تحدد الظروف الثقافية والاقتصادية الاجتماعية شكل نظام استهلاك الغذاء في المجتمع. كيف يمكن للمجتمع المدني تحويل النظام الغذائي في الدول النامية التي تمكنت للتو من القضاء على المجاعات، أو لا تزال تكافحها؟
نظام الغذاء العالمي هو شبكة معقدة من الجهات الفاعلة والتفاعلات التي تبدأ بالإنتاج وتنتهي بالاستهلاك، وهو يجذب بدرجة متزايدة انتباه المؤسسات الخيرية وغير الربحية نظراً لاحتمالات تأثيره في موازنة التغيير المناخي وصحة كوكب الأرض وصحة البشر. وإلى جانب حقيقة أن النظام الغذائي الحالي مسؤول عن ثلث إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة، فهو همزة الوصل بين كل من التطوير الزراعي والاقتصادي، والصحة العامة، وسبل العيش في الأرياف، والمساواة الاجتماعية، ما يجعل إنشاء نظام غذائي مستدام بدرجة أكبر تحدياً ملحاً ومعقداً يواجه الجهات الفاعلة في مختلف القطاعات والدول.
بذلت الحكومات الدولية من شمال الأرض إلى جنوبها جهوداً هائلة بالتعاون مع المؤسسات الدولية أو الإقليمية والقطاع الخاص من أجل وضع جداول عمل تهدف إلى إنشاء نظام غذائي مستدام بدرجة أكبر، والسياسة هي أداة قوية إذ إنها تصل إلى الشعوب على نطاق واسع ولكنها تعجز غالباً عن الوصل بين مفهوم النظام الغذائي المجرد وحياة الأفراد اليومية، وبالتالي فهي عاجزة عن حثهم على تغيير عاداتهم في استهلاك الغذاء. في الحقيقة، تبقى فكرة "النظام الغذائي المستدام" غريبة عن معظم المستهلكين في الصين وغيرها الكثير من الدول النامية التي تمكنت للتو من إنهاء المجاعات المتفشية أو ما زالت تعمل على مكافحتها. وحتى بالنسبة لمن يدركون المشكلة، تمثل تسمية "تحويل النظام" بحد ذاتها تحديات كبيرة متصلة بالسياسة الطويلة الأمد أكثر من اتصالها بمخاوف الأفراد الحالية.
ولكن لا يمكن إنجاز هذا التحول من دون إحداث تغيير على مستوى الفرد. إذاً كيف سنغير التصور السائد عن استهلاك الغذاء لدى الشعوب وفهمهم له وبالتالي تغيير خياراتهم فيه؟ كيف يمكن للجهات الفاعلة من المجتمع المدني تعزيز دورها في تحفيز هذه التغييرات؟ توضح دراسة الحالة التي أجريناها في الصين الطرق الممكنة.
التحديات التي تواجه تغيير النظام الغذائي
استهلاك الغذاء هو سلوك تشكله مجموعة الشروط الثقافية والاقتصادية الاجتماعية التي يعيش المجتمع وفقها. في ثقافة المطبخ الصيني مثلاً، يرمز استهلاك الأغذية الحيوانية المصدر إلى النفوذ والمكانة إلى جانب أهميته باعتباره مصدراً للبروتين، وهذه الثقافة مستمرة على الرغم من التغييرات الجديدة التي يحفزها سكان المدن من الطبقة المتوسطة السريعة النمو بسعيهم لاتباع نظام غذائي صحي أكثر. والصين ليست وحدها في ذلك؛ فقد توصلت أبحاث أجريت في عام 2018 إلى أنه على مستوى العالم، ما زال الرابط بين استهلاك اللحوم وتصور الفرد للمكانة الاجتماعية الاقتصادية قوياً. تغيير سلوك الاستهلاك ليس من أولويات صناع السياسات أو الجهات الفاعلة في السوق، بيد أن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني تتمتع بأفضل موقع لترسيخ هذا التغيير عن طريق الحملات والبرامج التثقيفية، لكن المشكلة هي الطريقة التي يجب اتباعها.
تمثل الصين سياقاً فريداً ويمكن تعميمه على دول أخرى. أولاً، لا تتمتع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الصيني بنفس مستوى الحرية التي تتمتع بها الجهات الفاعلة في المجتمعات المدنية الغربية، لا سيما فيما يتعلق بتمويل الحملات وتنظيمها. وعلى الرغم من أننا لاحظنا زيادة في مشاركة المنظمات غير الحكومية والمواطنين في البناء الاجتماعي، فالجهات الفاعلة والناشطين في المجتمع المدني الصيني يخضعون للتدقيق الحكومي باستمرار، وهذا يعني أن الدروس التي نستمدها من الصين قابلة للتطبيق على الحالات التي تواجه فيها الجهات الفاعلة في المجتمعات المدنية قيوداً مماثلة على التمويل أو الاستقلالية.
ثانياً، تتشابه الصين مع دول أخرى من حيث تعقيد النظام الغذائي وانقسام المشهد. النظام الغذائي ضخم لأنه يمثل صلة الوصل بين كثير من القطاعات والمشكلات الاجتماعية المتشابكة مثل تنمية الأرياف والتطوير الزراعي، والفقر والمجاعات، والصحة والتغذية، والتغيير المناخي ورعاية الحيوانات والتنوع البيولوجي وما إلى ذلك؛ وبالتالي فكل جهة فاعلة في المشهد تملك فهماً وأولويات خاصة بها فيما يتعلق بتحويل النظام الغذائي، ولربما كانت قيمها تناقض قيم الجهات الأخرى. خذ مثلاً مجموعات الزراعة التي يدعمها المجتمع (Community Supported Agriculture - CSA) والمجموعات النباتية الصحية، فهي تعدّ جهات فاعلة مهمة في النظام إذ تناصر المنتجات الزراعية الصديقة للبيئة، ولكنها تختلف فيما بينها بدرجة كبيرة فيما يتعلق باستهلاك منتجات اللحوم. كما يظهر الانقسام في فهم النظام الغذائي ومسؤولياته لأن غالبية الحكومات لم تنشئ وزارات خاصة بالنظام الغذائي بعد، في حين تضمّ غالباً وزارات للزراعة أو البيئة أو الاقتصاد لها حدود واضحة، وبالتالي يكون اتخاذ إجراءات جماعية بأهداف مشتركة صعباً.
لا تزال عملية تحويل النظام الغذائي الصيني إلى نظام مستدام في بداياتها، وعلى الرغم من أن المستهلكين الصينيين معتادون فعلاً على مفهوم الغذاء الأخضر الذي يراعي البيئة المتمثل في منتجات مرخصة على اعتبارها جزءاً من برنامج وطني مخصص لمعالجة مشكلات الأمن الغذائي، فرحلة تحويل النظام الغذائي الطويلة ما زالت في أولها؛ وهي لا تقتصر على توضيح معلومات الأغذية على الملصقات أو اختيار المنتجات العضوية أو الخضراء التي تراعي البيئة فحسب، بل تتطلب تغيير المفاهيم والسلوكيات بدءاً من سلسلة التوريد وصولاً إلى جانب الطلب. لذلك نؤمن بأن الحالات التي أجريت عليها الدراسة في الصين ستكون مفيدة للجهات الفاعلة من المجتمع المدني في الدول الأخرى التي بدأت لتوها عملية التغيير ذاتها أو توشك على البدء.
الطرق المبتكرة للمضي قدماً
- صندوق الغذاء الجيد (Good Food Fund)
الغذاء ليس مجرد مواد تحافظ على أجسامنا، فهو ينطوي على عدة جوانب يمكن أن يُستخدم كل منها لإنشاء رابط مع أحد الأطراف المعنية المختلفة عن طريق رواية القصص المبتكرة. خذ مثلاً صندوق الغذاء الجيد (Good Food Fund) (وهو صندوق خاص تابع لمؤسسة الحفاظ على التنوع البيولوجي والتنمية الخضراء في الصين، التي سميت فيما بعد بصندوق الغذاء الجيد - GFF) الذي اتبع هذه الطريقة للتشارك مع حكومة مدينة نانجينغ الصينية من أجل زيادة الوعي العام بنظام الغذاء المستدام.
تم تأسيس صندوق الغذاء الجيد في عام 2017، وهو يهدف إلى تعزيز عملية تحويل النظام الغذائي في الصين عن طريق الأبحاث وابتكار السياسات والفعاليات والتثقيف العام واحتضان ريادة الأعمال، وهو يؤمن بأن تعزيز حوكمة الغذاء المتكامل على مستوى المدينة سيجعل نظام الغذاء في المدن الصينية صحياً وإنسانياً أكثر. وبالتالي يمكن أن تؤدي هذه التغيرات المحلية إلى ابتكارات في السياسة الأشمل وتغيير أنظمة الغذاء في البلاد.
في عام 2021، حظي صندوق الغذاء الجيد بفرصة لتنظيم جلسة منتدى مدينة نانجينغ للسلام الذي كان في أساسه فعالية لإحياء ذكرى الحرب بين الصين واليابان. ما علاقة الغذاء بالسلام؟ نظّم صندوق الغذاء الجيد اجتماع طاولة مستديرة تحت عنوان "التعايش السلمي مع الطبيعة" بهدف مناقشة مساهمة جيل الشباب في إنتاج الغذاء المستدام واستهلاكه.
قال مؤسس صندوق الغذاء الجيد، جيان يي: "طالما كان للغذاء دور حيوي في الحفاظ على مجتمع مستقر ينعم بالسلام، ومن السهل رؤية الأمثلة المعاكسة في المجاعات أو الاضطرابات الاجتماعية أو الحروب. للغذاء أوجه متعددة تدل على الكثير من المعاني، ونحن لم نضف شيئاً جديداً، بل حللنا المعاني التي تسهم في توضيح أوجه الغذاء المختلفة ليفهمها الناس على اختلاف شرائحهم".
- غول بلو (GoalBlue)
هي مؤسسة صينية غير حكومية أُسست في عام 2016 تدعو إلى الاستهلاك المسؤول والمنخفض الكربون الذي يهدف إلى تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة وحماية المحيط. يحمل أحد المشاريع الرائعة للمنظمة عنوان "الأكل الذكي" (Smart Eating) وهو يشجع المستهلكين على الانتقال إلى نظام غذائي منخفض الكربون بتقليل استهلاك اللحوم الحمراء وزيادة تناول الأسماك من مصادر مستدامة. ليس من السهل على الصينيين تقليل استهلاك اللحوم لأن ثقافة مطبخهم تفضل اللحوم عموماً على الخضار.
تتمثل إحدى استراتيجيات مؤسسة غول بلو في تشكيل نظام غذائي منخفض الكربون ودمجه في نمط حياة جديد عن طريق عدد من الأنشطة المدنية المتنوعة. في عام 2020، تشاركت المنظمة مع كلية ميدي للموسيقى في مدينة بكين (Beijing Midi Music School) واستفادت من مهرجان ميدي الموسيقي السنوي الذي يعد واحداً من أهم المهرجانات الموسيقية المؤثرة في الصين وجعلته مركزاً لإحداث التغيير، فوضعت في مقره لافتات تحمل عبارة "يمكن أن نستمتع من دون تناول اللحم أيضاً" (رداً على المقولة الصينية "لا متعة من دون تناول اللحم")، ونشرت مقاطع فيديو حول الأنظمة الغذائية المنخفضة الكربون، وأقامت أكشاكاً لتقديم المشروبات والأطعمة النباتية، ووظفت متطوعين لتوزيع نشرات إعلانية والإجابة عن أسئلة الناس حول خيارات الطعام. وبدلاً من أن تنشر منظمة غول بلو المعلومات في موقعها الإلكتروني وصفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي، دمجت حملتها على نحو ابتكاري في الفعالية الشريكة التي يحضرها جمهور أكثر تنوعاً بكثير. وبذلك تمكنت من التغلب على القيود التي تواجهها المنظمات الصينية غير الحكومية عادة، إلى جانب أنها عن طريق وضع الغذاء ضمن سياق فني غير معتاد تمكنت من جعل الغذاء جانباً ملموساً من نمط حياة مستدام وقابل للتكييف واتبعت طريقة جديدة لربطه بالمستهلكين.
- شيرد هارفست (Shared Harvest)
تأتي رواية القصص المبتكرة من سلسلة التوريد أيضاً، فالمشقة الكبيرة في أعمال الزراعة ودخلها المتدني ومكانتها الاجتماعية المهمشة نسبياً أدت إلى جعلها واحدة من أقل الأعمال جاذبية في الصين الحديثة، وثمة مقولة صينية تقول ما معناه "القفز من فوق بوابة الفلاحين" تعبر عن الأمل المشترك بين ملايين الفلاحين بأن يغادر أولادهم القرى ويغيروا أقدارهم. ولكن تحول النظام الغذائي لا يتحقق من تلقاء نفسه، بل يستدعي من الناس على جانب العرض العمل بفاعلية في الزراعة المستدامة التي تراعي الاعتبارات المناخية من أجل توفير الطعام الصحي للسكان الذين تتزايد أعدادهم يوماً بعد يوم. إذاً فالسؤال هو: كيف نغير التصور السائد ونجعل الزراعة أكثر جاذبية لا سيما بالنسبة لأصحاب المواهب من جيل الشباب؟
شيرد هارفست هي مؤسسة اجتماعية تتبنى نماذج الزراعة التي تراعي البيئة والزراعة التي يدعمها المجتمع، أسستها شي يان الحاصلة على شهادة الدكتوراة من جامعة رينمين الصينية، وهي تسعى لتقديم منتجات زراعية مستدامة وتدريب "مزارعين جدد" وفق خطة تمثل وفق رؤية شي يان مساراً مهنياً واعداً وحياة تحفظ الكرامة في المناطق الريفية وقطاعاً يضم المزيد من الشباب. يتم تجنيد المتدربين في معسكر تدريب المزارعين الجدد بصورة سنوية، وهم غالباً من خريجي الكليات الذين يرغبون في العودة إلى مواطنهم وإحداث تغيير فيها. يجمع البرنامج بين زيارة المزارع المراعية للبيئة والمؤسسات التعاونية، وتعلّم ممارسات الزراعة الجديدة وأوجه إدارة المزارع المتنوعة (مثل التسويق ووضع نموذج العمل)، والنقاشات مع الخبراء في اجتماعات الطاولة المستديرة، وما إلى ذلك. والأهم هو أنها تمثل صورة جديدة عن المزارعين بوصفهم أشخاصاً يجنون رزقهم ويسهمون في تحقيق رسالة هادفة تتمثل في إحياء الرابط بين البشر والأرض. حتى اليوم درّبت مؤسسة شيرد هارفست مئات المزارعين الجدد وتشاركت مع بعضهم بعد أن أسسوا مزارعهم الخاصة.
بداية الطريق لزيادة الوعي
تعمل مبادرات منتدى مدينة نانجينغ للسلام ومهرجان ميدي الموسيقي ومعسكر تدريب المزارعين الجدد على إعادة تشكيل فهم الناس للغذاء بصورة إبداعية، ويتمثل العامل المشترك بينها في تفكيك النظام واتخاذ خطوات صغيرة وإنشاء مساحة للابتكار من أجل إعادة بناء الروابط بين الغذاء والأطراف المعنية على اختلافها، لكن هذا التغيير على مستوى النظام يستغرق وقتاً طويلاً دوماً ويحتاج إلى العمل الجماعي.
في شهر مايو/أيار من عام 2022، طرح أكبر اتحاد في قطاع تجارة التجزئة في الصين، الجمعية الصينية للامتيازات وسلاسل المتاجر التي تمثل أكثر من 1,200 علامة تجارية، دليلاً إرشادياً لشركات تجارة التجزئة ومنصات التجارة الإلكترونية لتحديد المقاييس والعمل بفاعلية لتعزيز اتباع المستهلكين نظاماً غذائياً صحياً ومراعياً للبيئة بدرجة أكبر. ولم يكن ذلك سيتحقق من دون زيادة وعي المستهلكين والمطالبة بزيادة إنتاج الغذاء المستدام، وهذه المناصرة التي تقدمها التجمعات الصناعية هي إشارة إيجابية على إحراز تقدم باتجاه التغيير الجذري، ولو كان تدريجياً.
لكل تحدٍّ يواجه عملية تحويل النظام الغذائي في الصين سياق فريد، ومع ذلك تتمتع هذه التجارب التي سعت لتفكيك التعقيد المنهجي والتوصل إلى طرق للربط بين المستهلكين والمجتمعات والحكومات بقيمة كبيرة. وفي بعض الأحيان لا تنال المشكلات الجديدة، مثل تحويل النظام الغذائي، اهتماماً كافياً لا سيما مع المشكلات القائمة الأكثر إلحاحاً في العالم، كالجائحة أو الكوارث الطبيعية. ولكن فيما يتعلق بتغيير النظام يمكننا دائماً البدء بخطوات صغيرة واتباع أساليب غير تقليدية.
هذا المقال مقتبس من بحث أجري لصالح مشروع دراسة مراقبة النظام الغذائي الصحي والمستدام في الصين (China Healthy and Sustainable Diet Scoping Study) الذي أطلقه "ائتلاف الغذاء واستخدام الأراضي" (The Food and Land Use Coalition) وسينشر في عام 2022.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.