هل يجب على المناطق التعليمية تبنّي المسؤولية الاجتماعية؟

دور المناطق التعليمية
shutterstock.com/Ppictures
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يجب على المدارس أن تؤدي دوراً كبيراً في تحرير طلابها وأسرهم من الظلم الاجتماعي وتنشيط مجتمعاتهم وضمان استدامة بيئتهم.

في شمال ممفيس في ولاية تينيسي، وبينما كنت أقود سيارتي في طرق قاحلة، مررت بمجموعات من المنازل المتصدعة وبمحطة وقود متهالكة بجانبها متجر البقالة الوحيد في تلك المنطقة، ومررت كذلك ببعض مواقف الحافلات التي غطتها الأعشاب والأشجار المحيطة. وتوقفت عند مدرسة “نورثهيفين” (Northaven) الابتدائية ودخلت وانتظرت المدير لويس بادجيت حتى انتهى من تأمين سكن عطلة نهاية الأسبوع لطالبين لا مأوى لهما. رحّب المدير بي وأخذني في جولة تحدث فيها مطولاً عن احتياجات مدرسته بصفتي الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في المنطقة.

كنا كلما مشينا خطوتين أو ثلاث يعترضنا طالب، أو ولي أمر، أو معلم ليحدثنا عن أحواله الشخصية أو يشرح لنا وضع أحد طلابه. سمعنا عن طفل لاتيني عمره 8 سنوات ينام في سيارة بعد أن فُرض على أسرته إخلاء منزلها، وكذلك عن فتاة تبلغ من العمر تسعة أعوام وهي من ذوات البشرة الملونة تجمع ما يتبقى من طعام الغداء لإخوتها. حاول المدير بادجيت حلّ كل المشكلات بصدرٍ رحب. أما أنا فغادرت المدرسة متسائلاً عما يمكن أن تقدمه المنطقة التعليمية لمواجهة تلك التحديات.

وعند القيام برحلات مشابهة في العديد من المناطق التعليمية من شرق البلد لغربها، سنجد عبئاً ثقيلاً قد ألقي على عاتق مدراء المدارس ومعلميها الذين يحاولون تعليم الطلاب وتخفيف العلل الاجتماعية التي يواجهونها في الوقت نفسه. ألا يجدر بالأنظمة التعليمية تقديم مزيد من الدعم لهم؟

سلّطت جائحة “كوفيد-19” الضوء على التفاوتات الواسعة التي ابتليت بها مجتمعاتنا وأظهرت أهمية دور المناطق التعليمية في معالجتها. ومع تخلص المناطق التعليمية من براثن جائحة “كوفيد-19″، لا بدّ من دمج المسؤولية الاجتماعية في عملية تعافيها، إذ لا يقتصر واجب تلك المناطق التعليمية على تعليم الطلاب فحسب، بل يمتد دورها ليشمل تحريرهم وأسرهم من قيود الظلم الاجتماعي ودعم إحياء مجتمعاتهم وبيئتهم واستدامتها.

تحديد المهمة

لا تمثّل المناطق التعليمية مراكز تعليم فحسب، فهي توفر فرص عمل، ووسائل نقل، وتقدّم وجبات طعام، والإنترنت اللاسلكي، وخدمات الرعاية الصحية، والإيواء. كما أن دورها في الحقيقة يقلل حجم أنشطة الشركات الكبرى.

وبالرجوع إلى العام الدراسي 2015-2016 على سبيل المثال، كان هناك حوالي 13,700 منطقة تعليمية تضم حوالي 100,550 مدرسة حكومية يدرس فيها 50.3 مليون طالب في مراحل التعليم العام، بحسب “المركز الوطني لإحصاءات التعليم”. كما أنفقنا حوالي 678 مليار دولار على مراحل التعليم العام آنذاك، وتوظيف 4.25 ملايين موظف للهيئة التعليمية ومليوني موظف من موظفي الدعم. كما تم إنفاق 13.6 مليار دولار على وجبات الغداء التي وُزعت على 30 مليون طالب بمجموع 5 مليارات وجبة سنوياً؛ أي بمعدل 150 وجبة كل ثانية في اليوم الواحد لمدة سنة كاملة، وهذا العدد يساوي ضعفي عدد وجبات الهامبرغر التي تقدمها سلسلة مطاعم “ماكدونالدز”. ليس هذا فحسب، بل يشغل حوالي 100 ألف مبنى مدرسي مساحة 7.5 مليارات متر مربع؛ أي ما يقرب من نصف المساحة التي تشغلها المباني الإدارية. وتمتلك المناطق التعليمية مجتمعة مليوني فدان من الأراضي، وهو ما يساوي ضعفي مساحة ولاية رود آيلاند. كما أنها تمتلك أضخم برنامج نقل جماعي، حيث تقل حوالي 26 مليون طالب في 480 ألف حافلة مدرسية لمسافة تزيد على 16 مليار ميل سنوياً.

وبما أننا طالبنا الشركات الكبرى بتحمل مسؤولياتها الاجتماعية كاملة، وبتحقيق التوازن بين أهدافها التجارية وبين القضايا الاجتماعية والبيئية، لدينا الحق اليوم بمطالبة مناطقنا التعليمية بتحمل مسؤولياتها الاجتماعية، فهي الجهات المسؤولة عن تعليم ملايين الأطفال ودعم أسرهم وتعزيز المسؤولية الوطنية لصالح المنفعة الاجتماعية.

ومع ذلك، تواجه معظم المناطق التعليمية صعوبات تحول بينها وبين تحملها المسؤولية الاجتماعية، ويعود ذلك لثلاثة أسباب: أولها أن معنى المسؤولية الاجتماعية لا يزال غامضاً بالنسبة لها، كذلك هو الحال بالنسبة لكيفية دمجها في رسالتها واستراتيجيتها. وثانيها غياب الدور المؤسسي في عمل المناطق التعليمية واقتصار عملها على تطبيق النظام التعليمي، ما يقوّض قدرتها المؤسسية على تعزيز التغييرات الاجتماعية. وثالثها المطالب الهائلة التي تُفرض على المناطق التعليمية وجهلها مدى عمق تأثيرها في البنيان الاجتماعي.

تمثل المسؤولية الاجتماعية الأخلاقيات التي توجه المناطق التعليمية إلى كيفية تحقيق رسالتها إلى جانب تطوير المنظومة والمجتمع والبيئة التي تحتضنها في الوقت نفسه. وعلى عكس الشركات الكبرى، تتبنى المناطق التعليمية المسؤولية الاجتماعية من خلال طلابها ورسالتها التعليمية، وذلك عبر تمكين الأطفال من التعلم وإحداث تغييرات اجتماعية وبيئية إيجابية. كما تُمثّل المناطق التعليمية المسؤولة اجتماعياً ركيزة مجتمعية هدفها تنمية الأجيال اللاحقة من الأطفال الذين سيضمنون استدامة كوكبنا، ويتحدّون العلل الاجتماعية، ويكافحون في سبيل تحقيق العدالة وسط عالم يشهد حالات من عدم المساواة والغموض. إذاً، يمكننا القول إن التعليم يؤدي دوراً في تخليص الأطفال والمنظومات والمجتمعات من عالم مستبد وظالم، ويسهم في إعادة الكرامة والإنسانية إلى الشعوب.

تعزيز قدرات المناطق التعليمية

تتمتع المناطق التعليمية بقدرات كبيرة تنتج عن طبيعة دورها المؤسسي تمكنها من تعليم الأطفال وتخلصيهم من براثن القيود الاجتماعية وتحمّل مسؤوليتها الاجتماعية في الوقت نفسه ومنها: وفورات الحجم، وأصولها المادية، وتمتعها بالاستقلال المحلي، وشبكة مدارسها التي تشكل مراكز مجتمعية، وقدرتها على التأثير في الأفراد، إذ يزور واحد من بين كل 6 أميركيين إحدى المدارس يومياً، وقدرتها على الاستفادة من بيانات الطلاب. لنتأمل بعض الأمثلة على المناطق التعليمية التي تستفيد من تلك القدرات بالفعل:

فجوة التكنولوجيا الرقمية والاتصال اللاسلكي: لا يستطيع ملايين الأطفال في الولايات المتحدة تصفح الإنترنت، وهو ما يحد من فرص التعلم من المنزل. توفر مدارس “بوفالو” (Buffalo) الحكومية خدمات الاتصال اللاسلكي في منازل الطلاب في معظم الأحياء التي تعاني مشكلات في الاتصال بالإنترنت، وذلك عبر تثبيت هوائيات لاسلكية في 8 مدارس وبعض المباني المجاورة. وبالانتقال إلى ثاني أفقر منطقة في الولايات المتحدة وهي كواتشيلا فالي في كاليفورنيا، توفر المناطق التعليمية هناك خدمات الاتصال اللاسلكي للمجتمعات التي تعاني نقص الخدمات من خلال تركيب أجهزة شبكية في 100 حافلة مدرسية. ويؤكد كلا المثالين السابقين قدرة المناطق التعليمية على تسخير شبكات مراكزها المجتمعية والأصول المادية لسد الفجوة الرقمية.

خيارات بديلة للمساكن باهظة التكاليف: تعد مسألة العيش بالقرب من المدارس معضلة كبيرةً تواجه أغلب المعلمين والطلاب؛ نتيجة الارتفاع المستمر في أجور الإقامة في المدن الكبيرة، ما يدفع الطلاب إلى العيش في أحياء فقيرة أو ظروف معيشية غير مستقرة. وتحدّت المنطقة التعليمية المستقلة في دالاس تلك المشكلة عبر التبرع بحرم مدرسي مهجور وتحويله إلى ملجأ ضم 35 سريراً لطلاب المرحلة الثانوية. كما تبني المنطقة التعليمية الموحدة في شبه جزيرة مونتيري في كاليفورنيا أبنية مدعومة للمعلمين؛ لتقليل وقت التنقل وتوظيف المواهب وتخفيف الأعباء المالية عن المعلمين.

عدم المساواة الاقتصادية: توفر المناطق التعليمية عدداً من الوظائف التي تدفع لشاغليها رواتب أقل من الأجور المعيشية، بما في ذلك المدرسون المساعدون وعمال الكافتيريا وموظفو السكرتارية في المدارس. وقد واجهت عدة مناطق تعليمية مشكلة عدم المساواة الاقتصادية بأن ضمنت لجميع الموظفين الحصول على رواتب تغطي الأجور المعيشية. ففي مدارس مقاطعة “شيلبي” (Shelby) في ممفيس بولاية تينيسي مثلاً، تم رفع أجور 1,200 موظف بدوام كامل إلى 15 دولاراً في الساعة، لتحذو الوكالات الحكومية والشركات الكبرى ومؤسسات الرعاية الصحية بعد ذلك حذوها. وبالتالي، تتمتع المناطق التعليمية بوفورات الحجم التي تحفّز التغيير في المجتمعات.

انعدام الأمن الغذائي: أثّر انعدام الأمن الغذائي قبل جائحة “كوفيد-19” على 13 مليون طفل أميركي سنوياً. وقد أفاد 75% من المعلمين بالفعل أن طلابهم يحضرون إلى المدارس وهم جياع دائماً. لذلك، ابتكرت مدارس “إيلكارت” (Elkhart) المجتمعية في ولاية إنديانا حلاً لمعالجة انعدام الأمن الغذائي بأن دخلت في شراكة مع مؤسسة غير ربحية تدعى “كالتيفيت” (Cultivate)، لجمع الطعام الفائض من مدارسها وتعبئته وحفظه مجمداً، ثم إرساله إلى منازل الطلاب وأسرهم. في حين افتتحت مناطق تعليمية أخرى حدائق مجتمعية في الأراضي الشاغرة واستخدمت مخازن متنقلة لتوزيع الطعام وتوفير خيارات غذائية منخفضة التكلفة عبر تطبيقات الهاتف المحمول.

التمييز في أماكن التعليم: تتمتع معظم المناطق التعليمية بصلاحية تحديد أماكن التعليم والمباني التي سيدرس فيها الطلاب، الأمر الذي يخضع أحياناً للمصالح والرؤى الشخصية. وقد تحفّز تلك القرارات أيضاً التمييز العنصري والاجتماعي والاقتصادي داخل مدينة ما من خلال الغش والتلاعب. لكن بحسب مراسل موقع “فوكس” (Vox)، ألفين تشانغ، يمكن استخدام أساليب التلاعب التي تهدف إلى التمييز في المجتمعات لتعزيز التكامل والاندماج. على سبيل المثال، وافقت مدارس “مينيابوليس” (Minneapolis) العامة على إجراء تصميم شامل للمنطقة التعليمية، في شهر مايو/أيار، حددت فيه أماكن التعليم بهدف تحسين الاندماج العرقي في المدارس والمجتمعات، وهو ما يؤكد قدرة المناطق التعليمية على استخدام سلطتها للحد من الفصل والتمييز بين الأحياء والمدارس، لكنها غالباً ما تفشل في استخدامها.

فوائد تبنّي المسؤولية الاجتماعية

يتخلف طلاب الولايات المتحدة اليوم عن طلاب العديد من البلدان الأخرى في الرياضيات والعلوم. وفي أحدث برنامج لتقييم الطلاب الدوليين (PISA) عام 2018، احتلت الولايات المتحدة المرتبة 13 من أصل 99 في القراءة، والمرتبة 38 من أصل 91 في الرياضيات، والمرتبة 18 من أصل 94 في العلوم. وهنا يمكننا التساؤل عن سبب إضافة المسؤولية الاجتماعية إلى المناطق التعليمية في ظل هذا التصنيف التعليمي المتأخر للبلد.

والجواب هو أن المسؤولية الاجتماعية تحسّن من فرص التعليم بدلاً من أن تقوضها، وذلك عبر تعميق المفاهيم التعليمية لدى جميع المتعلمين. على سبيل المثال، لا يُعتبر موضوع كفاءة الطاقة في المدارس مجرد مسألة إدارة رشيدة للقضايا البيئية، بل تمثّل الطاقة ثاني أكبر التكاليف في المدارس سنوياً، إذ تقدّر تكاليفها بما يصل إلى 8 مليارات دولار؛ من جهة أخرى، يمكن توفير ملياري دولار وإعادة تخصيصها للفصول الدراسية سنوياً؛ إذا تولّت كل مدرسة في مراحل التعليم العام مهمة تحسين كفاءة استخدامها الطاقة. وبالإضافة لما سبق، قد يساعد تحسين ظروف التهوية داخل الصفوف في خفض نسبة إصابة الطلاب بالأمراض حتى 40%، لاسيّما الأمراض التي تؤدي إلى تغيّبهم. كما أن تحسن الأداء الأكاديمي يرتبط بزيادة التعرض لضوء الشمس وبرامج التثقيف البيئي.

هناك، وبينما كنت أتجول في مدرسة “نورثهيفن” الابتدائية، تخيّلت في عقلي مشهد تحرر طلابها في عصر جائحة “كوفيد-19”. فمع انتقال الطلاب إلى نظام التعليم الافتراضي، يمكن للمنطقة التعليمية أن تنتهز الفرصة لتحويل أسطولها من حافلات الديزل إلى حافلات صديقة للبيئة تصل حتى شمال ممفيس لتزويد الطلاب والأسر بالإنترنت. وقد تحوّل بعض الحافلات حتى إلى محلات بقالة أو مراكز صحية متنقلة تعالج مشكلتي نقص الغذاء والوصول المحدود إلى الخدمات الطبية.

وقد تستخدم المدارس أراضيها لزراعة الخضراوات العضوية باستخدام السماد الطبيعي من فائض وجبات الفطور والغداء اليومية. كما يمكن استخدام الخضروات كجزء من برنامج طهي افتراضي يتعلم فيه الطلاب كيفية إعداد وجبات مغذية مع طهاة محليين، في حين يدرسون الرياضيات والعلوم والقراءة خلال فصل الصيف. وأتخيل قيام الطلاب ببيع الخضروات للأسر في الصحارى الغذائية كتمرين على ريادة الأعمال.

تلك هي مجرد أحلام يقظة عابرة؛ لكن لا يمكن لأحد أن يتخيل مدى إبداع طلاب محررين من القيود التي تأسرهم.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.