كيف يمكن للمؤسسات التعليمية الريادية أن تتُيح التعليم العالي على نطاق أوسع؟

المؤسسات الوسيطة
shutterstock.com/Cagkan Sayin
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هل يمكن للمؤسسات الوسيطة التي تحمل رسالة وتتمتع بالدعم السوقي أن تقدم وسائل واقعية للتعامل مع مشكلة التكلفة في التعليم العالي؟ في كتاب “الجامعة التكاملية: كيف يمكن للتعليم العالي أن يستفيد من الحلول المشتركة وينقذ نفسه” أشرحُ أسباب مقاومة الكليات للتغيير وأقدّم دراسات حالة مثيرة للاهتمام عن المؤسسات الريادية التي تحمل رسالة وتتمتع بالدعم السوقي، مثل أنظمة تتبع الطلاب في مؤسسة ذا ناشيونال ستيودنت كليرينغ هاوس (the National Student Clearinghouse) وجهود أساتذة الكلاسيكيات الطموحة لإنشاء قسم مشترك بين المؤسسات. مزجتُ النظرية مع الدروس المستمدة من تجربتي الشخصية، وأوضحت كيف يمكن لهذه المؤسسات التغلب على المقاومة المؤسسية للعمل الجماعي، بالإضافة إلى كيفية تمويل المؤسسات التي يمكنها توليد الحلول المطلوبة بشدة.

هذا المقطع مقتبس من الفصل الذي تناولت فيه طرق تمويل المؤسسات الوسيطة الريادية التغييرية في التعليم العالي. أدى اتفاق مؤسسات قطاع زراعة الغابات المستدامة حول أهدافها المشتركة إلى تمكينها من تأدية أدوارها، في المقابل، يؤدي غياب الأهداف المشتركة في قطاع التعليم العالي إلى إعاقة تمويل مقدمي الخدمات التكاملية. (جيمس شولمان).

اقترحتُ أن الشركات المتخصصة تستطيع تقديم خدمات تحمل رسالة وتتمتع بالدعم السوقي وقادرة على صياغة روابط تكاملية مع الثقافة والممارسات المحلية للكليات والجامعات. تستطيع هذه الشركات التغلب على الحواجز التي يبنيها الأفراد والمؤسسات الفردية بوعي ودون وعي لصد الحلول الخارجية من خلال فهم طرق التكيف مع الاحتياجات المحلية والاستجابة لها. ولكن بعد دراسة مسألة وجود أي نماذج حقيقية لتمويل هذا النوع من التغيير، وبخاصة على نطاق واسع، وصلنا إلى نتائج مرعبة. وجدنا أن تكلفة التعليم العالي تمثّل مشكلة مؤسفة للطلاب وعائلاتهم، ولكن لا يُنظر إليها على أنها مشكلة يجب معالجتها على نحو متسق. ويبدو أن ثمة تقبّلاً عاماً للتكلفة المتزايدة باستمرار وما يترتب عليها من زيادة الأسعار على الطلاب و(أو) للغضب المتزايد تجاه التعليم العالي والابتعاد عنه. وبسبب غياب الرؤية المتسقة للحاجة إلى تنسيق الجهود لمعالجة مشكلة التكلفة، لم يُدع رواد الأعمال والمستثمرون والشركات لبحث فرص التعاون، أو لتحديد أدوارهم في القطاع، أو للتعاون على تطوير البنية التحتية المشتركة اللازمة. ولم نشهد عموماً سوى تجارب متفرقة توائم بين الغايات والتمويل. إن العمل الخيري، وهو نظام تمويل يفترض بعض الناس أنه وسيلة متسقة لبناء مؤسسات تحمل رسالة، يعتمد على مقاييس تأثير فردية يصعب تحديدها، ولا يمتلك الكثير من القوى التي تدفع المستثمر الفردي لتمويل العدالة في النمو أو الالتزام الطويل الأجل. ولا يقع اللوم في ذلك على طرف بعينه، إذ يعتمد نظام التمويل في العمل الخيري على ثقافة عمل الممول وشروط تبادل متنوعة. أما النظام الآخر فهو الاستثمار التقليدي في السوق، الذي لم يجرِ سوى تجارب استكشافية قليلة في مراعاة التأثير الاجتماعي المرغوب فيه.

يحاول العديد من الأفراد في كلا المجالين حل العقدة. يدرك عدد كبير من المتبرعين أن أموال مِنحهم غير كافية على الإطلاق لمواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع، وهناك الكثير من رجال الأعمال التقليديين الذين يعرفون أن السوق لا تملك آلية لتوفير الحاجات العامة التي تشتد الحاجة إليها. من الصعوبة بمكان التوفيق بين هذين النظامين المختلفين جداً عند النظر في المشكلات التي تواجه الأسواق النامية؛ إذ يحب أصحاب رأس المال فكرة وجود متبرعين أو مستثمرين مؤثّرين يخفضون مخاطر استثمار رأس المال بهدف تحقيق العوائد. ومن الصعب أيضاً وجود الاستثمار المؤثر في المجالات التي يعمل بها مستثمرون تقليديون، حيث يُفترض أن المنافسة القائمة على أساس السوق هي القانون السائد. حتى لو كان المجتمع يعتمد على قطاعات مثل التعليم أو الرعاية الصحية أو الصحافة، فإن التكامل بين العمل الذي يهدف إلى تحقيق رسالة والعمل الذي يهدف إلى تحقيق أرباح في السوق غير واضح المعالم في أحسن الأحوال. ومع ذلك، هناك بعض قصص النجاح. تجد مؤسسة مالتبل مايلوما ريسيرتش فاونديشن (Multiple Myeloma Research Foundation) مستثمرين متحمسين ومستعدين لتحمل مخاطر الاستثمار في الأدوية الجديدة التي قد تنجح في شفاء بعض الأمراض؛ كما توفر مؤسسة لومينا (Lumina) الموارد للشركات الربحية التي تساعد الطلاب على اجتياز تحديات توفير أوراق الاعتماد. ويبقى السؤال، ما الذي تحتاج إليه المؤسسات الوسيطة التي تتوافق مع مؤسسات التعليم العالي وتتعاون معها لكي يُنظر إليها على أنها تسعى لتحقيق أهداف نبيلة وتستحق الاستثمار الذي يجتهد لتحقيق رسالة؟

رسم الأستاذ بكلية هارفارد للأعمال، جوش ليرنر وزملاؤه مخططاً لكيفية تقديم الغابات المستدامة مثالاً على توافق المصالح الذي يمكن أن ينجح. وكما ذكرنا سابقاً، يبدأ تحديد الأدوار والأهداف التنظيمية والتمييز بينها بتحديد هدف مشترك، وفي هذه الحالة، الهدف المشترك هو الحفاظ على الغلاف الجوي للأرض. ويبدأ أيضاً بفهم أن المشروع كبير جداً بالنسبة إلى الأعمال الخيرية والحكومة وحدهما.

على الرغم من أن الحاجة كبيرة والقضية مُلحة، فإن الجهات الخيرية والمستثمرين في السوق المهتمين في الغابات لن تكون لديهم وسيلة للتوفيق بين أهدافهم الخاصة إذا تُركت لمعاييرها التوجيهية المختلفة، لأن “التغيرات في معدل حصاد الأخشاب تؤثر في كثير من الأحيان على أهداف الاستدامة والعوائد المالية بطرائق متضادة”. حُلَّ جزء من هذه المعضلة في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، إذ بدأ مستثمرون مبتكرون، مثل الأستاذ في جامعة ييل ديفيد سوينسون ومؤسس مؤسسة غرانثام مايو آند فان أوترلو (Grantham, Mayo, & van Otterloo) جيريمي غرانثام، بتحديد الأخشاب بوصفها أداة استثمارية قادرة على توفير عوائد متسقة مع ارتباط منخفض مع أنواع الأصول الأخرى. العديد من أنواع الاستثمارات ترتفع وتنخفض في الوقت نفسه (حيث إن الأسواق في جميع أنحاء العالم أو قطاعات الاقتصاد المختلفة تكون غالباً مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعضها ببعض). ولفترة من الزمن في التسعينيات، استفاد المستثمرون الأوائل في مجال الأخشاب من عوائد قوية جداً لم تكن مرتبطة مباشرة بتحركات الأسعار في الأدوات الاستثمارية الأخرى. ومع تبنّي العديد من المستثمرين هذه الاستراتيجية وزيادة عددهم، انخفضت عائدات الأخشاب. ولكن فكرة أن الغابات تؤدي دوراً مفيداً بوصفها نهجاً استثمارياً للمستثمرين على المدى الطويل ظلت راسخة وما زالت مستمرة.

وفي الوقت نفسه، أصبح التغير المناخي محور تركيز متزايد الأهمية للجهات الخيرية التي تهتم بالحفاظ على البيئة. يوثّق أندرو باكستر وآخرون كيف وجد هؤلاء المستثمرون الذين يهدفون إلى الربح في السوق والمستثمرون الذين يسعون لتحقيق رسالة أرضية مشتركة كافية للبدء بتطوير المؤسسات الوسيطة (بما فيها وكالات التصنيف، وهياكل الصناديق المجمعة، والمحللون) لجعل الاستثمار في الغابات ممكناً، لأن “تجمعات رأس المال الكبيرة يجب أن تقدم أموالاً ضخمة بطبيعة الحال”. هم يوثّقون “السند الأخضر” الذي أنشأه صندوق وركينغ فوريست (Working Forest Fund) التابع لمؤسسة “ذا كونسيرفيشين فاند تي سي إف” (TCF. The Conservation Fund). بوجود فرصة لشراء مساحات واسعة من الأراضي قبل أن تقع في أيدي شركات قطع الأشجار الخاصة وافتقار مؤسسة تي سي إف إلى رأس المال الكافي لتمويل المشتريات بالكامل، شرعت المؤسسة في البحث عن وسيلة للحفاظ على عملها وتحقيق رسالتها. وبعد دراسة نماذج مختلفة، بما فيها الأعمال الخيرية التقليدية، والاستثمارات المرتبطة بالبرامج، وتمويل الأسهم الخاصة، والقروض المصرفية، استقرت المؤسسة على إصدار سندات بعائد متوسط يتراوح بين معدلات العوائد التي تنتجها صناديق الحفاظ على البيئة عموماً والمعدلات الأعلى التي تتطلبها السوق عادةً.

ثمة درسان يمكن استخلاصهما من قضية تي سي إف، وكلاهما يتعلق بالعمل المطلوب لإخراج هذا النظام الهجين إلى النور. الأول (كما لاحظ باكستر وآخرون) هو سبب اختيار تي سي إف إصدار سندات للسوق المفتوحة بدلاً من العمل مع مجموعة صغيرة من البنوك لتصميم قرض اكتتاب خاص وكيف فعلت ذلك. “كان أحد الأهداف الرئيسية لعملية جمع الأموال لتي سي إف هو تثقيف السوق، ففي أفضل الأحوال، إذا كان هذا العرض ناجحاً، فسيبني رؤية للعروض المستقبلية من قِبل كل من قطاع الحفاظ على الغابات على نطاق واسع ومن تي إف سي نفسها. إن عرض التمويل الخاص الذي يُسوَّق لعدد قليل من المؤسسات لن يحقق هذا الهدف”.

الدرس الآخر يتعلق برأس المال البشري المعني. اعتمد تسويق المفهوم على قدرة القادة المؤسسيين في تي سي إف على فهم السردية ثم روايتها بالطرائق المختلفة التي تناسب عالم الحفاظ على البيئة من جهة وعالم الاستثمار من جهة أخرى. أشار باكستر وآخرون إلى أن “هذا المزيج من المهارات ليس أمراً شائعاً بالتأكيد، لكن هؤلاء الرواد يمكن أن تكون لهم آثار إيجابية هائلة غير مباشرة في إضفاء الشرعية على هذه الفئة من الأصول”.

في صياغة مثل هذا الحل التمويلي، نحتاج إلى رواد الأعمال المؤسسيين (مثل أولئك الذين أدركنا أنهم قادرون على إحداث التغيير في مشهد الكليات والجامعات)؛ حيث يؤدون دور رواد الأنظمة في خلق الأسطورة الجديدة، أو أسطورة هياكل التمويل الجديدة. لكنهم لا يستطيعون فعل ذلك بمفردهم، ولا بد من الإيمان بالحاجة إلى نظام ذي أهداف جماعية في التعليم العالي، كما هي الحال في الحفاظ على الغابات وتطوير علاجات السرطان. لكن علينا أن نسأل، هل هناك أي سبب للاعتقاد بإمكانية وجود نظام تمويل ذي رسالة عندما يُنظر إلى القضية على نحو متزايد بوصفها منفعة شخصية أو سلعة فاخرة؟ الحفاظ على الغابات السليمة يتمتع بسمعة طيبة بوصفه منفعة عامة. ولأن التعليم العالي أصبح يُنظر إليه على نحو متزايد (ويدافع عن نفسه) بصفته وسيلة للتقدم الشخصي، فهل هناك نماذج استخدمت الاستثمار المؤثر في مجالات قد لا تحظى بالمستوى نفسه من الدعم العام للقضايا البيئية أو أبحاث السرطان؟

إذا كان من الممكن لفت انتباه الذين يُجرون البحوث الطبية إلى أهمية الاستماع إلى ما يريده المرضى ويحتاجون إليه، فهل يستطيع أولئك الذين يهتمون بالتعليم العالي أن يعملوا معاً للتعرف على الخيارات المهمة التي يواجهها التعليم العالي؟ هل ثمة طرائق لمواءمة نظام تكافلي بدلاً من تعزيز الحواجز الفردية بين 3,500 كلية وجامعة؟

دعوت طوال هذا الفصل إلى نموذج جديد دقيق التوازن لتمويل هذه الرسالة والمشاريع التكاملية المتوافقة مع السوق، أي المزج بين العمل الخيري والمستثمرين ذوي التفكير الاجتماعي وحلول السوق الحرة التقليدية. لكن لا يمكن للمرء أن يرسم خرائط عندما لا تكون هناك طرائق أو حتى قواعد لتحديدها. نحتاج إلى الاتفاق على هدف مشترك، ودعوة الذين لديهم دور في تحقيقه، والاستماع إلى الذين يؤذيهم النظام والتفكير فيما يؤذي النظام في المقابل، وتنسيق جهود الأطراف الفاعلة، ومن ثم رسم نماذج مالية منطقية وواقعية ومسارات للمضي قُدماً. ولكن علينا أن نتفق على أهمية إنشاء هذا النوع من النظام وما يصاحبه من فرص لتمويل المشاريع ذات القيمة، ونحن لم نفعل ذلك بعد بطريقة جادة.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.