في ظل منظومة التأثير المفككة، تحتاج تكنولوجيا التعليم إلى التعاون لإعطاء الأولوية للتعليم على التكنولوجيا.
تشترك تكنولوجيا التعليم مع التكنولوجيا المالية في بعض أوجه التشابه المهمة، ففي كلتا السوقين تُباع المنتجات والخدمات عبر نماذج التعامل التجاري بين الشركات، أو بين الشركات والمستهلكين، أو بين الشركات والحكومات، وتعتمد كلتا السوقين على البيانات (وبيانات الذكاء الاصطناعي على نحو متزايد) لزيادة الكفاءة وتقليل تكاليف العمليات القائمة. ولكن ثمة اختلاف جوهري واحد على الأقل بين تكنولوجيا التعليم والتكنولوجيا المالية، لكي تُعتبر التكنولوجيا تعليمية، يجب أن تدار السوق في إطار الشراكة، حيث يعمل مطورو البرمجيات والمعلمون والباحثون والطلاب معاً بفاعلية لتطوير التجارب الناجحة وتطبيقها وتوسيع نطاقها. تعزز هذه الشراكة المشاركة الشاملة للموارد التي من شأنها أن تعطي الأولوية للفئات المهمشة وتتبنى وجهات نظر متنوعة، ومن خلال هذا التعاون فقط يمكن الارتقاء بتكنولوجيا التعليم لإعطاء الأولوية للتعليم على التكنولوجيا.
أدى الإخفاق في فهم جوهر النموذج التعاوني لتكنولوجيا التعليم إلى إعاقة قدرة السوق على إحداث تأثير إيجابي في الطلاب على مدى السنوات العشر الماضية كما هو موضح في تقرير اليونسكو الأخير عن الرصد العالمي للتعليم (UNESCO GEM Report)، الذي يشير إلى ضرورة الحوكمة والتنظيم لتكنولوجيات التعليم كافة، بما فيها أدوات الذكاء الاصطناعي الناشئة، للحماية من الاستغناء عن التعليم الذي يقوده المعلم وضمان جودة التعليم. أضف إلى ذلك أن عملاء تكنولوجيا التعليم هم في الغالب من المستخدمين القليلي الحيلة، ولا سيما الأطفال ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة أو الأطفال من الفئات المهمشة، لذلك لا بد من تزويدهم بمنتجات عالية الجودة ذات أدلة موثقة على التأثير الإيجابي.
لذلك، وعلى عكس التكنولوجيا المالية، من الأفضل ضمان جودة تكنولوجيا التعليم من خلال نهج مزدوج من الإنفاذ التنظيمي والدعم المالي. من المهم توفير التمويل اللازم للتأثير المدروس قبل الاستثمار في توسيع نطاق الأعمال، كما أن تطبيق اللوائح التنظيمية للحد الأدنى من معايير الجودة أمر ضروري قبل أن تصل الأدوات إلى أيدي الأطفال. يؤدي عدم انسجام القوى المتعارضة داخل سوق تكنولوجيا التعليم إلى خلل في توازن عملية صنع القرار حول تأثير تكنولوجيا التعليم. والواقع أن الافتقار إلى قيادة عامة وحوافز مالية قد جعل المستثمرين يتجاوزون دورهم الاقتصادي ليصبح لهم دور في وضع السياسات إذ يقدمون أولوياتهم الاستثمارية على مسائل الجودة في منظومة تكنولوجيا التعليم كلها. ولضمان أن يصبح التأثير التعليمي النقطة المحورية في قرارات الاستثمار، تحتاج إدارة التأثير الحالية في مجال تكنولوجيا التعليم إلى الاعتماد على الأبحاث الشفافة أكثر من الفرضيات المحدودة الخاصة.
منظومة التأثير المجزأة
تبدأ المشكلة بالبيانات، إذ يختلف التأثير المطلوب وتعريفه وطرق إعداد التقارير عنه من مستثمر لآخر. على سبيل المثال، تقيّم شركة آول في سي (Owl VC) أداء محفظتها باستخدام مقاييس تتعلق بالحجم والوصول والتنوع والنتائج. في حين تقيّم شركة استثمارية أميركية كبرى في تكنولوجيا التعليم، ريتش كابيتال (Reach Capital)، التأثير من خلال تقييمات مقيّمين من طرف ثالث، مثل شركة كومون سينس ميديا (Common Sense Media)، ومدى الوصول (عدد المستخدمين الذين تعجبهم التكنولوجيا)، والنتائج المقاسة (من خلال روابط لدراسات بحثية منشورة).
كما يختلف الطلب على توثيق تأثير تكنولوجيا التعليم من بلد إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى. في الولايات المتحدة وحدها، وعلى الرغم من إطار عمل قانون نجاح كل الطلاب "أيسا" (ESSA) للأدلة المفروض على المستوى الوطني، تختلف المقاطعات في طريقة شرائها لتكنولوجيا التعليم للمدارس. تطالب بعض المقاطعات بمنتجات معتمدة من إطار عمل قانون "أيسا"، في حين لا تطالب أخرى بها. ويطلب بعضها إجراء تقييمات تربوية لجودة تكنولوجيا التعليم، ويتحققون غالباً من شهادات اعتماد مثل شهادة الجمعية الدولية للتكنولوجيا في التعليم (ISTE) أو شهادة ديجيتال بروميس (Digital Promise). بالإضافة إلى ذلك، جربت بعض المقاطعات نموذج "التسعير المبني على القيمة" المستوحى من الرعاية الصحية (ما يسمى بـ "الشراء المبني على النتائج")، الذي بموجبه يعتمد عقد شركة تكنولوجيا التعليم على النتائج الإيجابية للطلاب.
في ظل وجود العديد من الشهادات والاعتمادات وأكثر من 74 إطار عمل لتقييم تكنولوجيا التعليم، ثمة خطر من خلق سوق للأدلة بدلاً من سوق قائمة على الأدلة، حيث تصبح الشهادات وتقييمات الجودة لعبة أرقام بدلاً من الالتزام الحقيقي بالتأثير المدروس. علاوة على ذلك، عندما تحدد الاستثمارات وحدها التأثير، فثمة خطر فرض رؤى معيارية للتعليم تصوغها قلة محظوظة (أصحاب الموارد) بدلاً من التركيز على الغرض الحقيقي للتعليم، وهو أن يكون قوة مساواة لمعالجة أوجه عدم المساواة.
فيما يلي 4 طرق لتوحيد منظومة تأثير تكنولوجيا التعليم:
1. مواءمة مسارات التأثير مع الضرورات العالمية
صحيح أن المقاييس المثلى للتأثير يجب أن تكون مصممة تصميماً خاصاً لتلائم رسالة الشركة وتصميم منتجاتها، مع ذلك يجب أن تسهم أيضاً في تحقيق أكثر من هدف واحد من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة السبعة عشر. إن مؤشرات التأثير الخمسة، وهي الكفاءة والفعالية والأخلاقيات والمساواة والتأثير البيئي، هي مؤشرات التأثير الرئيسية في التدخلات التعليمية، وتتوافق هذه المؤشرات الخمسة مع أهداف التنمية المستدامة. ومع ذلك، على مستثمري التأثير والمدققين النظر في التفاعل بين هذه المسارات بدلاً من التركيز فقط على هدف واحد من أهداف التأثير، فقد تُظهر الشركة نتائج ممتازة في الفعالية، لكن إذا أدت إنجازاتها إلى ضرر بيئي أو مشكلات أخلاقية، فإن تأثيرها الإجمالي يكون هشاً. وبالتالي، فإن تحقيق التوازن بين هذه المسارات أفضل من التفوق في واحد منها فقط.
2. التركيز على جودة الأدلة بدلاً من نوعها
يتشكل سوق الأدلة في الولايات المتحدة من خلال جدول أعمال أيسا، وهو إطار عمل للأدلة التي تفرضها الدولة الذي يصنف الأدلة إلى 4 مستويات وهو مستوحى من النموذج الطبي للأدلة. يعادل المستوى الأعلى التجربة المنضبطة باستخدام عيّنات عشوائية، التي تعتبر الشكل الأكثر موثوقية للأدلة على النجاح. ومع ذلك، فإن هذا النموذج ليس مفضلاً عالمياً. حتى في الولايات المتحدة حيث يتمتع نموذج الأدلة في قانون إيسا بتاريخ طويل، يسلط العديد من النقاد الضوء على القلق من أن معايير التجربة المنضبطة باستخدام عينات عشوائية هي معايير صارمة تقوّض دور المعلمين في التأثير على قيمة تكنولوجيا التعليم في القاعات الدراسية.
في المقابل يتضمن نموذج علوم التعلم الذي يظهر تأثيره في نموذج عملية تقييم أدلة تكنولوجيا التعليم (Edtech Evidence Evidence Evaluation Routine) تقييم الصلاحية الداخلية والخارجية، وينطبق على الأدلة الكمية والنوعية على حد سواء، لذلك يجب على الممولين التركيز أكثر على جودة الأدلة بدلاً من التركيز فقط على نوع الأدلة عند اتخاذ قرارات الاستثمار.
3. تفضيل مقاييس التأثير ذات الصلة والاستجابة
التأثير عملية ذات اتجاهين، إذ يجب أن تخضع الشركات لعمليات التدقيق، ولكن يجب اعتبارها شركاء يمكنهم الإسهام بأفكار جديدة لقياس التأثير وفهمه. لذلك يجب على الممولين التعرف على مقاييس التأثير المبتكرة والمتعلقة بالسياسات ومكافأتها، سواء تلك التي تتماشى مع خطط التقييم الدولية الموحدة الحالية مثل البرنامج الدولي لتقييم الطلبة "بيسا" (PISA) أو تلك التي تستوعب تأثير أحدث أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي. أدخل مجلس أبحاث بلدان الشمال الأوروبي (Nordic Research Council) مقاييس التأثير على الحاصلين على مِنحه مثل منح تدريب العاملين في مجال التأثير على السياسات والإسهام في المشاورات الوطنية. يشارك العديد من شركات تكنولوجيا التعليم بنشاط في مثل هذا العمل المؤثر، مثل مشاركة مختبر ليرنلاب (LearnLab) في تمويل مبادرة أيه آر سي كولابوريتف (ARC Collaborative) التي تجمع وزارات التعليم الدولية حول الابتكار التعليمي.
4. إعطاء الأولوية للخبرة الجماعية من أجل التأثير
تفضل الشركات في مرحلة النمو المبكرة المشورة من العاملين ذوي الخبرة بدلاً من الباحثين المؤهلين، مدفوعة بالاعتقاد أن آراء العاملين تعزز المبيعات وبالخوف من أن البحث قد يعوق جهود التوسع (سواء بسبب الوقت الذي يستغرقه البحث أو بسبب مخاطر النتائج السلبية التي يحملها البحث).
ولكن خلال مرحلة التأسيس على وجه التحديد، تصبح إسهامات الباحثين المؤهلين في مقاييس التأثير بالغة الأهمية بالنسبة للشركات. يتطلب التطوير الناجح لتكنولوجيا التعليم في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي مزيجاً من خبرات المتخصصين في المناهج الدراسية ومصممي تجربة المستخدم وتجربة التعلم وخبراء علم النفس والتنمية. من الضروري وجود مجموعة منسّقة استراتيجياً من الموجهين ذوي الخبرة والباحثين القادرين على تقديم الدعم في مراحل نمو تكنولوجيا التعليم جميعها(التطوير والتوسع والتطبيق والتحقق من صحة المعلومات) لمبادرات تكنولوجيا التعليم المؤثرة جميعها، ويجب أن تكون مدمجة بطريقة أكثر منهجية في مسرّعات مشاريع تكنولوجيا التعليم وحاضناتها واستوديوهاتها.
منظومة التأثير
يمكن أن تساعد مواءمة العائد على الاستثمار مع تأثير التعليم (العائد على التعليم) والتأثير الاجتماعي (العائد على المجتمع) في نهاية المطاف على أن تصبح بيئة تكنولوجيا التعليم بيئة عمل -أو حتى بيئة عمل عضوية متميزة- ما يميزها بوضوح عن منظومة التكنولوجيا المالية.
يمكن تأمين الجدوى المالية لقطاع الشراكة هذا من خلال مبادرات التمويل المشترك المختلفة. على سبيل المثال، يمكن تمويل تعاون قطاع تكنولوجيا التعليم والأوساط الأكاديمية مع المدارس من خلال نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص التي تقلل من التكاليف، حيث يسهم كل من المناطق التعليمية وشركات تكنولوجيا التعليم في تكلفة اختبار التكنولوجيا في المدارس. ويمكن تعزيز نماذج الشراكة التعاونية بين الباحثين والشركات من خلال التمويل الجزئي (على سبيل المثال، من خلال ميزانيات بحثية مخصصة للشركات) وإعانات لمبادرات تكنولوجيا التعليم المحلية، مصممة تصميماً خاصاً لمرحلة هذه المبادرات وحجمها. كما يمكن للمؤسسات والحكومات تحقيق تأثير أكبر من خلال مبادرات التمويل المشترك، على سبيل المثال، يشارك في تمويل مسابقة الأدوات (Tools Competition) كل من مؤسسة شميت فيوتشرز (Schmidt Futures) ومؤسسة والتون فاميلي فاونديشن (The Walton Family Foundation) ومؤسسة بيل وميليندا غيتس فاونديشن (Bill & Melinda Gates Foundation) وشركة آلي كورب (AlleyCorp). إن السبيل لتحقيق التأثير الإيجابي المستدام لتكنولوجيا التعليم على الأطفال على المدى الطويل هو نموذج التمويل الناجح الذي يعتمد على تبني أصحاب المصلحة جميعهم لعقلية "وحدوا الصفوف" بدلاً من عقلية "فرّق تسد".