصيص التمويل. بدأ التغيير بالحدوث. وقد حان الوقت لنحرص على أن تحدث جهودنا تحسينات فعلية في حياة هؤلاء الذين يعانون ليتدبروا أمورهم.

إن قياس الفقر بدقة أمر واجب لا بد منه، لكنه ليس كافياً وحده. لذا علينا توسيع فهمنا للفقر. وعلينا أن نطلع على ما هو خلف هذا الخط.

ملاحظات

1 “مقياس الفقر: تقرير مرسل إلى الكونغرس الأميركي حسبما نصت تعديلات قوانين التعليم لعام 1974” (The Measure of Poverty: A Report to Congress as Mandated by the Education Amendments of 1974)، وزارة الصحة والتعليم والرفاهة الأميركية، 1976.

2 المحرران كونستانس إف. سيترو وروبرت تي. مايكل، “قياس الفقر: نهج جديد”، الأكاديمية الوطنية للعلوم (Measuring Poverty: A New Approach) (the National Academy of Sciences)، 1995.

3 ريبيكا إم. بلانك، “كيف نقيس الفقر” (How We Measure Poverty)، مجلة لوس أنجلوس تايمز (Los Angeles Times)، 15 سبتمبر/ أيلول، 2008.

4 بيان صحفي لمكتب العمدة، “عمدة مدينة نيويورك بلومبرغ يعلن عن بديل جديد لمقياس الفقر الفيدرالي”، 13 يوليو/تموز، 2008.

5 جيليان جوناس، “بلومبرغ والفقر: هل هي حرب أم مناوشات صغيرة؟” (Bloomberg on Poverty: A War or Small Skirmishes?) مجلة غوثام غازيت (Gotham Gazette)، 23 أكتوبر/تشرين الأول، 2009.

6 جايمس إي. فوستر، “الفقر المطلق ضد الفقر النسبي” (Absolute Versus Relative Poverty)، المجلة الاقتصادية الأميركية (American Economic Review)، 88 (2)، مايو/أيار 1988: 335-341.

7 أنغوس ديتون، “قياس الفقر” (Measuring Poverty)، في فهم الفقر (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، 2006): 3-15.

8 وكالة مكافحة الفقر، “الفقر في أيرلندا – الحقائق” من موجز الفقر رقم 13، 2000، متاح على الرابط http://www.cpa.ie/publications/povertybriefings/Briefing13_Poverty InIreland-2000Data_2002.pdf.

9دانكن غالي وسيرج بوجان، “الدقة الاجتماعية والتكامل الاجتماعي” (Social Precarity and Social Integration)، تقرير إلى المفوضية الأوروبية بناءً على استقصاء يوروباميتر (Eurobarometer) رقم 56.1، أكتوبر/تشرين الأول 2002.

10 تانيا برشاردت، جوليان لو غراند، ديفيد بياشاود، “درجات الإقصاء: تطوير مقياس ديناميكي متعدد الأبعاد” (Degrees of Exclusion: Developing a Dynamic, Multidimensional Measure)، عن فهم الإقصاء الاجتماعي (أكسفورد، المملكة المتحدة: مطبعة جامعة أكسفورد، 2002).

11 مقابلة على ناشيونال بابليك راديو (National Public Radio) مع ريبيكا بلانك، “وزارة التجارة ستقوم بمراجعة مقياس الفقر” (Commerce Department to Revise Poverty Measure)، 2 مارس/آذار، 2010.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.