تشتهر منطقة خليج همبولت في شمال غرب كاليفورنيا بمواردها الطبيعية؛ أشجار السيكويا الشاهقة والأنهار القوية التدفق وتنوع الحياة البرية ووفرتها والساحل الجذاب، وهي موطن لثماني قبائل معترف بها فيدرالياً، منها قبائل هوبا ويوروك وكاروك وويوت وتولووا. ولطالما استوعبت التقاليد الثقافية للسكان الأصليين في المنطقة منذ فترة طويلة الترابط بين البشر والأرض والماء والكائنات الأخرى.
وكما هي الحال في معظم أنحاء مناطق السكان الأميركيين الأصليين، فإننا نشهد جهوداً حيوية لإحياء الثقافة الأصيلة التي تربط بين الماضي والحاضر وتبرز فلسفة الشعوب الأصلية وتقاليدها التي طالما قمعها الاستيطان. وهذه بشرى لشبابنا، الذين يواجه العديد منهم مشكلات في الصحة النفسية نابعة من الصدمات ومشكلات الفقر والانعزال الاجتماعي التي تنتقل من جيل لآخر. وفي حين زاد تمويل مبادرات معالجة أزمة الصحة النفسية للشباب في أميركا، مع تنامي الدعم الموجه لشباب السكان الأصليين، فإن المال وحده لن يحل مشكلة انفصال الشباب عن الذات والعائلة والمجتمع والطبيعة، وأزمة المعنى المرتبطة بها.
لحسن الحظ، يتزايد الاهتمام بالأساليب العابرة للثقافات لتعزيز رفاهة الشباب واستكشاف ماهية الحياة الهادفة على نطاق أوسع. وهنا، تمتلك الحكمة الأصيلة ما تسهم به في هذا الحوار بسخاء.
وفي أثناء إتمام دراستي لنيل درجة الدكتوراة في علم النفس، أجريت بحثاً داخل تجمع رسمي للمعالجين ومزودي الخدمات من السكان الأميركيين الأصليين. أعطى المشاركون الأولوية لأهمية العلاقات في أساليب السكان الأصليين العلاجية التي تتجاوز المريض والمعالج لتشمل صلة الفرد بكل من الخالق والعائلة والمجتمع والعالم بأسره. ويرى السكان الأصليون الذين يتناقلون هذه الحكمة الأصيلة، ويمكن أن نسميهم "حراس الحكمة"، أن إتاحة بيئات ترعى الصحة والشفاء تتطلب بناء ما يسمونه "الروابط القوية المتداخلة"، وهي تنطوي على تقدير الترابط بين جميع أشكال الحياة ومسؤوليتنا تجاه الآخرين وتجاه الأرض.
على مدار السنوات الست الماضية، استكشفت هذه الروابط عملياً بصفتي قائد مؤسسة تؤكد الأهمية الثقافية وتقدم خدمات الصحة النفسية لشباب وعائلات السكان الأصليين في جميع أنحاء مقاطعة همبولت. يكمن بناء العلاقات في جوهر عملنا في مؤسسة تو فيذرز نيتف أميركان فاميلي سيرفسز (Two Feathers Native American Family Services)، من خلال تقديم دروس للمؤسسات الأخرى التي تعمل على تعزيز الصحة النفسية للشباب الذين يعانون التمثيل الناقص ورفاههم.
تغيير السردية القصصية
أنا عالم نفس بالتدريب، وأدرك أن الشفاء يحدث على المستويات العقلية والعاطفية والجسدية والروحية، ونشأت في مجتمع قبلي على بعد أميال قليلة من محل إقامتي ومقر عملي الحالي. ومثل الكثير من الشباب الذين نخدمهم، عانيت مشاعر الخزي والنقص التي دفعتني إلى إدمان المخدرات في العشرينيات من عمري، لكنني تمكنت من تغيير وجهة نظري واختيار مسار جديد بفضل العلاقات الداعمة التي ساعدتني في التعرف إلى مواهبي وعززت تقديري لذاتي.
لقد تعلمت أن رحلة الشفاء تبدأ بالعلاقة مع الذات والآخرين. في الواقع، ينشأ عدد كبير جداً من شباب الشعوب الأميركية الأصلية في بيئات حيث تشكّل الصدمات التاريخية والمعاصرة والفقر والسرديات المجتمعية السلبية هوياتهم منذ الولادة. ولفترة طويلة، كان السرد القصصي السائد هو أن السكان الأصليين ناقصون وغير ملائمين وفي مستوى أدنى من غيرهم. وهذه السرديات التي تتردد باستمرار عبر وسائل الإعلام ومضمنة في نظامي التعليم والرعاية الصحية تديم العلل التي تصفها. إن مشاعر تدني تقدير الذات متجذرة بعمق وغير واعية ولا يمكن معالجتها بالتدخلات التقليدية في الصحة النفسية، مثل التدريب على الكفاءة الثقافية.
يؤدي الاستخدام المتكرر للمؤشرات الاجتماعية لوصف شباب السكان الأصليين، مثل معدلات الاكتئاب وتعاطي المخدرات والتسرب من التعليم المدرسي والعنف والانتحار إلى زيادة مشاعر الخزي بين المراهقين والتوقعات المنخفضة لدى المكلفين برعايتهم.
فكانت النزعة إلى إضفاء صفة العلة وتأصيل الأوصاف والتسميات سبباً في لجوء فريق الإرشاد النفسي في مؤسستنا إلى أسلوب العلاج بالسرد القصصي. طوّر معالجون نفسيون في نيوزيلندا أسلوب العلاج بالسرد القصصي في ثمانينيات القرن العشرين، ويدعو هذا الأسلوب مَن يخضع للعلاج إلى تأمل قصته ليصل إلى رؤية شاملة للحياة على اعتبارها نظاماً متكاملاً وهو جزء منها. فيعي الشاب الطريقة التي تشكلت فيها مواقفه وسلوكياته ومفهومه عن ذاته، ويدرك أنه نتيجة منظومة متشابكة من التأثيرات ولا يمكن اختزاله في الصورة النمطية المفروضة عليه. الهدف هو أن يتمكن الشاب من السيطرة على المشكلات التي يواجهها دون أن يصبح هو المشكلة. ويتماشى العلاج بالسرد القصصي مع الحكمة الأصيلة؛ أي الثروة المعرفية لدى السكان الأصليين، وممارسات الشفاء من خلال التركيز على السرد القصصي والترابط بين الأفراد في بيئاتهم الاجتماعية والثقافية والتاريخية.
الطب البطيء
تتطلب عملية شفاء الصدمات الجماعية المتوارثة عبر الأجيال وقتاً وصبراً. فإذا كانت العلاقات هي سبب جراحك النفسية فإن العلاقات سوف تشفيك منها، وهذا يتطلب وقتاً. في الواقع، يصعب الوصول إلى شباب السكان الأصليين في أزماتهم، إذ يعيش معظمهم في مناطق نائية وبلدات صغيرة معزولة، ويكبر الكثير منهم دون معرفة معنى الثقة وكيفية بنائها بعد أن خذلتهم الأسرة ونظام التعليم والمجتمع عموماً. يرتكز هذا العمل على الاستمرارية والحضور الدائم، وهي مهمة تتطلب موظفين ملتزمين ومتواضعين وصادقين يتمتعون بحب الاستطلاع.
يعتبر كل فرد في فريق العمل بالمؤسسة نفسه عماً أو خالاً، أو خالة أو عمة، للشباب المنفصلين عن المجتمع، ودليلنا المرشد وهدفنا الأساسي هو مساعدة الشباب على تلقي الحب والرعاية ومنحهما ليتمكنوا من حمل مسؤولية حياتهم، ويتطلب ذلك بصورة أساسية جهد موظفين يتميزون في بناء العلاقات ولا يجدون حرجاً في إظهار ضعفهم الإنساني. ومن أهم الدروس التي تعلمناها من تجاربنا السيئة تفضيل أصحاب الإنجازات الأكاديمية في التوظيف على من يمتلكون مهارات التعامل، وكذلك تعزيز بيئة عمل فائقة الإنتاجية على حساب رفاهة الموظفين.
يبدأ بناء علاقات صادقة وقوية مع الشباب وداخل المجتمع بغرس ثقافة مؤسسية نشطة ترعاهم وتلبي احتياجاتهم، فقد واجه العديد من أفراد فريقنا، منهم 60% من الأميركيين الأصليين، التحديات نفسها التي تواجه الشباب الذين يخدمونهم، ويحتاج هؤلاء الموظفون إلى المساحة الكافية والدعم اللازم لتطوير أنفسهم بالتدريب والتوجيه والإرشاد ضمن ثقافة تقدّر جيداً التعلم المستمر، فثقافة الرعاية لا تنشأ صدفةً بل تتطور من قيم المؤسسة وبوضع قواعد منطقية عامة؛ لذلك أغلق هاتفك الذكي في الاجتماعات، وخصص وقتاً للاستراحات التي يقضيها أفراد الفريق وأتح لهم تناول الوجبات معاً، واحذر من منح الأولوية لتحقيق الأهداف على حساب رفاهة الموظفين ومعنوياتهم.
التعلم من ثقافة السكان الأصليين
في مدرسة كابتن جون الثانوية (Captain John High School)، وهي مدرسة بديلة في محمية هووبا فالي للسكان الأصليين (Hoopa Valley Indian Reservation)، يشارك الطلاب والمعلمون في حلقة حوار أسبوعية. ويأخذ كل مشارك دوره في الإجابة عن السؤال الذي يسحبه عشوائياً من داخل جورب. تتنوع مواضيع الأسئلة، بدايةً بما يخططون له لعطلة نهاية الأسبوع وانتهاءً إلى وصف تجربة تعرضوا فيها للظلم. فحلقة الحوار هذه هي مساحة يشعر فيها الطلاب بالأمان للتحدث بصراحة عن حياتهم، وفيها تنشأ علاقات الثقة داخل مجتمع المدرسة.
حلقة الحوار هي إحدى الممارسات التقليدية الكثيرة التي نستخدمها لربط الشباب بثقافتهم والطرق القديمة لبناء العلاقات، وتعلّمهم هذه الأنشطة مهارات مثل الوعي الذاتي والتعاطف، وتغرس فيهم قيماً مثل المساواة والاحترام، وعلى النقيض من تركيز الثقافة الغربية على النزعة الفردية، تعزز هذه الممارسات المسؤولية المتبادلة لبعضنا تجاه بعض.
من خلال المشاركة في الأنشطة الثقافية للسكان الأصليين، مثل فنون الخرز والنسج والغناء والرقص والنحت وصنع الطبول، يرتبط شباب السكان الأصليين بهويتهم الثقافية ويعززون علاقاتهم بأقرانهم، كما أنها تبني الوعي المدرك وتحفز الحواس، إذ يقضي الشباب وقتاً معاً في قلب الطبيعة؛ فيتعرفون على أنواع النباتات ويجمعون المواد الخام لاستخدامها في صنع الملابس التقليدية والأزياء التي يرتدونها من أجل الطقوس المقدسة. تساعد هذه الأنشطة على مواجهة التأثيرات السلبية للتكنولوجيا الرقمية على الصحة النفسية للشباب، ومنها العزلة وتدني تقدير الذات.
وقد تناول الباحث في السكان الأصليين مايكل يلو بيرد في كتابات مستفيضة مدى قدرة طقوس السكان الأصليين وأنشطتهم الثقافية على شفاء الأفراد. وأشار فيها إلى أن الرقص والغناء وبقية الأنشطة الجماعية تغذي الشعور بالانتماء وتنشط إفراز هرمونات السعادة والمتعة في الدماغ، مثل الأوكسيتوسين والدوبامين.
تعزز هذه الممارسات ارتباط الشباب بقيم السكان الأصليين الراسخة في العلاقات، وقد كتبت الباحثة كيشان لارا-كوبر، وهي من قبيلة هووبا، باستفاضة عن العلاجات الثقافية للصدمات التاريخية والعرقية، ومنها مفهوم "الطريقة الإنسانية"، الذي يشير إلى عيش حياة متوازنة ومتناغمة بتكريم المرء لذاته واحترام نفسه وأسلافه ومجتمعه وبيئته والمخلوقات جميعها.
ويصف جوردان، البالغ من العمر 18 عاماً، وهو من قبيلة كاروك الأصلية، المقصود على هذا النحو: "نقصد بذلك أن تكون نواياك حسنة وأن تتحمل المسؤولية، وأن تعامل الناس بالطريقة التي تحب أن يعاملوك بها". فمن أهم مميزات هذه الرؤية تجاه العالم فكرة أن الذات مندمجة تماماً في بناء اجتماعي أكبر.
كما يشتمل مفهوم الطريقة الإنسانية على فكرة الموهبة، التي تقول إن لكل شخص قدرة طبيعية أو موهبة يقدمها للمجتمع. فبينما تعتبر الثقافة الغربية الموهوبين أقلية بين الطلاب، يؤمن السكان الأصليون أن لدى كل شخص موهبة فريدة يختص بها؛ ويكمن التحدي، بل الفرصة، في تحديد موهبة الفرد وارتباطها الإيجابي بالمجتمع.
المبدأ الأخلاقي المتمثل في المسؤولية المشتركة
يمكن للثقافة الأميركية المعاصرة أن تستفيد من تعزيز هذا الإحساس بالمسؤولية المشتركة؛ في ذروة الجائحة، انضم عالم السياسة روبرت بوتنام إليّ في حوار عبر شبكة الإنترنت حول موضوع كتابه الأخير "الصعود: كيف اتحدت أميركا قبل قرن وكيف يمكننا الاتحاد مجدداً" (The Upswing: How America Came Together a Century Ago and How We Can Do It Again). وكان بين جمهور الحوار معلمون ومزودو خدمات للشباب من مختلف أنحاء منطقتنا. تحدث بوتنام عن مستويات تاريخية من الاستقطاب السياسي، وعدم المساواة الاقتصادية، والأنانية الثقافية في أميركا، فقال: "إذا كنا نريد الانتقال نحو مستقبل أفضل، فمن المرجح أن يبدأ ذلك بالنظر في التزاماتنا تجاه الآخرين".
واستناداً إلى تجربتنا، يمكن للمؤسسات التي تخدم الشباب وتسعى لبناء المزيد من العلاقات في عملها أن تبدأ بما يلي:
- توظيف موظفين متمكنين وملتزمين تماماً بالمهمة ولديهم موهبة فطرية في التواصل الإيجابي مع الشباب.
- إعطاء الأولوية لدور بناء العلاقات داخل مؤسستك، مع تشجيع أعضاء الفريق على إنشاء مجتمع متماسك وبناء العلاقات أينما ذهبوا.
- تعزيز علاقة الشباب بأنفسهم بدعوتهم إلى فهم القوى التي أثّرت في مسارات حياتهم، وإعادة صياغة قصة حياتهم بناءً على ما هم قادرون على تحقيقه واستناداً إلى أهدافهم.
- غرس الثقافة المؤسسية ورعايتها، حيث ينمو الموظفون معاً فريقاً واحداً ويحصلون على الدعم في سعيهم للتعلم والشفاء والتطور.
- ربط الشباب بالممارسات والتقاليد والأنشطة الثقافية التي تعزز الهوية وتبني المجتمع وتغذي الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين.
- دعم الشباب في تحديد مواهبهم الفطرية وكيفية استخدامها في صالح المجتمع الأوسع نطاقاً.
- إشراك العائلات والمجتمع الأكبر في جهود دعم رفاهة الشباب بتنظيم الفعاليات والأنشطة التي تعزز الروابط وتنشر البهجة.
في حوارنا، تحدث بوتنام عن دور الشباب تاريخياً في قيادة التغيير الاجتماعي الإيجابي، إذ يتخيل الشباب العالم على النحو الذي ينبغي أن يكون عليه لأنهم مثاليين بطبعهم. ويتمثل دورنا بوصفنا مختصين في تطوير الشباب والآباء والمعلمين ومزودي الرعاية، في تجهيز شباب اليوم بالقدرة على منح الحب وتلقيه وإعادة رسم المستقبل، على أن نبدأ من مسؤوليتنا المتبادلة بعضنا تجاه بعض وتجاه العالم والطبيعة.