تعج البرامج الوثائقية بحكايات الأطفال الباحثين بين أطلال منازلهم المتهالكة في سوريا عن فتات الخبز بين الحجارة، والتقاطها سعياً للحفاظ على حياتهم.
هذا الواقع يعيشه العديد من الفئات الأكثر احتياجاً في المنطقة العربية، فالجوع بات كالشبح الثائر الذي يأكل الأخضر واليابس، والأمر لم يعد يقتصر على من اتخذ قراراً ببيع ممتلكاته الشخصية، بل إنه يتعلق أيضاً بمن لا حيلة له ولم يتمكن من الحصول على المال أو الخبز، وأصبحت أجساد الأطفال النحيلة تتصدر مشهد الجوع المتفشي عربياً، فهم الضحايا الأكبر للأزمات.
وعلى الرغم من وضع الأمم المتحدة القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي والتغذية المُحسنة وتعزيز الزراعة المستدامة على قائمة أولوياتها، ليكون الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة؛ إلا أن الصورة باتت قاتمة خاصة في ظل النزاعات، والظواهر المناخية، والأوضاع الاقتصادية الصادمة، والأزمة الأوكرانية الروسية التي ألقت بظلالها على سلاسل الإمداد الدولية وتسببت في ارتفاع أسعار الحبوب والأسمدة والطاقة، حيث أظهر أحدث تقرير مشترك عن حالة الأمن الغذائي من منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، عن انتكاس الجهود العالمية للقضاء على الجوع.
تفاقم أزمة الجوع
بينما حافظت نسبة الجياع في العالم على ثباتها منذ عام 2015، بالتزامن مع الجهود العالمية المبذولة لإعادة توجيه الدعم الغذائي والزراعي، ارتفعت من جديد في عام 2020، وواصلت ارتفاعها في عام 2021 لتبلغ 9.8% من سكان العالم، وفقاً لتقرير الأمم المتحدة السابق ذكره، وهي زيادة تقدر بنحو 150 شخص إضافة إلى العدد الذي رُصد عام 2019، فيما عجز حوالي 3 مليارات شخص عن تحمل تكلفة توفير نمط غذائي صحي في عام 2020.
ولم يقتصر تاثير أزمة الجوع على زيادة عدد الجياع فحسب، بل إنها زعزعت المحاولات المستمرة لتعزيز مبدأ تكافؤ الفرص والحد من أوجه انعدام المساواة، إذ اتسعت الفجوة بين الجنسين على صعيد انعدام الأمن الغذائي في عام 2021، وعانت نسبة 31.9% من النساء من انعدام الأمن الغذائي مقارنة بنسبة 27.6% من الرجال.
بؤر جوع ساخنة في المنطقة العربية
قبل إطلاق تقرير الأمم المتحدة في يوليو/ تموز الحالي، أصدر كل من برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة تحذيراً في تقرير "نقاط الجوع الساخنة" (Hunger Hotspots) في مايو/ آذار 2022؛ بهدف اتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة في 20 بؤرة جوع ساخنة، منها 5 دول عربية هي سوريا والسودان واليمن والصومال ولبنان، في الوقت الذي قد يتعرض فيه 41 مليون شخص لخطر المجاعة حول العالم ما لم يتلقوا مساعدات فورية.
- صعوبة وصول المساعدات إلى سوريا
تواجه سوريا حالياً مخاطر الجوع التي بلغت مستويات تاريخية؛ بات الوضع مقلقاً بالنسبة لحوالي 12 مليون شخص بما يعادل أكثر من نصف تعداد السكان؛ بسبب العراقيل التي تحول دون وصول المساعدات الإنسانية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 24% منذ مارس/ آذار 2022، لتصل إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2013 فالوجبة الرئيسية لم تعد من الأساسيات بل تعتبر رفاهية لا يحصل عليها كل فرد؛ ما يهدد صحتهم العامة، حيث يعاني واحداً من كل ثمانية أطفال من التقزم، بينما ارتفعت مستويات الهزال الحاد بين العديد من الأمهات الحوامل والمرضعات.
- مجاعة محتملة في الصومال
أصبحت حياة ما يقرب من 50% من سكان الصومال مهددة بإمكانية حلول كارثة من انعدام الأمن الغذائي والمجاعة؛ بسبب انقطاع الأمطار للموسم الرابع على التوالي، وارتفاع الأسعار، وانخفاض معدلات الاستجابة لتمويل المساعدات الإنسانية بنسبة 60%.
- وفاة الأطفال في السودان
طالت الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السودان منذ عام 2019، الآلاف من مزارعي القمح ومنعتهم من بيعه، ثم جاء الصراع الروسي الأوكراني ليعمق جراحهم، حيث تشكل واردات الخرطوم من القمح سواء من روسيا أو أوكرانيا أكثر من 80% من احتياجات السودان، وفقاً لما أكده رئيس العمليات في مؤسسة "أنقذوا الأطفال" (Save the Children)، ديفيد رايت (David Wright)؛ لكن حالياً يتوقع أن يكفي إنتاج القمح المحلي ربع احتياجات السودان فقط للعام الحالي، في الوقت الذي بدأت الأزمة في التفاقم فعلياً؛ خاصة بعد وفاة طفلين من الجوع في دارفور خلال يونيو/ حزيران 2022.
- تضخم الأسعار في لبنان
يواصل لبنان التعرض للكثير من الأزمات المتلاحقة، خاصة بعد تداعيات جائحة "كوفيد-19"، ومن المرجح أن يستمر الانهيار الاقتصادي الذي تسبب في اتخاذ قرارات صعبة على السكان، سواء بالتخلص التدريجي من العناصر المدعومة مثل الغاز، أو فشل محاولات الوصول إلى الدعم المالي، إضافة إلى القيود المفروضة على سلاسل التوريد والوقود؛ ما أدى إلى نقص الغذاء ومعاناة أكثر من مليون لبناني بما يعادل 35.8% من مجموع السكان من انعدام الأمن الغذائي وزيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة صادمة بلغت 304% في سبتمبر/أيلول 2021.
- أسوأ أزمات الغذاء في اليمن
يشهد اليمن واحدة من أسوأ أزمات الغذاء في العالم، فمشهد الأطفال الهزيلة في كل أنحاء البلاد بات مألوفاً، في الوقت الذي لا يتمكن فيه الآباء من نقلهم إلى المنشآت العلاجية؛ لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف الانتقال، وفي مارس/ آذار 2022، رجّح تحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي عن اليمن، فشل حصول 19 مليون شخص على الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية، فيما يعاني أكثر من نصف مليون طفل رضيع من انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من مليوني طفل من سوء التغذية الحاد، علماً أن ما يقدّر بنحو 45 مليون طفل دون الخامسة من العمر يعانون من الهزال عالمياً؛ ما يزيد خطر وفاة الأطفال.
اتخاذ التدابير اللازمة
تُظهر الإحصائيات السابقة، مستقبل الأمن الغذائي بالنسبة للعديد من الدول العربية. ومع حدوث هذه الأزمة التي تعتبر أسوأ من الأوضاع الاقتصادية عام 2011 وأزمة الغذاء في 2008، وفقاً للمدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي (David Beasley)، فخطورة الوضع أعادتنا إلى نقطة البداية، عندما أُطلق هدف القضاء على الجوع عام 2015، وأصبح من المحتمل أن يعاني 670 مليون شخص من الجوع بحلول عام 2030، حتى إن تعافى العالم بفضل انتعاش اقتصادي. لذا، فإن الحذر وتقديم الدعم من واجبات الأفراد والمؤسسات، بينما يمكن للحكومات مضاعفة الجهود للحد من الحواجز التجارية أمام الأغذية.
- إعادة توجيه الدعم الغذائي: تتمثل إحدى وسائل دعم التعافي الاقتصادي في إعادة توجيه الدعم الغذائي والزراعي لتوفير أنماط غذائية صحية، وهو ما أكدته دراسة أميركية بعنوان "دعوة للعمل للتصدي لانعدام الأمن الغذائي العالمي الناجم عن كوفيد-19 للوقاية من الجوع" (A call to action to address COVID-19–induced global food insecurity to prevent hunger)، حيث أوضحت أن تهديد الجائحة للملايين من الأفراد والأطفال حول العالم، يحتم علينا الانتباه إلى سلوكيات الأمن الغذائي، واتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف إهدار الطعام، للحفاظ على مستقبل الفئات الأكثر احتياجاً.
- الزراعة العمودية: يمكن لهذا النمط من الزراعة توفير بيئة مُتحكم بها لزراعة المحاصيل في نظام مائي أو هوائي، وسبق أن تناولنا في مقال "كيف تضمن الزراعة العمودية مستقبل الأمن الغذائي؟" كيفية تلبية متطلبات النمو السكاني الغذائية عبر توفير طريقة بديلة لإنتاج الغذاء تستطيع التفوق على الزراعة التقليدية، سواء بالتغلب على المخاطر، أو توفير استهلاك المياه والأراضي الصالحة للزراعة.
- التبرعات: تساعد المؤسسات غير الربحية في وصول الدعم لمستحقيه، لذلك تتلقى منظمة الأمم المتحدة للطفولة التبرعات لإنقاذ الأطفال في أكثر من 190 دولة. وتستمر التبرعات كواحدة من أهم الطرق التي تضمن وصول الدعم، وبدأ العالم يستحدث طرقاً جديدة لتلبية احتياجات الفقراء، مثل التبرع بالعملات المشفرة، بينما تعكف المؤسسات الخيرية على معرفة دوافع المتبرعين لحثهم على الانخراط في عملية العطاء.
قد تبدو الأوضاع العالمية غير واعدة بالنسبة للدول التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي؛ لكن يظل الدور الحيوي الذي يؤديه العطاء محورياً في إمكانية بدء التغيير، أو تلبية حاجة أسرة لوجبة لائقة، أو إنقاذ طفل من براثن الموت جوعاً.