الحياد الكربوني في الشركات وعد زائف

6 دقائق
الحياد المناخي
(الصورة: آيستوك/ريتش فنتدج)

تعمّد مؤسس شركة باتاغونيا (Patagonia)، إيفون شوينارد، تسليط الضوء على العمل الحقيقي والعمل الرمزي من خلال تبرعه القائم على رؤية سامية بشركته لصالح قضية التغير المناخي، ومهّد بذلك الطريق للشركات التقدمية الأخرى إن اختارت السير على خطاه، ولكن هذا لن يحدث على الأرجح.

قدّمت العام الماضي خدماتي الاستشارية حول الاستدامة لشركة جديدة للوازم التخييم والرحلات وأدواتها، وبدأ رئيس الشركة التنفيذي الحوار بقول إنه يملك استراتيجية بالفعل تتمثل في السعي للحصول على شهادة اعتماد تسمى "الحياد المناخي" (Climate Neutral)، وإحدى الطرق التي سوف يتبعها هي شراء تعويضات الكربون كي تتمكن الشركة من ادعاء أنها حققت "صافي الانبعاثات الصفري".

قضيت الساعة التالية في شرح ما يجعل هذه الفكرة سيئة برأيي، أولاً، حصلت 300 شركة، وكثير منها في قطاع لوازم التخييم والرحلات وأدواتها، على شهادات اعتماد من مجموعة كلايمت نيوترال (Climate Neutral) (وهي واحدة من الجهات التي تمنح هذا النوع من شهادات الاعتماد)، وهذا الجهد عديم الجدوى من منظور التمايز بين العلامات التجارية. كما أن شراء تعويضات الكربون؛ أي أرصدة لخفض قدر محدد من الانبعاثات الكربونية من أجل التعويض عن الانبعاثات الناتجة في مكان آخر، هو أمر يثير جدلاً كبيراً من المنظور البيئي.

لماذا؟ خذ زراعة الأشجار مثلاً؛ من الصعوبة بمكان إثبات أن الأشجار التي تحميها ستعيش زمناً طويلاً، أو أنها ليست محمية بالقانون أساساً ويتم بيعها بصفة تعويضات الكربون على الرغم من ذلك، أو أن التعهد بالحفاظ عليها يضمن عدم قطع أشجار أخرى مجاورة بدلاً عنها. تضج وسائل الإعلام حالياً بما يقوض مصداقية التعويضات، بدءاً من مقالات شركتَي بلومبرغ (Bloomberg) وفاست كومباني (Fast Company) وصولاً إلى الممثل الكوميدي جون أوليفر الذي سحق مفهوم تعويضات الكربون في 24 دقيقة مذهلة من النقد الساخر في برنامجه التلفزيوني "لاست ويك تونايت" (Last Week Tonight) على قناة آتش بي أو (HBO)؛ نظراً لهذا الضغط الكبير تشكّل هذه الاستراتيجية تهديداً حقيقياً للعلامة التجارية.

ولذلك اقترحتُ على الرئيس التنفيذي للشركة ما يلي: لِمَ لا تستخدم الأموال التي كنت تعزم إنفاقها على تعويضات الكربون في أمر له تـأثير حقيقي حتى وإن لم يتح لك التباهي بتحقيق تعهدات ذات عناوين رنانة؟ يمكنك إجراء تعديلات على نوافذ مكاتب الشركة كي تتمكن من توفير الطاقة مثلاً أو استخدام المركبات الكهربائية بدلاً من المركبات العاملة على الوقود لتكون نموذجاً يحتذى به في القطاع والعالم أجمع، ثم يمكنك الاستفادة مما يبقى من وقت وطاقة لنشر مقال رأي في صحيفة وول ستريت جورنال حول ضرورة إقرار قانون المناخ في مجلس الشيوخ الأميركي. ستكون الرئيس التنفيذي الوحيد الذي يتخذ هذه الإجراءات في قطاعك!

كنت متفائلاً بهذا الاقتراح ولكن الرئيس التنفيذي للشركة قرر في نهاية المطاف السعي للحصول على شهادة اعتماد الحياد المناخي، كانت نيته حسنة ولكن بدا له أن اتخاذ أي إجراءات أخرى غير مألوف وينطوي على الخطورة.

مشكلة الحياد

أصبح تحديد أهداف الحياد المناخي ("سأقلع عن التدخين بحلول عام 2030!" مثلاً) ثم شراء تعويضات الكربون من أجل تحقيقها قاعدة في عالم الشركات المستدامة لدرجة أنك ستبدو فاسداً إن لم تلتزم بها، لكن العكس هو الصحيح في الواقع؛ فمن الصعوبة بمكان تحديد مفهوم "صافي الانبعاثات الصفري" أو "الحياد المناخي"، فضلاً عن تحقيقه بأي شكل من الأشكال، وهذا هو الخداع بعينه.

إن أجريت بحثاً على محرك جوجل عن العناوين الرئيسة الأخيرة لإثبات المفهوم فستزخر شاشة النتائج لديك بما يثبت خطأه: أكبر شركات العالم تواجه اتهامات بالمبالغة في الحديث عن إجراءاتها المعنية بالمناخ؛ حقيقة التعهدات المناخية في الشركات؛ الأهداف المناخية للشركات يهددها نظام أرصدة الطاقة المتجددة المعيب.

كيف وصلنا إلى هنا، حيث يمكن للشركات قطع وعود مناخية كبيرة وعندما تعجز عن الوفاء بها تسارع لتتدارك فشلها بشراء تعويضات الكربون الخادعة؟ أحد الأسباب هو أن إيقاف الانبعاثات الكربونية صعب للغاية، وهو ما يجب علينا فعله في المقام الأول. وهذا ما تقوله تجربتي الشخصية؛ بعد 20 عاماً من تطبيق استراتيجيات كفاءة الطاقة في أحد الفنادق التي تديرها شركتي في مدينة آسبن بولاية كولورادو، طرحت على المهندس السؤال التالي: "هل فاتنا شيء ما؟ هل ترى وسيلة مهمة أخرى لتوفير الطاقة لم نتبعها بعدُ؟"

فأجاب المهندس وهو يقلب قلم الرصاص بين أصابعه: "أجل، يمكنك وضع باب لموقف السيارات". بعد عقدين من العمل لم يخطر لنا أن نضع باباً على مدخل موقف السيارات المُدفأ المبني على سفح أحد جبال الروكيز على ارتفاع 8 آلاف قدم عن سطح البحر لمنع الهواء الدافئ من التسرب، لماذا؟ لأن الطاقة رخيصة جداً ولا تسجل في تقارير النتائج المالية (وضعنا باباً للموقف بالفعل في نهاية المطاف).

أسر الحياد الكربوني مخيلة الناس، وأحد أسباب ذلك هو أن مشكلة المناخ معقدة وهم لا يفهمونها بدرجة كافية لمعرفة ما يجب عليهم فعله لمعالجتها. وعلى الرغم من أن تحديد الأهداف وشراء تعويضات الكربون هو أشبه بجهود الاستدامة في خمسينيات القرن الماضي التي كنا نفترض أنها خيارات صحية ولكنها كانت تقتلنا في الحقيقة، فالحكم يبقى للفكر السائد. كما أن تعويضات الكربون تبدو منطقية، فكيف يمكن ألا نستفيد من زراعة الأشجار أو غيرها من التدابير، كجهود تخفيض غاز الميثان في مكبات النفايات مثلاً؟ ولكن التحليل الذي أجرته مؤسسة نمذجة الانبعاثات، كلايمت إنتراكتف (Climate Interactive) يوضح أنه حتى وإن تمكنا من توزيع ما أمكن من تعويضات الكربون الطبيعية في العالم، فلن نتمكن من إبقاء مستوى الاحتباس الحراري أدنى من مستواه الكارثي الحالي إذا لم نتمكن من إيقاف انبعاثات الغازات الدفيئة. (أصل هنا إلى المأخذ الوحيد لدي على نهج شركة باتاغونيا، وهو تفاوت تركيزها على الحلول المناخية القائمة على الطبيعة. نحن بحاجة إليها بالتأكيد ولكن بناء على النماذج يجب علينا أن نوقف الانبعاثات أولاً).

حاول مجتمع المؤسسات غير الربحية المساعدة في تحسين عملية تحديد الأهداف المؤسسية عن طريق نهج "الأهداف القائمة على العلم" الذي يسعى لتقدير "الحصة العادلة" للشركة من تخفيض الانبعاثات. ولكن بغضّ النظر عن أن الأهداف القائمة على العلم تستعيض عن الأهداف غير الواقعية بأهداف غير واقعية بدرجة أكبر، فالمشكلة الحقيقية هي أن "الحصة العادلة" لا تعني شيئاً في مبادرة طوعية بالكامل. واليوم، يمكن القول إن الحصة العادلة من العمل المناخي للشركة التي تملك حافزاً ذاتياً قوياً تتمثل في إنهاء جميع انبعاثات الكربون في العالم لأننا لا نكاد نرى أي جهة أخرى تهتم أو تتخذ إجراءات فعلية، وهذا ما تحاول شركة باتاغونيا فعله.

كيف نكسر هذا النمط؟

فلنبدأ بالسؤال عما تريد الشركات تحقيقه فعلاً فيما يخصّ "الاستدامة"، أولاً، تحتاج الشركات إلى التمايز بين العلامات التجارية الذي يضمن لها اجتذاب الموظفين واستبقاءهم وبناء سمعة جيدة في الصحافة ورفع سوية ولاء عملائها لها، ولكن قد يكون هذا التمايز مفيداً للبيئة أيضاً؛ إذا تم تقدير شركة جيدة بحق على عملها المناخي فستتفوق في أدائها على الشركات الأخرى وترغمها على التغيير وتثقف المستهلكين، وحتى إنها ستتمكن من إخراج الشركات المسيئة لهذه القضية من مجال الأعمال أيضاً، لذا إن لم يكن عمل وسائل الإعلام وحملات ترويج العلامات التجارية والصحافة قائم على تلميع صورة الشركات فيما يتعلق بالتحول الأخضر، فستكون ذات أهمية كبيرة من الناحية البيئية بقدر أهميتها من الناحية المالية، ولكن كي تكون الصحافة جيدة بحق يجب أن تكون مختلفة وأن تخرج عن مسار القطيع.

ثانياً، من الناحية النظرية ترغب الشركات فعلاً في أن تتمكن من معالجة مشكلة المناخ لأنه بات من المؤكد أن الاحتباس الحراري يزعزع الأنظمة الاقتصادية العالمية (ابحث على محرك البحث جوجل عن "فيضان الباكستان وأزمة المياه في ميسيسيبي")، ولذا لا بد من معالجته.

يعود بنا هذا إلى الحلّ الوحيد القابل للتطبيق بالنسبة للشركات التي تهتم بالقضايا المناخية حقاً وترغب في التميز وتتمتع بسلطة عامة كبيرة تتيح لها دعم السياسات التي تحفّز التغيير على نطاق واسع؛ يعدّ قانون الحدّ من التضخم الذي تم تمريره مؤخراً أهم أجزاء التشريعات المعنية بالمناخ في التاريخ، فهو يضخّ مليارات الدولارات للحلول المناخية ويؤكد مكانة الولايات المتحدة القيادية، ما يشكل عامل ضغط على بقية الدول للتحرك. تم تمرير مشروع القانون نتيجة للضغط الذي يمارسه الحراك الاجتماعي المتمثل في المواطنين والمنظمات غير الحكومية وقادة التوجهات المناخية في مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأميركيَين وأفراد النخبة مثل بيل غيتس.

إلا أن هذا الحراك كان ناقصاً بوضوح بسبب غياب بعض أقوى الكيانات في البلاد؛ ألا وهي الشركات الكبرى، في الواقع كانت شركات وول مارت (Walmart) وسيلز فورس (Salesforce) وكونستليشن إنرجي (Constellation Energy) هي الوحيدة التي اتخذت موقفاً مؤيداً لمشروع القانون (انضمت شركة مايكروسوفت إليها أخيراً). لكن بعض الشركات تعترض مدعية أنها تعمل فيما "وراء الكواليس"، إن كان هذا صحيحاً فهو ليس بنفس أهمية المناصرة العامة؛ إذ يتمثل جزء كبير من متطلبات حل مشكلات التغير المناخي في تغيير القواعد الاجتماعية بدءاً من إخراج السياسات المتعلقة بالمناخ من خانة المواضيع المحظورة.

كلما فكرنا في هذه الاستراتيجية المتمثلة في استثمار قوة الشركات لإحداث التغييرات المنهجية نرى أن أبعادها تزداد اتساعاً؛ يمكن للشركات تحويل عملائها إلى أسلحة تعزز قوتها في هذه المعركة (تماماً كما فعلت شركة باتاغونيا منذ زمن طويل)، ويمكنها الضغط على المجموعات التجارية التي تبدي علاقات مسيئة، كما تعمل غرفة التجارة معها عندما تتبع سلوكيات تضر بالمناخ تتضارب مع أهداف أعضائها، ويمكنها إنفاق أموال حشد التأييد على قضايا المناخ بدلاً من القضايا التجارية، ثم يمكنها استخدام هذه الأموال في تنفيذ إجراءات ملموسة مثل تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة ونمذجة الحلول وتطوير الخبرات المجتمعية بدلاً من شراء تعويضات الكربون، وهذا يعني القيام بإجراءات مثل تدفئة أبنية المكاتب بالكهرباء بدلاً من الغاز، أو بناء مساكن العمال في مناطق قريبة من وسائل النقل الجماعي. باب المساعي المناخية مفتوح على مصراعيه لمن يرغبون في تولّي القيادة، ما عليهم سوى الدخول والمشاركة.

أقتبس عن ونستون تشرشل مقولته الساخرة الشهيرة: "ثق دائماً بأن الأميركيين سيتخذون الإجراء الصحيح بعد أن يجربوا كل شيء آخر"؛ و"كل شيء آخر" هنا مختصر في الحياد المناخي والأهداف المتعلقة بانبعاثات الكربون وتعويضات الكربون، ولعل الوقت قد حان لاتخاذ الإجراء الصحيح.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي