ثمة تقارب بين حركات المناخ وحركات الصحة النفسية، وعلى العاملين في قطاع التأثير الاجتماعي الانتباه لهذا التقارب. تتسبب الآثار الحادة الخاطفة للكوارث المناخية (الأعاصير الفائقة الشدة، وموجات الحرارة الشديدة، والفيضانات، وما إلى ذلك) وكذلك التغيرات البيئية البطيئة (مثل ارتفاع مستوى سطح البحر، وذوبان الجليد، وما إلى ذلك) في حدوث ألم وصدمات مضاعفة على الصعيد العالمي تدفع الناس إلى الشعور بالقلق العميق إزاء المستقبل ولا سيما الشباب منهم. كما يشعر الكثير من الناس بالضيق في أثناء معالجة المعطيات المتعلقة بالخسارة البيئية وفقدان التنوع البيولوجي على نطاق واسع.
نعرّض عالمنا وصحة الناس النفسية ورفاههم لضغوط لا يمكن التغلب عليها إذا تغافلنا عن تنسيق استجابات التغير المناخي والصحة النفسية وتكاملها، وذلك من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات اضطرابات الصحة النفسية والروح المعنوية والضغط على أنظمة الاستجابة. وغالباً يكون توصيف العلاقة بين هاتين المشكلتين المعقدتين صعباً لأن المفاعيل الحقيقية لأزمات الصحة النفسية والمناخ لا يمكن تمييز بعضها عن بعض.
وفي الوقت الذي تحظى فيه حركات المناخ والصحة النفسية باهتمام متزايد على نحو منفصل، تعطي مجموعة صغيرة من القادة العاملين في هذه الحركات الأولوية لتكامل الصحة النفسية ومناصرة قضية المناخ بوصفهما جهداً موحداً. وتبذل الأطراف الفاعلة مثل علماء المناخ وعلماء النفس جهوداً ثنائية الاتجاه تخدم القضيتين كلتيهما. والأهم من ذلك أنهم يرون أن هاتين الأزمتين العالميتين مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً، ما يسلط الضوء على أن الفاعلين في هذه الحركات يجب أن يدمجوا مجالات عملهم بدلاً من العمل على نحو منفرد.
وضرورة هذا الدمج واضحة بسبب التأثير والتهديد الجماعي للتغير المناخي. إذ يواجه العاملون في التأثير الاجتماعي جميعهم تحديات متشابهة، سواء في تعاملهم مع قضايا مثل الإسكان أو الرعاية الصحية أو الفقر. وترتبط أوجه عدم المساواة غالباً ارتباطاً مباشراً بالقضايا المتعلقة بالصحة النفسية، إذ تؤثر المشكلات مثل التعرض للتمييز أو الصدمات في قدرتنا على تحقيق الرفاهة وتفاقم انتشار الاكتئاب والقلق. وبالمثل، فإن الآثار الضارة لتغير المناخ على الصحة النفسية وقيمة الارتباط بالطبيعة في دعم الرفاهة أسباب تضيف التعقيد إلى هذه المشكلات.
نواجه نحن العاملين في قطاع التأثير الاجتماعي في المجالات جميعها تحديات شخصية لأننا نكرس وقتنا وطاقتنا لمتابعة مظاهر عدم المساواة في العالم والتخفيف من حدتها، إلى جانب إعطائنا الأولوية للتثقيف حول الصحة النفسية وتدخلاتها في مبادراتنا. وترددت في السنوات الأخيرة دعوات متكررة للاهتمام بالعناية بالذات في مواجهة الأعمال المرهقة والمضنية لا سيما في ظل جائحة كوفيد-19.
وما زلنا نتساءل في هذه اللحظات الحرجة من التاريخ كيف سننجح في هذا العمل الصعب بعيداً عن النصائح المبتذلة حول العناية بالذات. وكيف نعزز منظومة مستدامة للمناصرة والعمل والتغيير؟
تحويل العواطف إلى أفعال
ردود الفعل العاطفية للتغير المناخي (مثل القلق والحزن والغضب والإحباط، وما شابه) حقيقية ومشروعة لأن تهديدات التغير المناخي حقيقية وتؤثر بالفعل سلباً على حياة العديد من الناس حول العالم. وللعواطف الناجمة عن تغير المناخ دور أيضاً. إذ تظهر الأدلة التراكمية أن العواطف الناجمة عن تغير المناخ مرتبطة بزيادة المشاركة في العمل المناخي (مثل الحد من البصمة الكربونية الفردية، والمشاركة في النشاطات المناخية، ودعم سياسات المناخ). على سبيل المثال، يستجيب الشباب في العديد من البلدان للدعوة إلى مواجهة التغير المناخي، وذلك بتغيير أنظمتهم الغذائية وأنماط حياتهم، ودعوة الحكومات إلى التحرك، ومحاسبة الشركات الخاصة، لأنهم يشعرون بالقلق والخوف على مستقبلهم.
ويواجه العاملون في قطاع التأثير الاجتماعي الذين يناضلون في سبيل قضايا مهمة أخرى صعوبات مماثلة في أثناء تعاملهم مع البعد العاطفي للقضايا التي يهتمون بها. على العاملين الاجتماعيين إتاحة المجال للتحقق من صحة شعورهم بعواطف معقدة ناجمة عن عملهم ومعالجتها بدلاً من تجنب معرفة أسباب تأثرهم بها شخصياً هم وزملائهم أو تجاهل هذه الأسباب. وبذلك نستطيع حماية الناس من الشعور بالخمول أو الإرهاق وخلق طرائق لإعادة إشراك الناس في العمل.
على سبيل المثال، تستخدم شبكة كلايميت مينتال هيلث نيتورك (Climate Mental Health Network)، وهي مؤسسة غير ربحية تأسست في عام 2021 لمعالجة تبعات التغير المناخي على الصحة النفسية، وسائل إعلام إبداعية مثل الأفلام ومدونات صوتية التي يقودها الجيل زد، وتأملات صوتية، لتبادل الخبرات الحية، وإبراز شعور الشباب حيال التغير المناخي، وتوثيق معنى النضال من أجل الحق في كوكب صالح للحياة. ترجمت الشبكة هذه القصص إلى لغات متعددة وتعرضها حالياً في مجتمعات عدة في جميع أنحاء العالم لإلهام الأمل والعمل النشط. ومن خلال إظهار التجارب العاطفية للمناصرين، تتوفر مساحة للتعبير الصادق ومداخل للمشاركات الجديدة والمستمرة وبخاصة للشباب. وبوسع قادة التأثير الاجتماعي الآخرين تكرار رواية القصص وحملات الاتصالات الإبداعية المتشابهة للتعامل مع العواطف لمعالجة المشكلات الكبيرة.
دمج الممارسات الإبداعية والتجديدية
تستنزف مراقبة الأنظمة الظالمة ومحاربتها في العالم المعنويات وتؤثر سلباً في الحالة النفسية. ومن المتعب والمرهق أن تتعرض باستمرار لأشكال مختلفة من المعاناة في العالم، وفي سياق مناصرة حركات المناخ التعرض للطبيعة الكارثية لتغير المناخ الذي يسببه الإنسان.
تعمل حركة الصحة النفسية المتعلقة بالمناخ على خلق مساحة للتكامل الفني والروحي في هذه العملية حتى يتمكن المختصون من مختلف الثقافات من شفاء الجروح الداخلية والخارجية المتراكمة في سبيل عالم تسوده العدالة. على سبيل المثال، بدأت المؤسسات التي يقودها الشباب ودعاة المناخ في الفلبين استخدام الأساليب الفنية والروحية للتعبير عن مخاوفهم والدعوة ضد التغير المناخي، مثل مهرجان بينتافلوريس (Pintaflores) السنوي. وفي عام 2018، قامت مجموعات دينية (قسيسون ومواطنون كاثوليك) ومجموعات فنانين (مثل كانلاون ثياتر غيلد (Kanlaon Theatre Guild)، وكاغايون دانس تروب (Kagayon Dance Troupe) التابعة لكلية كوليجيو سان أوغستين في مدينة باكولود (Colegio San Agustin-Bacolod)، وماسكارا ثياتر أنسامبل (MasKara Theater Ensemble) بمزج الأجواء الروحية والفنون المسرحية العرقية الفيسايان، وعرضت أزياء تقليدية ملونة ورقصات وأهازيج من حقبة ما قبل العهد الإسباني، ليس للاحتفال بعيد القديس الراعي سان كارلوس بوروميو فحسب بل للتعبير بقوة عن دعوتهم إلى حماية الناس والكائنات الحية الأخرى والكوكب وسط أزمة المناخ. ويستمر هذا الحدث السنوي في زيادة الوعي بتاريخ الأسلاف والارتباط بالطبيعة بالإضافة إلى تنشيط الاتصال الروحي بين الناس.
مثال آخر هو جهود الحفاظ على البيئة التي يبذلها المقيمون في دير بينشين (Benchen Monastery) في نيبال حيث زرعوا 1,000 شجرة في جامبالينغ بوكارا (Jampaling Pokhara) وهو مخيم للاجئين التبتيين، لإحياء ذكرى زعيمهم الروحي كارمابا السابع عشر، وهو مناصر للبيئة أيضاً. ولا تساعد هذه الجهود على تقليل الكربون في الغلاف الجوي في المدى البعيد فحسب، بل تحفز الناس على المشاركة في نشاطات مستدامة كتعبير عن جانبهم الروحي.
وبما أننا مرتبطون أكثر من ذي قبل بوصفنا مجتمعاً عالمياً، يمكننا جميعاً العمل لتعلم طرق متنوعة لمعالجة تعقيدات العالم ونشرها. وتعد الممارسات المتنوعة للعناية بالذات وبالآخرين مهمة لجميع القضايا الاجتماعية ويمكن أن تكون أدوات لأي مختص اجتماعي يبحث في أشكال الدعم التقليدي (علم النفس والعلاج النفسي) وغير التقليدي (حلقات الشفاء والشفاء الثقافي) في مجتمعاتهم.
إتاحة الفرصة للتأثير العابر للأجيال
صحيح أن الجيل الحالي يشعر أكثر من غيره بالتأثيرات المناخية، لكن هذا العمل يسعى لحماية مستقبل الناس جميعهم. في قضايا المناخ، تستلزم التهديدات البعيدة المدى الواضحة لسلامة الإنسان والعالم التخطيط في المدى الطويل والعمل من أجل إحداث تأثير ملموس بعد مئات السنين من الآن. ندعو العاملين في القطاعات العالقة في دورات المنح والتأثير في المدى القريب لبدء استكشاف الأبعاد البعيدة المدى لعمل التغيير الاجتماعي العابر للأجيال وأنماط العلاقات المطلوبة للحفاظ على هذه التوجهات.
يعتمد العمل من أجل أجيال المستقبل على بناء أنظمة مجتمعية مستدامة ومجتمعات شاملة ومتنوعة ومترابطة تعطي أهمية لسلامة الكوكب وصحة الناس النفسية ورفاههم. نريد حقاً أن نرى المزيد من القيم التي تركز على المجتمع وأهمية العلاقات وتعدد الأجيال التي توجه السياسات والبرامج اليوم التي تحمل أيضاً رؤية واضحة وشاملة للمستقبل. تجسد المقاهي المناخية مثالاً على ذلك، وهي نموذج أُحدث لتوفير مساحة آمنة وحاضنة وعطوفة للأفراد الذين يحاولون معالجة المعطيات المعقدة للتغير المناخي. وفّرت مؤسسات مثل مؤسسة فورس أوف نيتشر (Force of Nature)، وهي مجموعة يقودها الشباب ومقرها المملكة المتحدة، مصادر حول كيفية إدارة المقاهي المناخية في المجتمعات في جميع أنحاء العالم، ما أتاح بالفعل افتتاح أكثر من 150 مقهى في 46 دولة. هذا النموذج المتعدد الأجيال مفتوح المصدر ويعتمد على التعاطف، ويجمع الناس من مختلف الفئات العمرية معاً لمعالجة المشاعر المعقدة المتعلقة بتغير المناخ في الفضاءات المجتمعية الداعمة. ويمكن استخدامه في كل مكان، لا سيما في الأماكن ذات الموارد أو البنية التحتية المحدودة لمعالجة هذه المشكلات.
تعد المنتديات العامة للحوار وتبادل الخبرات الحية وسيلة قوية لسد الفجوات بين الأجيال، وهي ضرورية بالنسبة إلينا لرؤية تغيير طويل الأجل في مختلف القضايا التي نهتم بها. ويمكن دمج فرص التواصل بين الأجيال والشعور بالمسؤولية في المدارس والمجتمعات المحلية وبرامج التغيير الاجتماعي الأخرى للمساعدة في سد الفجوات وتشكيل مسؤولية مشتركة للأجيال الحالية والمستقبلية.
ليست الدروس المذكورة في هذه المقالة سوى عدد قليل من الأفكار المتنوعة التي يمكن استخلاصها من حركات التصدي للتغير المناخي وحركات الصحة النفسية. فمن التغلب على اليأس إلى العمل إلى سد الفجوات بين الأجيال، بوسع المناصرين صون رفاههم والحفاظ عليه من خلال عملهم جزءاً من مجتمع داعم يمثل مورداً اجتماعياً وعاطفياً. يدفعنا اقتراب الموعد النهائي لإيقاف الاحتباس الحراري إلى تعلم الكثير من العاملين على الخطوط الأمامية لهذه القضايا. وسيساعدنا ذلك على معالجة أهم القضايا الاجتماعية في عصرنا وعلى الابتعاد عن الأعراف والثقافات السامة التي لا تعطي الأولوية للعناية بأنفسنا وبالآخرين.
وبصفتنا شبكة من العاملي في مجالات قضايا عدة، نأمل أن تساعد هذه الدروس الناس على الانخراط في إجراءات تحويلية وإبداعية بعيدة المدى تكسر الحدود بين القطاعات والتخصصات لتحقيق تغيير إيجابي في العالم. لا يستلزم إنشاء عالم أفضل للجميع الالتزام بمناصرة قضايانا فحسب، بل الاعتراف أيضاً بأنشطة مجموعات التأثير الاجتماعي الأخرى واستخلاص الرؤى من تجاربهم الفريدة وأفضل ممارساتهم لدفع أشكال جديدة من التغيير.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.