بعد عودتي مؤخراً إلى الولايات المتحدة من مؤتمر العدالة الصحية في أميركا الوسطى الذي عُقد في كوستاريكا، حيث تجاوزتُ الحدود بكل ما تعنيه الكلمة من معنى للمشاركة في التعلم المشترك عبر الحدود، أرى أنه من المناسب التأمل في الدروس التي جرى تبادلها وتعلمها في ذلك المؤتمر من خلال هذه السلسلة من المقالات. كما دفعتني الرحلة إلى التفكير العميق في رحلة التعلم التي شاركت بها زملائي في مؤسسة روبرت وود جونسون فاونديشن (RWJF) للبحث في دور الرفاهة في تعزيز العدالة الصحية (سأتحدث عنها لاحقاً).
ركزت غالبية محادثاتنا في كوستاريكا على العلاقة بين العدالة الصحية وإنهاء استعمار المعرفة، وهي الموضوع الرئيسي في هذه السلسلة.
عندما قرأت هذه المقالات، أذهلني مقدار ما يمكن أن يتعلمه بعضنا من بعض عندما ننفتح بتواضع واحترام وحماسة حقيقية على أفكار الدول الأخرى وتجاربها لقدرتها على المساعدة في حل تحدياتنا أينما كنا. عندما نتبادل المعرفة ونخرجها من عزلتها التقليدية وندعو إلى وجهات نظر جديدة أو مختلفة فإننا نرفع من قيمتها، وتصبح منفعة عامة يمكننا جميعاً الاستفادة منها.
وهذا لا يعني دائماً تكرار الأفكار الجيدة عندما نعثر عليها، بل تقييمها مع مراعاة طريقة تكييفها مع الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية الفريدة في مجتمعاتنا.
في مقالة مهرناز غوجة من شبكة سي 40 سيتيز (C40 Cities) حول الحلول الصحية والمناخية من مدن حول العالم، تشير غوجة إلى المربعات السكنية العملاقة في برشلونة حيث حوّل المسؤولون المحليون عدة شوارع مخصصة للسيارات إلى أماكن عامة. وتقول غوجة: "إن أكثر من 2,500 مدينة، بما فيها برلين وبوغوتا وحتى لوس أنجلوس تدرس هذه الفكرة، قد تبدو المربعات السكنية العملاقة في تلك المدن مختلفة تماماً؛ وقد نصل إلى 2,500 نسخة". وتضيف غوجة: "لا يمكن دائماً تكرار الأفكار الجيدة كما هي، ولكن يمكنها إلهام الآخرين والتكيف بحسب سياقاتهم".
القدرة على اقتباس الإلهام من نجاح الآخرين ضرورية لدفع التقدم في الوطن. بمقدورنا في الولايات المتحدة أن نتعلم دروساً مهمة حول التعويض عن الظلم العِرقي التاريخي من التعويضات التي قدمتها حكومة نيوزيلندا لشعب الماوري. بعد عقود من كفاح قادة شعب الماوري، وقّعت الحكومة منتصف عام 2018 على 72 تسوية تعويضات بقيمة 2.24 مليار دولار لتصبح قانوناً.
كتبت مراسلة شؤون الأعراق والسياسات في موقع فوكس (Vox)، فابيولا سينياس في مقالة لها، نيوزيلندا هي مثال على "ما يحدث عندما يعترف المستعمر بارتكاب مخالفات بحق أسلاف الذين استعمرهم". تدعو سينياس الولايات المتحدة لفعل الشيء نفسه مع ذوي البشرة السمراء والأميركيين الأصليين الذين اُستعبد أسلافهم أو هُجِّروا من ديارهم. "إذا تمكن شعب الماوري من النضال من أجل التعويضات والانتصار في النهاية، فمن المؤكد أن قادة الولايات المتحدة يمكنهم على الأقل البدء بأخذ الحوار حول التعويض عن الانتهاكات التاريخية على محمل الجد بوصفه استراتيجية لتصحيح عدم المساواة في مجالات الصحة والتعليم والإسكان وتوزيع الثروة وغيرها".
وكما يقول الطبيب والعضو في قبيلة أوغلالا لاكوتا من محمية باين ريدج في داكوتا الجنوبية دونالد وارن في مقالة له عن حكمة السكان الأصليين والعدالة الصحية المجتمعية: "ذلك يتطلب الاعتراف بالحقيقة بشأن تاريخ بلادنا وواقعها الحالي، ولتحقيق العدالة، يجب أن نسلك طريق الحقيقة". ويقول إن حلول التحديات الصعبة التي نواجهها تتطلب "مشاركة من الطرفين وفرصاً ليتعلم بعضنا من بعض". على سبيل المثال، ثقافة الشعوب الأصلية متجذرة في المجتمع، ولكل فرد صوت وكل إنسان مهم. الثقافة الأميركية تعطي الأولوية للفرد، ولا بد من شيء يتعلمه الفرد من الآخر.
الشمول موضوع مهم في هذه السلسلة أيضاً. يجب ألا نكتفي بحشد أصوات الذين استبعدوا تاريخياً فحسب؛ علينا تقاسم السلطة. تهتم الناشطة في مجال المساواة بين الرجل والمرأة والعالمة في مجال السياسة مار ماركيز بتفعيل دور الشباب وتمكينهم، وبخاصة شباب مجتمعات الأقليات. في مقالتها حول تعزيز المساواة من خلال التركيز على أصوات الشباب، تبحث العبر المستخلصة من كولومبيا التي أنشأت مجالس للشباب على جميع مستويات الحكومة بعد 5 عقود من الصراع المسلح. واليوم، يصوت الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و28 عاماً لممثليهم في تلك المجالس في جميع أنحاء البلاد.
من الصعب أن نتخيل حدوث شيء من هذا القبيل في الولايات المتحدة حيث يشعر الكثير من الشباب بالحرمان من حقوقهم والتجاهل، ولكن هل ذلك من مستحيل؟ كتبت ماركيز أن الشباب "يجب أن يكونوا شركاء، وليس مجرد متفرجين" في عمليات صناعة السياسات والقرار.
تبنّي أساليب شاملة وتشاركية في حل أمراض المجتمع يؤدي إلى نتائج حقيقية وملموسة، وهذا ما أثبتته تجربة رواندا. يذكر كل من المؤسِّسة المشاركة لجامعة العدالة الصحية العالمية (the University of Global Health Equity) في رواندا، أغنيس بيناغواهو، وزميلها كيفين كوبويمانا، في مقالة لهما العبر المستخلصة من إنجازات رواندا الرائعة في الحد من معدلات وفيات الأمهات والأطفال.
في عام 2007، أجرت الحكومة الرواندية إصلاحات في نظامها الوطني للصحة الاجتماعية باستخدام نهج تشاركي قوي يركز على أصوات النساء والمجتمعات المحلية ويضع الثقة في مقدّمي الخدمات المحليين. ومنذ إطلاق هذا النظام، انخفضت معدلات وفيات الأمهات بنسبة 42%، كما انخفضت معدلات وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنسبة 50%.
وفي الوقت نفسه، ترتفع معدلات وفيات الأمهات في الولايات المتحدة، وبخاصة بين النساء ذوات البشرة السمراء اللاتي تزيد معدلاتهن ثلاث مرات على معدلات النساء ذوات البشرة البيضاء. ويحث كل من بيناغواهو وكوبويمانا قادة الولايات المتحدة على "إعطاء الأولوية للمشاركة الاجتماعية، والاستثمار في الرعاية الصحية الأولية، وتعزيز دور الرعاية الصحية الاجتماعية، وضمان الوصول العادل إلى خدمات الرعاية الصحية الجيدة".
هذه مجرد مجموعة صغيرة من الدروس المهمة التي تعلمتها من هذه السلسلة؛ وثمة منها الكثير. وما أذهلني هو الطريقة التي ننفتح بها على التفكير الإبداعي والشمولي عندما ننفتح على التعلم العالمي، والتي تؤدي بدورها إلى حلول أكثر إبداعاً وشمولية تفيد الجميع.
شاركنا في مؤسسة روبرت وود جونسون فاونديشن برحلة تعليمية عالمية حول معنى الرفاهة وكيف يمكن أن تساعدنا في تحقيق العدالة الصحية امتدت سنوات عدة. بصفتنا أكبر مؤسسة خيرية في البلاد ملتزمة فقط بتعزيز الصحة والعدالة الصحية في الولايات المتحدة، أدركنا أن تعزيز الرفاهة جزء من رسالتنا، لكننا لم نستكشف معناها بعمق.
في سبتمبر/أيلول عام 2018، دعت المؤسسة مجموعة متنوعة من المفكرين العالميين إلى بلدة بيلاجيو في إيطاليا لبحث تصورات البلدان في جميع أنحاء العالم للرفاهة وطرق دمجها في سياسة الحكومة وتخصيص الموارد لها ومقاييسها للتقدم الاجتماعي. وكانت الفكرة من المؤتمر التعرف على الأساليب المتبعة في البلدان الأخرى التي يمكن أن تلهم السياسات والممارسات في الولايات المتحدة.
تعرفنا على أمثلة تتبنى نهجاً قائماً على الرفاهة من بلدان في كل القارات تقريباً.
على سبيل المثال، أطلقت دولة بوتان الصغيرة في سبعينيات القرن العشرين برنامج السعادة الوطنية الإجمالية (Gross National Happiness) استناداً إلى المبادئ البوذية، الذي يُجري تقييماً وطنياً للرفاهة محدداً في تسعة "مجالات". توجّه البيانات الواردة في التقييم سياسة الحكومة وتخطيطها وتخصيصها للموارد. وتشمل النتائج سياسات مبتكرة في مجال الموارد الطبيعية والسياحة ووضع بوتان باعتبارها أول دولة خالية من الكربون في العالم، وذلك ضمن إطار تحقيق التنمية المستدامة والعادلة مع الحفاظ على التقاليد الثقافية.
وفي ويلز، أقرت الحكومة قانون رفاهة أجيال المستقبل لعام 2015، الذي يتطلب من الهيئات الحكومية الاهتمام بالتأثير الطويل المدى للسياسات على الأجيال القادمة. كيف يُنفذ ذلك؟ على سبيل المثال، عند وضع خطة وطنية للحد من الازدحام المروري على نحو مستدام، اعتمد المسؤولون الحكوميون على توصيات مستندة إلى أدلة لبناء المزيد من محطات السكك الحديدية وإنشاء المزيد من خطوط الحافلات وممرات الدراجات بدلاً من مجرد تمهيد طرق جديدة.
قدمت نيوزيلندا ميزانية للرفاهة في عام 2019 للتركيز على التأثير الطويل المدى لسياسات جودة الحياة. ووجهت ميزانيتها الأولى للرفاهة الإنفاق الجديد بأكمله نحو تحقيق 5 أهداف للرفاهة، وهي تحسين الصحة النفسية، والحد من فقر الأطفال، ودعم شعوب السكان الأصليين، والانتقال إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، والازدهار في العصر الرقمي. أضافت ميزانية عام 2023 عنصراً لرفاهة النوع الاجتماعي يهدف إلى تأمين رفاهة مجموعات متنوعة من النساء.
وما أدهشني هو تعريفها للرفاهة:
"الرفاهة هي قدرة الناس على عيش حياة مُرضية متوازنة ذات هدف ومعنى بالنسبة إليهم، يتطلب رفع قدرة النيوزيلنديين على التمتع برفاهة جيدة معالجة التحديات الطويلة المدى التي نواجهها على مستوى البلاد، مثل أزمة الصحة النفسية وفقر الأطفال والعنف المنزلي. وذلك يعني تحسين وضع بيئتنا، وقوة مجتمعاتنا، وأداء اقتصادنا".
والآن، ثمة إدارة جديدة للبلاد، سيكون التحدي الحفاظ على الالتزام بهذا النهج، وهو ما يقدم درساً مهماً لجميع الجهود الرامية إلى تعزيز التقدم على مساري العدالة والرفاهة.
تقليدياً، نحن في الولايات المتحدة ننظر إلى الصحة والرفاهة بطريقتين، تتعلق الأولى بغياب المرض والأخرى بالنجاح المالي، الذي يقاس غالباً في المجتمعات الغربية مثل الولايات المتحدة بالناتج المحلي الإجمالي.
ولا ينظر هذان النموذجان إلى عدة عوامل مثل الرضا عن الحياة والترابط الاجتماعي والأمن المالي وما إلى ذلك. وكما قال بوبي كينيدي في عبارته الشهيرة حول الناتج المحلي الإجمالي: "إنه يقيس كل شيء إلا ما يجعل الحياة تستحق أن تعاش".
بالإضافة إلى ذلك، يستبعد هذان النموذجان أصوات العديد من الناس في المحادثات الاجتماعية المهمة. فهما يصمان آذانهما عن المجتمعات، ولا يشركان أصواتاً جديدة أو مختلفة، ولا يحاولان التعلم من خارج حدودهما، وباتا مكتفيين بنفسيهما. ونتيجة لذلك، يساعدان على ترسيخ نظام يسهم في ضعف جزء من الناس ويبقيهم ضعفاء، بل يضعفهم أكثر فأكثر.
حان وقت التغيير، نحن بحاجة إلى إنشاء معيار جديد يأخذ في الحسبان معنى الإنسان، ومعنى عيشه في مجتمع، ومعنى أن يكون جزءاً من مجتمع مزدهر. ويجب أن يعزز رفاهة المجتمع، وهي مزيج من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية والسياسية الضرورية للأفراد ومجتمعاتهم للازدهار وتحقيق إمكاناتهم. كما أنها تحتاج إلى المرونة بالاعتراف بتنوع الرفاهة الاجتماعية في المجتمعات المختلفة اعتماداً على قيم كل مجتمع وخياراته المفضلة.
نريد في مؤسسة روبرت وود جونسون فاونديشن تحقيق العدالة الصحية في نهاية المطاف، حيث يتمتع كل فرد بفرصة عادلة ومنصفة لعيش أفضل حياة صحية ممكنة. يساعدنا الالتزام بتعزيز رفاهتنا الجماعية على تحقيق هذه الغاية.
لنمعن التفكير في هذه الفكرة، ماذا لو أولينا المزيد من الاهتمام لتعزيز مجتمعاتنا وزيادة سعادة أطفالنا وتسهيل حياة عائلاتنا العاملة وحماية كوكبنا بدلاً من التركيز أولاً على كمية الدولارات التي ينتجها مجتمعنا ويستهلكها كل عام؟
لقد كانت رحلة مفيدة حول الرفاهة بالنسبة إلى مؤسسة روبرت وود جونسون فاونديشن، ونركز الآن على ترجمة ما تعلمناه وتكييفه مع سياقنا وظروفنا في الولايات المتحدة، وهي رحلة قدّم لها التعلم العالمي الإلهام والتشجيع والإثراء والمعلومات المهمة.
وفي ختام سلسلة المقالات هذه، أدعوكم إلى الانضمام إلينا والشروع في رحلتكم في التعلم العالمي. يمكن أن يتعلم بعضنا من بعض الكثير، بغض النظر عن المكان الذي نعيش فيه على هذا الكوكب. يحتاج عالمنا إلى مفكرين عالميين على استعداد لتجاوز الحدود (المادية وغيرها) لتبادل الأفكار الجديدة حتى نتمكن جميعاً من تحقيق مستقبل أفضل، ليس لأنفسنا فحسب، بل للأجيال القادمة.