السعودية ما بعد النفط: تحويل مشاريع الطاقة إلى أثر ملموس ومستدام

5 دقيقة
الطاقة المتجددة في السعودية
shutterstock.com/Lerbank-bbk22

ارتبط اقتصاد المملكة العربية السعودية بالنفط منذ عام 1939، لكنها أدركت أنها تواجه تحدياً حقيقياً بسبب هشاشة الاعتماد الأحادي على النفط وتراجع الطلب العالمي المتوقع قبل 2030. وأدت الضغوط المناخية والتحولات التكنولوجية إلى جعل التحول للطاقة المتجددة خياراً استراتيجياً ضمن…

منذ انطلاق أول شحنة نفط من رأس تنورة عام 1939، ارتبط تاريخ المملكة العربية السعودية بالنفط ارتباطاً وثيقاً. لكن الاعتماد على هذا المورد أصبح اليوم تحدياً وجودياً؛ فالنفط الذي شكل لعقود عماد الاقتصاد السعودي، لم يعد كافياً لضمان مستقبل مستدام في ظل التحولات العالمية. وقد أبرزت الأزمات المتكررة، مثل انهيار الأسعار وتراجعها عن مستويات 2014، وجائحة كوفيد-19 التي تراجع فيها الطلب النفطي بنسبة 20%، هشاشة الاعتماد الأحادي. وبحسب وكالة الطاقة الدولية، سيبلغ الطلب العالمي على النفط ذروته قبل عام 2030 ثم يبدأ بالتراجع تدريجياً.

بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية، فرضت الالتزامات المناخية، مثل اتفاقية باريس 2015، ضغوطاً على جميع الدول للانتقال إلى مصادر أنظف. وفي هذا السياق، تبرز المملكة العربية السعودية بوصفها حالة خاصة؛ فهي تمتلك إمكانات طبيعية هائلة تتمثل في إشعاع شمسي بين 2,200-2,400 كيلوواط/ ساعة/متر مربع سنوياً، ورياح قوية في الشمال والبحر الأحمر. كما دفع التقدم التقني المتسارع في مجالات السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية الرخيصة، المملكة العربية السعودية إلى إعادة صياغة مزيجها الطاقي ضمن إطار رؤية 2030.

لماذا الآن؟

يتحرك النظام الطاقي العالمي بسرعة نحو كهرباء أنظف وأرخص، إذ تشير تقديرات دولية حديثة إلى أن الطلب على الوقود الأحفوري قد يبلغ ذروته قبل 2030 (مع اختلاف مشروع حول سرعة الهبوط بعد الذروة)، بينما تواصل تكلفة الطاقة المتجددة تراجعها وتتسارع موجة الانتقال إلى المركبات الكهربائية. بالنسبة للمملكة العربية السعودية، هذا ليس نقاشاً نظرياً، فقد كشفت صدمات 2014 و2020 هشاشة الاعتماد الأحادي على النفط، وأصبح الاستباق وليس اللحاق الخيار الأقل كلفة على المدى الطويل.

ويمكن تلخيص دوافع التحول الطاقي في المملكة العربية السعودية فيما يلي:

  • قابلية التعرض للصدمات: في ذروة الجائحة انخفض الطلب العالمي على النفط بصورة تاريخية، ما انعكس سلباً على الاقتصاد، إذ تراجع الناتج الإجمالي المحلي للمملكة بنحو 5%.
  • تغيير تفضيلات رأس المال: التزامات المناخ تعيد توجيه التمويل نحو مصادر منخفضة الكربون لعقود قادمة.
  • ميزة غير مستغلة بالكامل: تمتلك المملكة العربية السعودية أحد أعلى مستويات الإشعاع الشمسي عالمياً وممرات رياح واعدة على البحر الأحمر والشمال، ما يمثل مصدر طاقة مجانياً لعقود إذا أحسن استغلاله.

من الإعلان إلى التنفيذ: مشاريع مبتكرة لتحول طاقي فعال

بدأت رحلة التحول، وانتقلت المملكة العربية السعودية من مرحلة الإعلان عن المشاريع الواعدة إلى التنفيذ، وأبرز هذه المشاريع، مشروع سكاكا للطاقة الشمسية بطاقة 300 ميغاواط يزود 45 ألف منزل، ويخفض 500 ألف طن من الانبعاثات سنوياً، ومشروع سدير للطاقة الشمسية بطاقة 1,500 ميغاواط يغذي 185 ألف منزل، ويقلل نحو 2.9 مليون طن من الانبعاثات. أما مشروع دومة الجندل لطاقة الرياح بطاقة 400 ميغاواط، فيعد الأكبر في المنطقة ويوفر الكهرباء لـ 70 ألف منزل. ويهدف مشروع نيوم للهيدروجين الأخضر بقيمة 8.4 مليارات دولار إلى إنتاج 600 طن متري يومياً بحلول 2026، ما يجعله من أكبر مشاريع الهيدروجين عالمياً. كما يجري العمل على مشاريع تخزين الطاقة بالبطاريات لزيادة مرونة الشبكة واستيعاب حصة أكبر من الطاقة المتجددة.

تأتي هذه المشاريع في ظل مساعي المملكة العربية السعودية للوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2060، وخفض 278 مليون طن من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون سنوياً بحلول عام 2030، لكن عدم وجود إطار عمل متطور لسياسة الطاقة لتوجيه التحول في مجال الطاقة المستدامة، قد يعرقل تحقيق ذلك، إذ توصلت دراسة سعودية حديثة بعنوان: "التحول إلى الطاقة الخضراء المستدامة في المملكة العربية السعودية" إلى أن تعزيز التحول نحو الطاقة الخضراء، يتطلب تركيز سياسة الطاقة على مجالات مثل استراتيجيات التعاون الإقليمي والمتعدد القطاعات، واعتماد النماذج الدولية، وتنمية رأس المال البشري والمشاركة العامة، والابتكار التكنولوجي، والبحث العلمي، والحفاظ على الموارد، وحماية البيئة.

أهمية الاستفادة من التجارب العالمية الناجحة

تبرز التجارب الدولية أن النجاح في التحول الطاقي لا يتحقق بمجرد خفض الأسعار، بل باستقرار السياسات والتخطيط الطويل الأمد. وتعد ألمانيا مثالاً بارزاً؛ فقد نجحت في توليد أكثر من 40% من الكهرباء من مصادر متجددة بفضل تشريعات ثابتة، دعم مالي، وتطوير شبكات حديثة. بحلول 2023 تجاوزت المصادر المتجددة نصف إنتاج الكهرباء، واستمر التحسن في 2024، بفضل الاستقرار القانوني وتكامل الشبكة وليس الدعم المالي فقط.

أما الصين، فقد استثمرت أكثر من 100 مليار دولار في الطاقات النظيفة، وأصبحت أكبر منتج عالمي للألواح الشمسية والبطاريات، بفضل سياسات تصنيع محلية وسلاسل توريد محكمة.

تبرز هذه التجارب نتائج مهمة يمكن للمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى تطبيقها والاستفادة منها:

  • ضرورة استقرار القوانين والمعايير لتشجيع المستثمرين على الالتزام الطويل الأمد.
  • أهمية بناء سلاسل توريد محلية قادرة على تعزيز الاكتفاء الذاتي وخفض التكاليف.
  • تحديث شبكات الكهرباء لاستيعاب مصادر متجددة شرط أساسي لاستدامة النمو.
  • وضع أهداف مرحلية (5-10 سنوات) مع متابعة مؤشرات الأداء يعزز الثقة والشفافية.
  • تشجيع الشراكات بين القطاع الخاص والجامعات لتطوير تقنيات تناسب البيئة المحلية.
  • ضمان بيئة تنافسية عادلة لخفض التكاليف وتحسين الجودة.
  • تنويع مصادر التمويل من خلال استخدام الصناديق السيادية وأدوات التمويل الأخضر (السندات الخضراء، الشراكات الدولية).

آليات قياس النجاح ومؤشرات الأثر

لا يكفي الإعلان عن مشاريع الطاقة، بل يجب قياس نتائجها بمؤشرات دقيقة، ومن أهم هذه المؤشرات:

  • الالتزام الزمني؛ أي أن تدخل المشاريع الخدمة خلال 24 شهراً من إغلاقها المالي.
  • الوظائف النوعية، عبر رصد وظائف التشغيل والصيانة لكل 100 ميغاواط ومستوى استبقاء الموظفين بعد سنتين.
  • خفض الانبعاثات، بحساب كمية الكربون المخفضة مقارنة بخط الأساس مع إعلان المنهجية بشفافية.
  • تعويض الوقود السائل في محطات التوليد؛ أي حساب عدد البراميل التي يجري توفيرها سنوياً بفضل دخول الطاقة المتجددة والغاز.

تتيح هذه المؤشرات للجهة المسؤولة والشركات المنفذة متابعة مدى نجاح المشاريع على أرض الواقع؛ لأن ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته وتطويره، والشفافية في إعلان النتائج تبني ثقة المستثمرين والمجتمع.

5 نصائح لضمان نجاح التحول الطاقي

في إطار جهود تعزيز الاستدامة والاستفادة المثلى من الموارد الطبيعية، تتطلب مشاريع التحول الطاقي، من لحظة الإعلان إلى بدء التنفيذ، استيفاء معايير الدقة والشفافية، وفيما يلي بعض النصائح التي يجب مراعاتها لضمان نجاح هذا التحول:

  1. إطار تعاقدي مطمئن: توقيع عقود طويلة الأجل لشراء الطاقة، وتمويل مشاريع توليد الكهرباء من مصادر متجددة، بما يتيح للشركات شراء الطاقة بسعر محدد مسبقاً والتحوط من التضخم وتقلبات الصرف.
  2. توطين انتقائي لسلاسل التوريد: تحفيز تصنيع مكونات ذات أثر عال مثل الألواح الشمسية والبطاريات، مع ربط المحتوى المحلي بالإنتاج الفعلي.
  3. رأس مال بشري متخصص: من خلال مسارات تدريب 12-18 شهراً لفنيي التشغيل والصيانة والتحكم، وربط الشهادات بمؤشرات توظيف ضمن عقود الدولة.
  4. شبكة مرنة تقودها البيانات: تعميم العدادات الذكية، وتسعير مرن للذروة، ومشروعات تخزين الطاقة في بطاريات مستقلة ومقترنة بمحطات الشمس والرياح.

تقف المملكة العربية السعودية عند نقطة تحول تاريخية، حيث كان النفط رمزاً للقرن العشرين، لكنه لم يعد وحده كافياً، وترسي المشاريع المعلنة من سكاكا إلى نيوم الأساس لهذا التحول، لكن التحدي الأكبر يكمن في التنفيذ والتوطين والشفافية. وتقدم التجارب العالمية دروساً مهمة، فالمملكة العربية السعودية تمتلك الموارد والقدرة السياسية لتكون مركز الطاقة الجديد للعالم، لكن شرط أن تجعل من التحول الطاقي أولوية استراتيجية عملية.

كتب القرن العشرين بالنفط، أما القرن الحادي والعشرين فيقاس بالكيلوواط/ساعة والهيدروجين والتخزين. وتمتلك المملكة العربية السعودية الموارد والسيولة وحجم السوق، ولكي تكتمل القصة، لا بد من انضباط التنفيذ وشفافية القياس، وعندها تتحول قصة "ما بعد النفط" إلى قصة اقتصاد طاقي متنوع يقود المنطقة.

 

           

المحتوى محمي