ماذا لو أُزيحت الحدود الجغرافية؟ 3 فوائد قيّمة في التعلّم من تجارب عابرة للحدود

الحدود
shutterstock.com/Corona Borealis Studio
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من الصعب تخيل عالم بلا حدود، وهذه هي حالة البشرية منذ فجر التاريخ. صحيح أن الحدود الطبيعية دائماً موجودة مثل سلاسل الجبال والمسطحات المائية التي تقيّد السفر، لكن الحدود السياسية الرسمية التي تقسم البلدان ظاهرة حديثة. في الحقيقة، أُقيمت الحدود الدولية لأكثر من نصف دول العالم في القرن العشرين. ولإقامة الحدود تاريخ مؤسف يتسم بالصراع والاستعمار والحروب.

تخلق الحدود حواجز ضارة ولا داعي إليها، ليس بين الشعوب والموارد فحسب، بل بين الأفكار أيضاً.

فعلى سبيل المثال، توصلت دراسة استقصائية أجرتها مؤسسة كانديد (Candid) في عام 2023 للعاملين في قطاع العمل الخيري أن 66% من الجهات المانحة الأميركية ليس لديها أدنى فكرة عن الأفكار العالمية خارج الولايات المتحدة ولم تستفد منها. نظراً للعدد الهائل من المشكلات المترابطة التي يواجهها العالم، يجب أن تثير هذه النسبة المرتفعة قلق الجميع،

وهي تقلقني على نحو خاص. وبصفتي امرأة متعددة الأعراق وعالمة أنثروبولوجيا ذات خبرة ميدانية، تجاوزت الحدود متعمدة في كل جانب من جوانب حياتي، من الديكور المنزلي إلى الطعام إلى قيمي الخاصة. بسبب خبرتي في مجال الصحة العالمية التي تمتد لأكثر من 20 عاماً، وبصفتي المسؤولة عن إدارة استراتيجيات التعلم العالمية في مؤسسة روبرت وود جونسون Robert Wood Johnson Foundation (RWJF)) أكبر مؤسسة للصحة والرعاية الصحية في الولايات المتحدة، فقد شهدت على نحو مباشر كيف يمكن للأفكار التي نمت في مكان أن تحسّن الرعاية الصحة في مكان آخر. يمثل العاملون الصحيون المجتمعيون المثال الأكثر تأثيراً، إذ بات مفهوم الأطباء الحفاة الذي نشأ في الصين عنصراً أساسياً في معظم الأنظمة الصحية في جميع أنحاء العالم.

للأسف، النتائج الصحية غير المتوازنة ليست حالة فريدة خاصة في الولايات المتحدة فحسب. يعالَج العديد من الأزمات الصحية العالمية المبنية على غياب المساواة في عزلة في القارات كلها. وكما نعلم، وكما أكدت الدراسات، تحرز مجتمعات وبلدان تقدماً أكبر من غيرها في معالجة تلك الأزمات. وتتوزع المشكلات والحلول على نحو غير منصف.

ثمة أسباب عدة لعدم البحث عن الأفكار أو نشرها بين الدول. نحن نعلم أن ثمة تحيزاً تجاه بلد المنشأ، وأننا نحكم على جودة الفكرة بناءً على مواقفنا من البلد الذي أتت منه. إذ يقول لنا الصحفيون إن القصص التي يكتبونها حول القضايا المحلية تجذب قراء أكثر من التي تدور حول القضايا العالمية، وهذا شكل من أشكال التحيز للأقرب، إذ نفضل غريزياً الأشخاص و(أو) الأفكار الأقرب إلينا مكانياً. ولدينا أنظمة معرفية تركز على اللغة الإنجليزية وتنظر في الغالب إلى الدول الغربية ذات الدخل المرتفع على أنها دول تتمتع بالمصداقية.

ومهما كان السبب، يجب أن ندرك أنه يمكن أن يتعلم بعضنا من بعض الكثير بخصوص حل مشكلات العالم الأكثر إلحاحاً والتصرف وفقاً لذلك.

“ما وراء الحدود” سلسلة مقالات تعرض أفكاراً من جميع أنحاء العالم من الممكن أن تفيد الجهود المبذولة لرفع مستوى الصحة والرفاهية في مجتمعك. من أستراليا إلى رواندا، ومن بوغوتا إلى نيوزيلندا، ومن السويد إلى جنوب إفريقيا، نرى مجتمعات تحرز تقدماً في معالجة المشكلات نفسها التي تواجه المجتمعات في الولايات المتحدة ودول أخرى. من الضروري أن نتعلم من تلك المجتمعات في أسرع وقت ممكن.

لن تبحث هذه السلسلة في الحلول الواعدة فحسب، بل في العوائق التي تعرقل التعلم العالمي والتي تمنعنا من النظر إلى أبعد من شواطئنا في كثير من الأحيان. ستبرز هذه السلسلة وجهات نظر وأصوات من البلدان والثقافات المهمَّشة تاريخياً في نظام المعرفة الحالي للصحة والعلوم (أي النظم والقواعد التي تحدد من يقرر ما المعرفة التي يجب تبادلها وما التي يجب عدم تبادلها، ومع مَن).

فيما يلي 3 أسباب رئيسية للبحث ما وراء حدودنا، مع بعض الأمثلة التوضيحية من عدد قليل من مؤلفي المقالات القادمة.

الممارسة العملية

الأفكار الجيدة يجب ألا تحدّها الحدود. ففي حال كنت تواجه صعوبات لحل مشكلة في مجتمعك، ليس عليك أن تلتزم فقط بالحلول التي تُقترح من داخل بلدك. هل يجب أن نحرم أطفالنا من روضة الأطفال لأن فكرتها أتت من ألمانيا، ونتجاهل العناية بالفم لأن فرشاة الأسنان اخترعت في الصين؟ بالطبع لا.

نحن ندرك أنه لا يتوجب علينا نقل الأفكار كما هي من بلد إلى آخر، فهناك اختلافات ثقافية وسياسية ومجتمعية كبيرة بين البلدان قد تحدُّ من مدى ملاءمتها. لكن يمكننا دائماً نقل المبادئ والممارسات على نحو جيد ويمكن أن تكون مصدر إلهام. هذه هي الفرضية التي تستند إليها سلسلة ندوات “أُعيد تصميمه في أميركا” (Reimagined in America) التي تقيمها مؤسسة روبرت وود جونسون على الإنترنت، حيث ندير المحادثات والمناقشات حول الأفكار الناجحة خارج الولايات المتحدة التي تخص قضايا تتراوح من التغيير الشامل للرعاية الصحية إلى تعزيز سلطة المجتمع إلى النهوض بالعدالة المناخية. أخذتنا رغبتنا في التعلم إلى جميع أنحاء العالم، لأن منشأ الفكرة لا يهم بالنسبة إلى المجتمع الذي يتطلع إلى الحد من العنف أو الأم التي تصلي ليتمتع طفلها بصحة جيدة.

تعمل الدكتورة أغنيس بيناغواهو طبيبة أطفال في رواندا التي انخفض معدل وفيات الأمهات فيها بنسبة 60%. وتشير في مقالتها القادمة إلى مدى أهمية حل المشكلة التي تواجهها الأمهات الحوامل وليس ما نفترضه نحن أنه المشكلة. يستدعي ذلك منا المشاركة بتواضع والإصغاء بعناية. تؤكد الدكتورة بيناغواهو مثلاً أهمية تلبية احتياجات النقل الضرورية لضمان توفير الرعاية الصحية. يجب أن تكون خبرتها محطَّ اهتمام أي شخص يواجه صعوبات في معالجة النتائج المتردية لرعاية الأمهات للحوامل وحديثات الولادة في مجتمعه.

وبالمثل ستوثّق مراسلة القضايا العِرقية والسياسات في شركة فوكس ميديا الإعلامية (Vox Media) فابيولا سينيس في مقالة قادمة رحلتها إلى نيوزيلندا للتعرف على خبرة شعب الماوري في كشف الحقيقة والشفاء والتعويض وما هي الدول التي يمكن أن تتعلم من أساليبه في الإصلاح والتعويض.

الانضمام إلى منظومة

في كثير من الأحيان نشعر أننا الوحيدون الذين يواجهون الصعوبات في حل مشكلة ما، مثل العمل على توفير الرعاية الصحية الشاملة، أو الشفاء من الصدمات التي يسببها التمييز العرقي، أو تحسين نتائج الرعاية الصحية للأمهات. يساعدنا التعلم العالمي على إدراك أننا لسنا وحدنا. في الأيام الأولى لجائحة كوفيد-19، لم تتوافر أي حلول. لكننا لمسنا التضامن عبر مواجهتنا للصعوبات جنباً إلى جنب، وبوصفنا مجتمعاً عالمياً حددنا المشكلات وعثرنا على الحلول، ولا ينحصر الأمر باللقاح بل في سُبل منع انتقال العدوى ودعم العاملين في القطاعات الأساسية أيضاً. فكم خفف عنا مشاهدة الإيطاليين يغنون في شرفاتهم؟

التعليم بكل أشكاله يستند إلى العلاقات والروابط، لذلك ندّرس في الجامعات وغيرها من مؤسسات التعليم العالي. ولذلك ننضم إلى مؤسسات ونحضر مؤتمرات ونتطوع في مجموعات العمل. لحسن الحظ، لسنا ملزمين بمحيطنا المباشر لتشكيل مجتمع للتعلم العالمي. وذلك بفضل التكنولوجيا التي تربطنا والقدرة على السفر بحرية.

على سبيل المثال، تقود مهرناز غوجة تنفيذ العمل المناخي في شبكة سي فورتي سيتيز (C40 Cities)، وهي شبكة تضم ما يقرب من 100 مدينة رائدة على مستوى العالم باتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة أزمة المناخ. ستتحدث غوجة في مقالتها القادمة كيف استفادت هذه الشبكة من منظومتها للمساعدة في معالجة المشكلات الناجمة عن الجائحة. كما سيتحدث أحد أكبر الباحثين في مركز التنمية المستدامة في معهد بروكينغز (Brookings Institution) توني بيبا، كيف ساعدت العلاقات العالمية على تقديم حلول متعددة التخصصات للمشكلات المحلية وأسهمت في التقدم العالمي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وستوضح كلتا التجربتين أهمية أن تشكل جزءاً من مجتمع متنامٍ من المتعلمين العالميين الذين يمكن الاعتماد عليهم للحصول على المشورة والإلهام في أوقات الحاجة والفرص.

الواجب أخلاقي

أخيراً وربما الأهم، ثمة واجب أخلاقي للانفتاح على الأفكار الجديدة من جميع أنحاء العالم والتشكيك في أصول الأفكار القديمة التي نعدها مسلّمات. يوفر التعلم العالمي نقطة انعطاف مهمة لفحص أخلاقيات العملية التي تحدد من يقرر ما المعرفة التي يطلع عليها الآخرون ويتبادلونها وكيف.

لم تكن الحدود مجرد هياكل تاريخية للثروة والسلطة، فهي تعكس دون وجه حق من أفكاره مهمة، وما هي اللغات التي تُفضَّل على غيرها. عندما استُعمرت البلاد عبر التاريخ، أملى المستعمرون على الشعوب أن تقاليدها الخاصة غير مهمة وأن المهم معايير المستعمرين ومفاهيمهم، ويجب إعطاؤها الأولوية. لا تشمل عملية رسم الحدود محو الشعوب فحسب، بل تقاليد المعرفة عند هذه الشعوب.

يشكل التشكيك في أصل معرفتنا وإيصال الأصوات المهمشة جزءاً من التزامنا الأخلاقي بإنهاء الاستعمار وإصلاح أنظمة المعرفة الفاسدة. ونظراً لتمسك مؤسسة روبرت وود جونسون بتعزيز المساواة والتزامها بمعالجة التمييز العرقي بكافة أشكاله، فسيتكرر ذكر هذا الموضوع طوال هذه السلسلة.

على سبيل المثال، سيشارك المدير المشارك لمركز صحة السكان الأصليين في جامعة جون هوبكنز (John Hopkins University) الدكتور دونالد وارن، كيف هُمّشت في كثير من الأحيان معارف السكان الأصليين وممارساتهم في سياق الصحة الغربية وكيف أن تعزيزها ليس التصرف الصحيح أخلاقياً فحسب، بل العملي أيضاً لتحسين الصحة والرفاهة.

عندما أفكر في العالم ومشاكله العديدة، أجد السلوى في صور الأرض المأخوذة من الفضاء. تذكرنا صور تلك “الكرة الزجاجية الزرقاء” المذهلة بالعالم خارج حدودنا.

صحيح لم يسبق لي أن سافرت إلى الفضاء ونظرت إلى كوكبنا، لكنني أسافر بالطائرة كثيراً. منذ أشهر قليلة سافرت جواً من مدينة فالنسيا في إسبانيا إلى مدينة فرانكفورت في ألمانيا، وشاهدت مناظر خلابة لجبال الألب التي تمتد عبر إيطاليا وفرنسا وسويسرا. لم تكن هناك خطوط تفصل بين دولة وأخرى. لكن كانت هناك خريطة لمسارات الطيران في مجلة الطائرة؛ وهي شبكة عنكبوتية كبيرة تربط الأماكن والبلدان. أتخيل الأفكار تتدفق بحرية من بلد إلى آخر بالطريقة نفسها. وعلى غرار خريطة مسارات الطيران، يمثل كل خط أفكاراً منها حل مشكلة، واستغلال فرصة، ونتائج أكثر إنصافاً، وتحسّن صحة أحدهم، وإنقاذ حياة.

هذه هي إمكانات العالم الذي يقدّر التعلم العالمي ويطبقه ويتجاوز الحدود الموجودة في عقولنا وفي عالمنا. آمل أن تنضموا إلينا في هذه الرحلة عبر متابعة هذه السلسلة والحديث عن قصصكم الخاصة حول التعلم العالمي.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.