كيف تحوّلت السينما إلى منشأة تعليمية في اليابان؟

اليابان
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يزداد عدد الأطفال الذين يرفضون الذهاب إلى المدرسة في اليابان بمعدل مثير للقلق. تشير هذه الظاهرة المعروفة باسم فوتوكو (futoko) إلى زيادة عدد الأطفال الذين يتغيبون عن المدرسة لأكثر من 30 يوماً لأسباب غير مرتبطة بالصحة أو الوضع المالي. ووفقاً للدراسة الاستقصائية الأخيرة التي أجرتها وزارة التعليم اليابانية (MEXT) في عام 2022، يندرج أكثر من 244 ألف طالب من المدارس الابتدائية والمتوسطة في اليابان في هذه الفئة ويواجهون صعوبات في الذهاب إلى المدرسة. إذ ارتفعت معدلات التغيّب عن المدرسة في جميع أنحاء البلاد في السنوات التسع الماضية بمقدار 3.6 أضعاف بين طلاب المدارس الابتدائية و1.7 ضعف بين طلاب المدارس الإعدادية مقارنة بالعقد المنصرم.

أسباب التغيّب عن المدرسة متعددة الأوجه ومعقدة. إذ أظهرت دراسة استقصائية سابقة أجرتها وزارة التعليم اليابانية حول التسرب من المدارس الابتدائية والإعدادية أن العوامل الرئيسة للتسرب تتضمن المشكلات مع المعلمين والأصدقاء في المدرسة واضطرابات الروتين اليومي الناجمة عن وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والألعاب، لكن ثمة أسباب أُخرى. تقول عضو مجلس إدارة صالة السينما غير الربحية أويدا إيغيكي (Ueda Eigeki)، نوزومي توري: “ببساطة، لا يحب [الطلاب] ما يدرسونه في المدرسة أحياناً، وقد يكون السبب بسيطاً أيضاً مثل الشعور بالتوتر من ارتداء الزي الرسمي كل يوم”.

للتسرب من المدرسة عواقب وخيمة بعيدة المدى، مثل التنمية الذاتية المحدودة، والوصم الاجتماعي، وانخفاض فرص العمل والدخل مدى الحياة. كما يتعرض الشباب الذين يتركون الدراسة لخطر الانسحاب من المجتمع تماماً وعزل أنفسهم في غرفهم، وهي مشكلة اجتماعية معروفة منذ فترة طويلة تُعرف باسم “هيكيكوموري” في اليابان. وأكثر ما يثير القلق هو ارتفاع عدد حالات الانتحار بين الأحداث، فوفقاً لوزارة الصحة والعمل والرعاية الاجتماعية، سُجلت 514 حالة وفاة في عام 2022 وحده.

كما تتأثر رفاهة الأسر التي يرفض أطفالها الذهاب إلى المدرسة، إذ يضع ما يقرب من 64.9% من أولياء أمور الأطفال الذين لا يذهبون إلى المدرسة اللوم على أنفسهم، وذلك وفقاً لاستقصاء أجرته منظمة غير ربحية تتخذ من طوكيو مقراً لها. وأفاد 52% من المشاركين بالاستقصاء بأنهم يشعرون بالوحدة والعزلة.

أقرّت الحكومة اليابانية قانوناً جديداً حول التعليم لمعالجة تفاقم التسرب، ودخل حيز التنفيذ في عام 2016. وينصّ القانون على مسؤولية الهيئات الحكومية الوطنية والمحلية عن تأمين الفرص التعليمية خارج المدرسة لمعالجة مشكلة التغيب. بوسع مدراء المدارس بموجب هذا القانون احتساب مشاركة الطلاب في منشآت خاصة تستوفي معايير محددة حضوراً مدرسياً. مثل “المدارس المجانية” التي يديرها أفراد ومؤسسات خاصة تعمل بالشراكة مع المدارس التقليدية.

أحد الأمثلة المبتكرة على هذه المنشآت الخاصة هو نادي سينما الأطفال في أويدا، وهو مشروع تعاوني أطلقته 3 مؤسسات غير ربحية في عام 2020 يستخدم إمكانات دار سينما عمرها 100 عام لتقديم عروض مجانية للطلاب من جميع الأعمار. في أغسطس/آب 2020، حضر 3 أطفال وأولياء أمورهم العرض الافتتاحي لفيلم “في هذا الركن من العالم” (In This Corner of the World) في النادي، وهو فيلم رسوم متحركة حاز عدة جوائز ويروي قصة حياة شابة في هيروشيما خلال الحرب العالمية الثانية. في سبتمبر/أيلول 2021، اعترفت مدرسة محلية رسمياً بطالب من المدرسة الإعدادية يبلغ من العمر 14 عاماً على أنه “حضر إلى المدرسة” عندما شاهد فيلماً لنادي السينما خلال ساعات الدوام المدرسي. يضم النادي اليوم 95 طالباً، وتعترف به 5 مدارس في المنطقة باعتباره بيئة تعليمية تكميلية. قال أحد مدراء المدارس الخمس بأنه أسهم في نمو الطلاب من خلال “توفير فرص تجربة السعادة والمتعة في التواصل مع الآخرين”.

مساحة لتعلم مهارات الحياة

تقع مدينة أويدا في محافظة ناغانو في وسط اليابان، ناغانو منطقة ذات طبيعة خلابة وتاريخ عريق، لكنها تواجه معدلات انتحار عالية وتحتل المرتبة الرابعة في البلاد من حيث التسرب من المدارس. في السنوات الأخيرة، لاحظت مؤسسة ساموغاكو (Samugaku)انخفاض متوسط عمر الطلاب المسجلين، وهي مؤسسة محلية غير ربحية تساعد الطلاب (وبخاصة الذين يعانون الهيكيكوموري) على اكتساب المهارات الحياتية الأساسية من خلال مجموعة متنوعة من النشاطات. فبدأت البحث عن طرق للتدخل في المراحل المبكرة بالتعاون مع مؤسسة إيداو (Aidao)، وهي مؤسسة وسيطة محلية تدعم المؤسسات غير الربحية في شرق ناغانو، ومع سينما أويدا إيغيكي (Ueda Eigeki)، التي ذكرناها سابقاً والتي تأسست داراً للسينما في الأصل عام 1917 وتحولت مؤخراً إلى مؤسسة غير ربحية.

مدخل نادي سينما الأطفال أويدا. (الصورة: فان لي)

تقول المديرة التنفيذية لمؤسسة إيداو وعضو مجلس إدارة مؤسسة أويدا إيغيكي، ميغومي ناوي: “عندما اجتمعنا وناقشنا فكرة افتتاح نادٍ للسينما، كنا متفقين على قدرة الأفلام على مساعدة الأطفال في توسيع معارفهم، إذ تسهم الفنون والثقافة في ترابط المجتمع وتخلق مجالاً لحرية التعبير. إذا دعونا الأطفال الذين لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة للقدوم إلى السينما ومشاهدة فيلم جيد، فما المشكلة؟”.

يعتقد الشركاء أنه من الضروري الاعتراف بأنه حتى الأطفال الذين يبدون بخير ظاهرياً قد يعانون مشكلات داخلية، ومنها ما قد يؤدي إلى الانتحار. لذلك وضعوا سياسة تتجنب فحص المتقدمين. كما أرادوا ضمان أن تكون العضوية مجانية. في عام 2018، سنّت الحكومة اليابانية قانون الحسابات الخاملة، الذي يسمح للحكومة باستخدام أموال الحسابات المصرفية الخاملة لدعم المؤسسات غير الربحية التي تعزز الرفاهة والنشاطات المجتمعية. علمت ناوي بالقانون الجديد ورأت فيه فرصة للتقدم بطلب تمويل ضمن فئة دعم الأطفال والشباب. وتقول: “تجمع المؤسسات غير الربحية الأموال وتعالج القضايا الاجتماعية بصورة فردية، أعتقد أن للمؤسسات الوسيطة دوراً مهماً في ربط المجموعات المختلفة ذات هدف مشترك، وإضافة زخم كبير عبر إشراك الحكومة والشركات”. حصلت الشراكة على منحة بقيمة 175 ألف دولار من التمويل لتغطية تكاليف عرض الأفلام في النادي وتكاليف التشغيل مدة 3 سنوات.

وبمجرد حصول المشروع على التمويل، أنشأت المؤسسات الثلاث مخططاً لأصحاب المصالح في مدينة أويدا والمدن المجاورة، وبدأت بالتواصل مع المدارس ومجالس التعليم المحلية والمختصين الاجتماعيين والخبراء للحصول على الإرشادات والتوصيات. تبنّى العديد من المدارس الابتدائية المحلية فكرة إنشاء “مساحة انتماء” للأطفال خارج حدود المدرسة والعائلة، وبدأت بتوزيع منشورات عن نادي السينما في مرافقها.

كما تواصلت المجموعة مع مؤسسات محلية أخرى تعمل في مجال الشباب والأطفال، بما فيها دور الفنون، ومرافق رعاية الأطفال، والمؤسسات غير الربحية التي تدعم أصحاب الهمم (ذوي الاحتياجات الخاصة)، ومجموعات حماية الحيوانات. تقول توري: “توجد منظومة عمل من المؤسسات غير الربحية والشركات الصغيرة في شرق ناغانو تهتم فعلاً برفاهة الأطفال المحليين وعائلاتهم،  ويعتبر هذا الدعم منذ البداية أمراً بالغ الأهمية لنهج مبتكر مثل نادي سينما الأطفال”.

كما أشركت الآباء في هذه العملية. كاي طبيبة وخز بالإبر وأم لطفلين في التاسعة والسابعة من العمر، سمعت عن نادي السينما في احتفال يوم الأرض، والآن كلا الطفلين عضو في النادي. تقول كاي: “كان لقائي بالطلاب الأكبر سناً، وبالعاملين والمتطوعين في نادي السينما تجربة رائعة”.

بدأ النادي بتقديم عرض شهري واحد ولكنه يقدم الآن عرضين كل شهر، بما فيها الأفلام الوثائقية والرسوم المتحركة والأفلام ذات الإنتاج الضخم والأفلام ذات الميزانية المحدودة. وتفتح صالة السينما أبوابها لأعضاء النادي خلال النهار كل أربعاء وجمعة. يعمل طلاب مؤسسة ساموغاكو في المقهى بدوام جزئي ويقدم موظفوها الاستشارة لأعضاء النادي وأولياء أمورهم. ويدعى أعضاء المدارس المتوسطة والأكبر منهم سناً للمساعدة على تنفيذ مهام مثل تعليق الملصقات وتنظيم النشرات والتنظيف، والمشاركة في الحديث حول أفلامهم المفضلة.

وتتضمن البرامج ورش عمل متعلقة بمواضيع الأفلام ومحادثات مع صانعي الأفلام، التي قد يرتبط بعضها بالقضايا التي يعاني بسببها الطلاب وعائلاتهم. فمثلاً، نظّم نادي السينما في عام 2021 مقابلة افتراضية مع مخرجة فيلم الرسوم المتحركة الأيرلندي الحائز عدة جوائز “ذا بريدوينر (The Breadwinner)“، نورا توومي. يحكي الفيلم قصة فتاة صغيرة تدعى بارفانا، تعيش تحت حكم طالبان في أفغانستان. أوضحت تومي أنها تركت المدرسة عندما كان عمرها 15 عاماً وعملت في مصنع قبل أن تجد مهنتها في مجال الرسوم المتحركة. وعندما سُئلت كيف تغلبت على تلك الصعوبات، أجابت أن والدتها أتاحت لها الوقت الكافي للعثور على حلول لتلك الصعوبات. تقدّم مثل هذه المحادثات للأعضاء وجهات نظر جديدة ذات صلة مباشرة بحياتهم الخاصة. تقول ناوي: “الطلاب الذين تركوا المدرسة يجدون أنفسهم عالقين في منظورهم المحدود، ويصلون إلى طرق مسدودة مراراً وتكراراً ويشعرون باليأس. ومن خلال الأفلام الجيدة، ومشاهدة كيف يعيش الآخرون حياتهم وكيف يرون العالم، يحصل هؤلاء الأطفال على فرصة للتفكير من منظور مختلف والتعرّف على قيم مختلفة”.

يحكي بعض الأفلام التي يختارها النادي قصص الأهل، وبخاصة الأمهات. على سبيل المثال، يحكي فيلم “كيم جي يونغ، التي ولدت في عام 1982” (Kim Ji-young, Born 1982)، المستوحى من رواية كورية، قصة ربة منزل تصبح أماً تقضي كل وقتها في المنزل وتعاني لاحقاً الاكتئاب. تقول ناوي: “يقع اللوم على الأمهات ويتعرضن للتوتر [لأن أطفالهن لا يذهبون إلى المدرسة]. نختار الأفلام التي يمكن أن تخلصهم من الشعور بالذنب. [بالإضافة إلى ذلك] يلاحظ الأطفال الذين يعلقون في عالمهم الخاص أحياناً معاناة والديهم ويفهمون مشاعرهم من الفيلم الذي يتحدث عن الأبوة والأمومة. الأمر أشبه بالتأمل وإعادة التفكير”.

أعضاء في نادي سينما الأطفال في أويدا يجمعون التذاكر والطوابع، ويدونون الملاحظات حول الأفلام التي يشاهدونها في دفاتر ملاحظات خاصة. (الصورة: فان لي)

اعترفت حتى الآن 5 مدارس في المنطقة بنادي أويدا للسينما باعتباره منشأة تعليمية تكميلية. تختلف عملية الاعتراف من مدرسة إلى أخرى، وقد تتضمن تدخلات من قبل المختصين الاجتماعيين بالمدرسة أو التواصل المنتظم بين أولياء الأمور والمعلمين. يوثّق موظفو النادي الحضور ويقدمون ورقة تسجيل إلى مدرسة كل طالب. كما يحضر الموظفون في اجتماعات شهرية للمشاركة في محادثات مباشرة مع المعلمين.

ليس الهدف بالضرورة إعادة الطلاب إلى فصولهم الدراسية، إذ يعتقد بعض الأهالي أن مساحات التعلم البديلة يجب أن تكون متاحة دائماً، وتشير ناوي إلى أن ما يقرب من نصف أعضاء النادي بدؤوا بالعودة إلى المدرسة بمفردهم وأبدوا اهتماماً في المضي قُدماً. “بوسعك ملاحظة الاختلاف عبر لغة جسدهم؛ إذ يبدون أكثر راحة، وتبدأ برؤية الابتسامات على وجوههم ووجوه أهلهم”.

البناء على فكرة جيدة

صحيح أن نادي أويدا للسينما هو النادي الوحيد من نوعه في اليابان حالياً، لكن مجلس مدينة ماروغامي في محافظة كاغاوا في جزيرة شيكوكو تواصل مؤخراً مع ناوي للحصول على المشورة. يخطط مجلس المدينة حالياً لبناء مبنى جديد يتضمن سينما للأطفال يستهدف الأطفال الذين يجدون صعوبة في الذهاب إلى المدرسة، ومكتباً محلياً لإدارة الرعاية الاجتماعية يمكنه تقديم المشورة للمتسربين من المدارس وأولياء أمورهم.

برز نادي أويدا للسينما في ناغانو بوصفه قدوة في إعادة النظر في التعليم ودور المدارس. على سبيل المثال، دعا النادي مجلس التعليم في مدينة أويدا إلى إعداد مبادئ توجيهية تساعد المدارس ومدراء المدارس على تحديد بيئات التعليم البديلة التي عليهم الاعتراف بها. وتتطلب هذه المبادئ التوجيهية التي صدرت في أبريل/نيسان 2023 أن تعمل المنشآت البديلة “بالتنسيق والتعاون الكافي مع أولياء الأمور والمدرسة”. ويمكن للأفراد تشغيل المنشآت البديلة، ولا يشترط الحصول على وضع قانوني ما دامت “تساعد الطالب على تحقيق الاستقلال الاجتماعي وتوفر الدعم الذي يتيح إعادة الاندماج السلس عندما يعبّر الطالب عن رغبته في العودة إلى المدرسة”. ويبقى القرار النهائي بشأن التعامل مع المشاركة باعتبارها حضوراً في المدرسة بيد مدراء المدارس.

بالنسبة إلى نادي أويدا للسينما، تتمثل الخطوة التالية في الوصول إلى المزيد من الأطفال وأفراد أسرهم، بما في ذلك الطلاب الذين يذهبون إلى المدرسة. في ندوة عقدها نادي أويدا لسينما الأطفال في فبراير/ شباط 2023، علّق الأستاذ جون هاياساكا بجامعة ناغانو قائلاً إن النادي أظهر كيف يمكن للمسرح أن يصبح مساحة تعليمية ومكاناً للانتماء للطلاب الذين يواجهون صعوبة في التواصل مع الآخرين. “السينما مكان للتمتع بالثقافة والفنون، يشاهد الناس ذوو القيم ووجهات النظر المختلفة الفيلم نفسه في الوقت نفسه، ما يؤدي إلى نوع من التعاطف والتواصل المشترك مع العالم. اختبار الحالة نفسها يحمل معنى كبيراً جداً”.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.