من الصعب أن يعيش العالم في القرن الحادي والعشرين ولا يزال التمييز العنصري حقيقة تهدد التماسك الاجتماعي في عددٍ من بلدانه، وأن يكون التعصب والانقسام هما القاعدة، والتسامح والحوار استثناءً.
تستمر مظاهر التمييز العنصري في التغلغل داخل المؤسسات والهياكل الاجتماعية وأنماط الحياة المختلفة لتوّلد المزيد من التفاوت والمعاناة للإفريقيين والمنحدرين من أصل إفريقي، والشعوب الأصلية والمهاجرين، والأقليات العرقية والدينية، على سبيل المثال، شهدنا خلال السنوات الماضية الجدار الحدودي مع المكسيك الذي أقر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بناءه لمنع عبور اللاجئين، ومقتل الأميركي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد الشرطة، وفرض مجالس بلديات عدة في فرنسا حظراً على ملابس السباحة التي تغطي الجسم بالكامل "البوركيني"، وتسجيل 3,000 ادعاء بارتكاب جرائم كراهية في بريطانيا مرتبطة بالتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، والاضطهاد المُمنهج الذي تعرض له المنتمون إلى أقلية الروهينغا المسلمة في بلدهم الأصلي ميانمار. فكيف تؤثر مثل هذه الممارسات على التماسك الاجتماعي؟
فقر وبطالة وعُزلة تهدد التماسك الاجتماعي
بحسب الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، يقصد بالتمييز العنصري، "أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم على أساس العِرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها".
بهذا المعنى، يرتبط التمييز العنصري بآثار اجتماعية واقتصادية تتمثل في زيادة معدلات الفقر والبطالة، والتفاوت في مستوى الرعاية الصحية، والإقصاء وتهميش فئات معينة بما يقوّض مسار التنمية، ويهدد التماسك الاجتماعي ويؤدي في نهاية المطاف إلى انتشار الجرائم والعنف، والصراعات الحروب.
ويمكن فهم العلاقة بين التمييز العنصري والتماسك الاجتماعي، من خلال التعريف الذي طرحته الرئيسة المؤسِّسة لشبكات أبحاث السياسات الكندية جوديث ماكسويل (Judith. Maxwell) عام 1996 لمصطلح التماسك الاجتماعي، "بأنه ينطوي على بناء قيم مشتركة، والحد من التفاوتات في الثروة والدخل، وتعزيز شعور الانتماء لدى أفراد المجتمع عبر انخراطهم في مشروع مشترك ومواجهة تحديات مشتركة".
عندما تُحرَم فئة معينة من الوصول العادل إلى التعليم والصحة والأمن والسلامة، سيفقد المجتمع جوهر العمل المشترك من أجل التنمية المستدامة، فالتفاوت والتمييز العنصري وإقصاء الفئات المهمشة يقضي على قيم التسامح والحوار والتقبّل التي تربط بين المجموعات المختلفة، كما أنها تؤدي إلى ضياع العديد من الفرص الاقتصادية، إذ تقدّر الخسائر الناجمة عن التفاوت بين الجنسين بنحو 160.2 تريليون دولار.
ومن الطبيعي أن يتدنى مستوى التقدير الذاتي لدى الأشخاص عند تعرضهم للتمييز العنصري، فعندما يواجهون مضايقات واضطهاد في حياتهم سيشعرون بأن قدراتهم محدودة وبأنهم أقل جدارة مما هم عليه، ليؤثر ذلك على صحتيهم الجسدية والنفسية، إذ غالباً ما يعاني اللاجئون الذين تعرضوا بشدة للعنف من اضطراب ما بعد الصدمة بمعدلات أعلى من غيرهم.
والنتيجة أن الأشخاص الذي يتعرضون لممارسات عنصرية لن يسعوا أبداً إلى تحسين وضعهم، ومن المرجح أن يصبحوا عدائيين في محاولة لمحاربة الظلم الواقع عليهم، لأنهم فقدوا الامتيازات والفرص التي تمكّنهم من الإسهام في تنمية المجتمع، بالإضافة إلى أن الحدّ من قدرة مجموعة معينة على المشاركة الفاعلة ستقوّض قدرة المجموعات الأخرى على التواصل والحوار ما يؤدي إلى الركود الاجتماعي واستمرار دورة العنصرية عبر الأجيال المتلاحقة.
التمييز الخفي مبعث للقلق
قد تبدو علامات التمييز العنصري واضحة للعيان، مثل معاناة عائلات تنتمي إلى عرق أو لون معين من الفقر بسبب التحيز في مكان العمل الذي يبقيهم في وظائف متدنية الأجر، أو تعرّض مجموعات عرقية لملاحقات قانونية غير عادلة، أو عدم تمكّن من ينتمي إلى خلفية معينة من الوصول العادل للتعليم.
هذه الحالات العنصرية يسهل رفضها والتنديد بها، لكن ما يجب القلق بشأنه هو التمييز الخفي أو المستتر الذي ينطوي على افتراضات مجحفة وغير منطقية، وتوجيه رسائل مبطنة إلى شريحة اجتماعية بعينها، وتبنّي صورة نمطية خاطئة عن الآخرين.
وبحسب دراسة صادرة عن منظمة العمل الدولية، فإن الكثير من أشكال التمييز الخفي لا يزال موجوداً في سوق العمل، وعدم التصدي له لا يؤدي فقط إلى هدر المواهب والموارد البشرية، بل إلى زعزعة التماسك الاجتماعي الوطني والاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي أيضاً.
حوار الثقافات بوابة الحد من التمييز العنصري
عند النظر في تأثير التمييز العنصري على التماسك الاجتماعي، تبرز تساؤلات حول إمكانية خلق مجتمعات تتسم بالانسجام بين المجموعات السكانية المختلفة، وقبول التعددية في الثقافة والعادات والتقاليد.
والجواب: نعم، يمكن تحقيق ذلك من خلال تعزيز الحوار الثقافي الذي يمهد إلى تقبّل الاختلافات اللغوية والعرقية والإثنية والدينية والجغرافية، وذلك من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع وجعله أكثر انفتاحاً وبالتالي يصبح العالم مكاناً أفضل للجميع.
كما يمكن للمراكز البحثية والمؤسسات التعليمية أن تؤدي دوراً أساسياً في التوعية بأهمية الحوار ونشر قيم التسامح والسلم والعيش المشترك، وهذا الدور الذي ينوط به مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني في السعودية.
التمييز العنصري ليس ظاهرة جديدة، ونحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إبرام عقد اجتماعي جديد قائم على الشمول والاستدامة والتعددية في الثقافات والأديان والأعراق حتى نتمكن من إتاحة الفرص والخدمات بالتساوي بين الجميع.