لماذا يحتاج المصابون بالتوحد إلى معلمين ذوي مهارات استثنائية؟

المصابون بالتوحد
shutterstock.com/esthermm
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

“نمتلك كمصابين بالتوحد فرصاً متعددة للنجاح في هذا العالم، ولكن يبدأ الطريق حينما نجد الأشخاص الذين يساعدوننا على الوصول إلى أحلامنا واكتشاف نقاط قوتنا”. هذه المقولة للمعالج النفسي بيل وونغ، الذي شُخص بالتوحد منذ صغره، تشير إلى أهمية البيئة الداعمة للأطفال المصابين بالتوحد، وعلى رأسهم المعلم الذي لا بد أن يتحلى بمهارات إضافية ليتمكن من وضع هؤلاء الأطفال الاستثنائيين على المسار الصحيح للنجاح والرضا عن الذات.

طيف التوحد هبة استثنائية

يُعرَّف اضطراب طيف التوحد (ASD) ببساطة على أنه مجموعة من الاعتلالات المتنوعة التي يغلب عليها ضعف السلوك الاجتماعي والتواصل. ويصاب به نحو 1 من كل 160 شخصاً، وتقدر “منظمة الصحة العالمية” أن النسبة أعلى من ذلك خاصة مع زيادة قدرة الأطباء على التعرف على أعراض التوحد. ويعاني المصابون بالتوحد في الغالب أعراضاً نفسية متكررة مثل القلق والاكتئاب والصرع واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة. وكذلك قد تظهر على المصاب بالتوحد أعراض ذهنية متفاوتة بين الاختلال الشديد والمهارات المعرفية العليا.

وتُعرف الاضطرابات بـ”طيف” لتفاوتها وتفاوت أعراضها من شخص لآخر. يقول ستيفن شور، أحد أساتذة مرض التوحد، الذي شُخص نفسه بالمرض في مرحلة مبكرة من عمره: “إذا قابلت شخصاً مصاباً بالتوحد، فأنت عرفت شخصاً مصاباً بالتوحد”. فأعراض التوحد عند هذا الشخص قد تختلف تماماً عما هي عليه عند شخص آخر وكأنه مرض آخر. لدى الشخص المصاب بالتوحد نقاط قوة وقدرات فريدة تجعله شخصاً استثنائياً بدليل وجود الكثير من مصابي التوحد على قائمة مشاهير العالم مثل الممثل الشهير أنتوني هوبكنز الحائز على جائزة “الأوسكار”، وقد تم تشخيصه بالتوحد في مرحلة متأخرة من عمره، وتضمنت الأعراض لديه هوس التفكير وصعوبة الحفاظ على الصداقات والنظر إلى الأشخاص من منظور فريد، وأغنى رجال العالم رائد الأعمال إيلون ماسك الذي كشف عن تشخيصه بـ” متلازمة أسبرجر” (Asperger syndrome)، التي تندرج تحت اضطراب طيف التوحد، في البرنامج الكوميدي الشهير “ساترداي نايت لايف” (SNL)، وأعلن عنها أيضاً بطريقة كوميدية مفاجئة حينما قال: “إنني أصنع التاريخ الليلة كأول شخص مصاب بأسبرجر يقدم البرنامج“.

إضافة إلى القدرات الاستثنائية التي يمتلكها الأشخاص المصابون باضطرابات طيف التوحد، فإنهم أيضاً قد يحولون أعراض المرض لديهم إلى قوة أيضاً. فعلى سبيل المثال، في حين يمتلك أغلبية الأشخاص غير المصابين بالتوحد مجموعة من الاهتمامات ويمكنهم بسهولة تبديل التركيز من نشاط إلى آخر بشكل سلس، قد يكون لدى الأشخاص المصابين بالتوحد نطاقاً محدوداً من الاهتمامات، غير أن هذه الخاصية قد تسهم في النجاح الذي يختبره العديد من الأشخاص المصابين بالتوحد في الحياة من خلال القدرة على التركيز والحفاظ على اهتمام أساسي واحد لسنوات أو حتى لمعظم حياة الفرد ما يمكنهم من صنع نجاح عظيم.

مهارات يتعين أن يمتلكها كل معلم لطلاب التوحد

كل ما ذُكر بالأعلى بشأن اكتشاف نقاط القوة هذه لدى طلاب يعانون مشكلات في التواصل الاجتماعي تصاحبها أعراض نفسية وذهنية أخرى، يتطلب قدرات ومهارات خاصة تتجاوز نطاق معظم المعلمين العاديين وهو ما يجعل المعلم الخاص بطلاب التوحد في مهمة استثنائية للمشاركة في استخراج القوى الكامنة من طلاب ذوي قدرات استثنائية.

ولا توجد برامج جامعية أو دراسات عليا لتدريب معلمي اضطراب طيف التوحد في دول كثيرة، لذا يُجبر معلمو التربية الخاصة المدربون على الإعاقات الذهنية على العمل مع الأطفال المصابين بالتوحد في الكثير من الأحيان. لكن، كما ذكرنا سابقاً، يختلف التوحد عن غيره من الأمراض الذهنية، يل يختلف المصابون بالتوحد بعضهم عن بعض، لذا يقع على عاتق المنظومة التعليمية عموماً والمعلم خصوصاً التزود ببعض من المهارات الأساسية التي يتم تجاهلها في كثير من الأحيان:

1- الإلمام بعمل الأدوية النفسية واستخداماتها وآثارها النفسية

يعاني أكثر من 75% من البالغين المتوحدين اضطراباً نفسياً مستمراً واحداً على الأقل مثل اضطرابات القلق والاكتئاب والوسواس القهري. لذلك، تخضع نسبة كبيرة من الطلبة المصابين بالتوحد إلى الأدوية النفسية، التي يترتب عليها أثار جانبية مختلفة تتعلق بسلوك الطالب وحالته الصحية مثل تعذر الجلوس وفرط الحركة وزيادة الاندفاعية والغثيان والصداع وتصلب المفاصل وزيادة الوزن والخمول، وفي بعض الأوقات أمراض مثل مرض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية. ويصل الأمر في الكثير من الأوقات إلى الميل لإيذاء الذات، فتشير دراسة فرنسية إلى أن سلوك إيذاء الذات منتشر بنسبة 50% بين الأفراد المتوحدين.

معلمو التربية الخاصة يقفون على خطوط المواجهة الأولى لهؤلاء الطلاب، لذا يتعين عليهم الإلمام بتدخلات الأدوية وآثارها الجانبية، لأن فهمهم طبيعة اضطرابات التوحد وأنماطها وأعراضها وطبيعة تداخل أدويتها سيمكنهم من إحراز تقدم مع أولئك الطلبة، غير أن الأمر لا يلبث أن ينطوي على تحديات صعبة بسبب عدم تجانس اضطرابات التوحد.

 لذا، هدفت دراسة سعودية بعنوان “مدى معرفة معلمي التربية الخاصة بالأدوية النفسية الموصوفة للطلاب ذوي اضطراب التوحد والآثار الجانبية المترتبة عليها” إلى قياس إلمام المعلمين بهذه المعارف. واستطلعت الدراسة التي أجريت على 89 معلماً ومعلمة من معلمي الطلاب المتوحدين معرفة هؤلاء المعلمين على ثلاثة مستويات، الأول هو المعرفة العامة بالأدوية النفسية، والثاني معرفة الآثار الجانبية لهذه الأدوية، في حين كان الأخير يقيس معرفتهم بعلاج الطلاب المتوحدين بالأدوية النفسية.

 وجدت الدراسة أن المعلمين المشاركين سجلوا مستويات عالية من المعرفة العامة بالأدوية النفسية، بينما سجلوا مستويات منخفضة في معرفتهم بالآثار الجانبية للأدوية، وعلاج المتوحدين بالأدوية النفسية، لأنهم يشخصون الكثير من الأعراض الجانبية لهذه الأدوية على أنها أعراض مرافقة للتوحد، وفقاً للدراسة. لذا، تقترح الدراسة عقد دورات تدريبية لمعلمي الطلبة المتوحدين وتعزيز معرفتهم بالأساليب العلاجية ولاسيما الدوائية منها.

2- تفهّم مجالات الإبداع لدى مصابي التوحد

يظن الكثير من المعلمين أن طلاب التوحد بارعون في المجالات التي تتعلق بحفظ الحقائق أو التعامل مع الأرقام فقط، ما يقودهم إلى إبعاد العديد منهم عن المجالات الأخرى مثل الفن والموسيقى والمجالات المتعلقة بالإبداع بشكل عام وحرمانهم من فرص النجاح. إذ نفت دراسة بريطانية حول “مفارقة الإبداع في التوحد” هذا الإدعاء، إذ اشتملت على تحليل بيانات من 312 شخصاً شاركوا في سلسلة من الاختبارات حول الإبداع، وكشفت أن الأشخاص المصابين بالتوحد عرضوا ردوداً أقل على المشكلات المعروضة، لكن حلولهم كانت أكثر إبداعاً من غير المصابين بالتوحد. وأشار الباحثون إلى أن نتائج هذه الدراسة تفسر سبب وجود بعض أشهر المصابين بالتوحد في مجالات إبداعية كالتمثيل، إضافة إلى الابتكارات التي خرجت من وادي السيليكون فكانت على يد مصابين بالتوحد.

3- الفضول العلمي تجاه آخر التطورات

من المهم البقاء على اطلاع على التشخيصات والاضطرابات التي يعانيها الطلاب. فلا يكفي أن يكون لدى المعلم خبرة ومعرفة باضطرابات طيف التوحد بشكل عام، إذ تستمر الأبحاث والبيانات المتعلقة بالتوحد في التطور والتي تلقي الضوء على التقنيات والإجراءات الجديدة المفيدة للاستخدام بالإضافة إلى معلومات طبية. لذا يعد كل معلم متخصص في التعامل مع طلاب التوحد مسؤولاً عن مواكبة آخر المستجدات. بالإضافة إلى أنه لا يوجد طالبان متماثلان، وفقاً لـ “الجمعية الوطنية للتوحد” (NAA)، فبالنظر إلى النطاق الواسع للأعراض، يجب أن يتعلم المعلمون بعضاً من أفضل الطرق للتعامل مع اضطرابات التوحد المتعددة.

4- الإلمام باستراتيجيات التعامل مع التوحد

أظهر استطلاع رأي حديث أن 60% من الشباب المصابين بالتوحد حددوا وجود معلم يفهم استراتيجيات التعامل مع التوحد عاملاً رئيساً لجذبهم إلى المدرسة، لذا من الضروري تطوير استراتيجيات مناسبة للتعامل مع مصابي التوحد وزيادة وعي المعلمين بها.

على سبيل المثال، هناك العشرات من استراتيجيات التعامل مع عرَض عدم الراحة الذي يبديه الطلاب في التواصل بالعين، أو اللمس، أو الوقوف في طوابير مزدحمة. فمن خلال اتخاذ إجراءات بسيطة لتجنب استيعاب هذه السيناريوهات أو استيعابها مثل منح الطلاب المصابين بالتوحد بضع دقائق للاسترخاء بعد المشي في ممر صاخب أو السماح للطلاب بارتداء الملابس عندما تكون غرفة خلع الملابس فارغة، ما يمكن المعلمين من جعل الفصل الدراسي بيئة أكثر ترحيباً وأقل تشتيتاً للانتباه.

بعض المدارس الغربية أدخلت التقنية كاستراتيجية للتعامل مع هؤلاء الطلاب الاستثنائيين، الذين يصعب على بعضهم الاندماج مع نظرائهم من الطلاب وأحياناً المعلمين. إذ استعانوا بروبوتات المحادثات ولاحظوا كيف أسهمت في تحسين مهارات المحادثة، فعلى سبيل المثال، استعانت مدرّسة ابتدائية بريطانية بروبوت يبلغ طوله قدمين. ولاحظت المدرّسة أن الطلاب يحققون قفزات نوعية اجتماعية بمساعدة الروبوتات. إذ طلب طفل مصاب بالتوحد إمساك يد الروبوت واصطحابه في نزهة ما أذهل معلميه ووالديه.

التدريس لمصاب باضطرابات طيف التوحد مهمة تنطوي على التحدي والمتعة معاً، إذ تمنح المعلم فرصة لتقديم موهبة استثنائية للعالم من خلال تطبيق استراتيجيات فعالة، لكنها في الوقت ذاته تتطلب من المعلم أن يتحلى بمهارات استثنائية.

نُشر المقال استناداً على أبحاث من منصة ساهم