يعيد الذكاء الاصطناعي التوليدي تشكيل الأنظمة التعليمية والممارسات التربوية حول العالم، بفضل نتائجه الإيجابية في عدد من السياقات التعليمية، على الرغم من التفاوت في هذه النتائج أحياناً. لقد أظهر الذكاء الاصطناعي قدرة على التحسين في مجالات مختلفة مثل المشاركة والمعدل التراكمي ومهارات التفكير الابتكاري. وتشير بعض الدراسات إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤدي إلى زيادة بنسبة 20-23% في درجات المشاركة، وزيادة بنسبة 9-14% في المعدل التراكمي، وزيادة بنسبة 44-57% في مهارات التفكير الابتكاري.
وأظهرت دراسة من جامعة بنسلفانيا، تحسن أداء الطلاب الذين استخدموا تشات جي بي تي 4 بنسبة 48%، في حين تراجع أداء الطلاب الذين لم يستخدموا التطبيق بنسبة 17%، ما يشير إلى وجود اعتماد مفرط على هذه الأدوات. كما لفتت دراسة أخرى بعنوان "التدريس بالذكاء الاصطناعي يتفوق على التعلم النشط" إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز انخراط الطلاب ويوفر دعماً مخصصاً لهم. لكن يجب إجراء المزيد من الدراسات للتوصل إلى استنتاجات حاسمة بشأن فعاليته مقارنة بالمعلمين البشر والتدخلات التعليمية الأخرى. وفي الصين، وجدت دراسة حديثة أن الطلاب الذين استخدموا نظاماً للتعليم بالذكاء الاصطناعي تفوقوا على أولئك الذين تلقوا تعليماً تقليدياً من معلمين خبراء. أما في السعودية، فقد أظهرت دراسة حديثة منشورة في مجلة نيتشر مواقف إيجابية تجاه الذكاء الاصطناعي في التعليم، وأبرزت دوره في تعزيز عمليتي التعليم والتعلم، بالإضافة إلى أهمية فهم التأثيرات الاجتماعية لاستخدامه.
الملاءمة الثقافية والفعالية السياقية
تشير هذه النتائج إلى تنوع الأساليب وتباين التجارب في توظيف الذكاء الاصطناعي التوليدي بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والصين. ويبرز ذلك ضرورة بناء معايير ذكاء اصطناعي محلية، وبنى تحتية متوافقة تضمن عدم الاعتماد على أدوات مصممة لسياقات مغايرة، خصوصاً تلك التي تستند إلى بيانات أجنبية ومناهج مستوردة. على سبيل المثال، تتميز الولايات المتحدة بعدم مركزية نظامها التعليمي، مع تركيزها على تنمية مهارات التفكير النقدي والاستخدام الأخلاقي للتقنيات. وصدر مؤخراً أمر تنفيذي لتوظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم، يركز على تعزيز محو الأمية الاصطناعية والكفاءة الرقمية من خلال تدريب المعلمين وتوفير هذه التقنيات في الفصول الدراسية. أما الصين، التي تتبع نظاماً مركزياً، فقد طورت نماذج لغوية كبيرة بلغاتها الأم، ما يعزز تكامل الذكاء الاصطناعي التوليدي في البيئة التعليمية المحلية. ومع ذلك، فإن منظومتها الابتكارية تميل إلى التطوير التدريجي للتقنيات القائمة، أكثر من ابتكار حلول جديدة بالكامل.
وفي السعودية، نلاحظ مزيجاً من الخصائص؛ إذ تتشابه مع الولايات المتحدة في تنوعها الثقافي، ومع الصين في مركزية نظامها التعليمي. ومع ذلك، لا تزال النماذج اللغوية الكبرى باللغة العربية محدودة. لذا، أطلقت مشاريع رائدة مثل أيس جي بي تي، وهو نموذج لغوي مفتوح المصدر مصمم خصوصاً للعربية، وعلام، وهو نموذج آخر مدرب على بيانات ثنائية اللغة. كما أعلن مؤخراً عن تأسيس شركة هيوماين السعودية لتطوير نماذج لغوية عربية متقدمة، ودعم مراكز البيانات والبنى التحتية، مع الالتزام بالقيم الوطنية وتعزيز الاقتصاد المعرفي.
تحديات استخدام الذكاء الاصطناعي وحلول التغلب عليها
يتطلب تطبيق هذه التقنية مراعاة تحديات بنيوية وتطبيقية تتعدى الجوانب التقنية، لتشمل الأبعاد التربوية والثقافية والأخلاقية والتنظيمية. ومن أبرز هذه التحديات:
- الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي
تظهر الدراسات الحديثة أن أداء الطلاب تراجع تراجعاً ملحوظاً عند خضوعهم لاختبارات من دون استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ما أثر على تنمية مهارات التفكير النقدي والاستقلالية في حل المشكلات. وتبرز الحاجة هنا إلى إعادة تعريف دور الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة مساعدة لا بديلاً عن القدرات البشرية.
- الخصوصية وأمن البيانات
تختلف معايير حماية البيانات بين الدول. فمثلاً، تختلف معايير الصين عن تلك المعمول بها في الولايات المتحدة، ما يبرز أهمية السيادة الرقمية. ويتطلب ذلك وضع أطر وطنية لحوكمة البيانات التعليمية، تشمل تشريعات واضحة، وإجراءات حماية، وبرامج لتدريب المعلمين والمتعلمين على الاستخدام الآمن.
- تأهيل المعلمين
تشير دراسة بعنوان "الذكاء الاصطناعي في التدريس والتطوير المهني للمعلمين" إلى أن الفجوة بين مهارات المعلمين ومتطلبات الذكاء الاصطناعي التوليدي تشكل عائقاً حقيقياً. لذلك يجب تبني برامج تدريب مهني مستدامة تشمل محو الأمية التقنية، والأخلاقيات الرقمية، وتحليل البيانات.
ولتحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم، يمكن تبني عدة حلول:
1. التكييف الثقافي
من الأهمية بمكان ضمان الملاءمة الثقافية والتوافق اللغوي عند نشر أي تقنية ولأي غرض كان. فبناء معايير ذكاء اصطناعي وبنى تحتية منسجمة مع الطابع المحلي أمر ضروري لتجاوز سلبيات استخدام أدوات مصممة في أماكن أخرى تعتمد على بيانات أجنبية ومناهج مستوردة.
وقد أثبتت التجربتان الأميركية والصينية أن نجاح النماذج التوليدية مرهون بدمجها في السياق المحلي، إذ يطور كل من الصين الولايات المتحدة نماذج لغوية كبيرة ضمن السياق المحلي، وبما يتوافق مع اللغة والتعابير الثقافية السائدة.
2. أطر الاستخدام الأخلاقي
أصبح من الضروري اعتماد سياسات تنظم الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي. وفي هذا السياق، تعد "مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي" الصادرة عن الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) إطاراً فعالاً يمكن البناء عليه.
3. التعاون الدولي
يشكل التعاون في الأبحاث والسياسات والبرامج التجريبية رافداً مهماً لتطوير حلول تعليمية تكاملية ومبتكرة، إذ توصي اليونسكو بضرورة التعاون الدولي لتطوير سياسات تعليمية تراعي الجوانب الأخلاقية للذكاء الاصطناعي. وتشدد في تقريرها "الذكاء الاصطناعي والتعليم: إرشادات لصانعي السياسات" على أهمية بناء قدرات صانعي السياسات وتكامل مهارات الذكاء الاصطناعي ضمن أطر الكفاءة الرقمية.
كما يسهم التعاون الدولي في تقليل الفجوة الرقمية من خلال توفير موارد تعليمية مدعومة بالذكاء الاصطناعي للدول النامية. على سبيل المثال، أطلقت إستونيا مبادرة إيه آي ليب لتعليم مهارات الذكاء الاصطناعي لطلاب المدارس الثانوية بالتعاون مع شركات تكنولوجيا أميركية، ما يعزز قدرات الطلاب والمعلمين على حد سواء.
ويساعد التعاون الدولي أيضاً في تنفيذ تجارب متعددة السياقات واختبار فعالية الأدوات التعليمية في بيئات متنوعة، ما يحسن جودتها وقابليتها للتوسع، وتتيح الشراكة في جمع البيانات وتحليلها للحكومات تطوير سياسات تعليمية أكثر استنارة وواقعية.
4. تصميم سياسات تعليمية مرنة ومبنية على البيانات
ينبغي أن تستند السياسات التعليمية إلى تحليلات دقيقة للبيانات، ما يسمح باتخاذ قرارات مبنية على الأدلة، وتكييف المناهج والتقنيات وفقاً لاحتياجات المتعلمين وسياقاتها المحلية. وتعد تحليلات التعلم أداة جوهرية لدعم هذا التحول، وضمان الاستجابة المستمرة للتغيرات التعليمية والتقنية.
يتطلب دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم توازناً دقيقاً بين الابتكار والمسؤولية والأخلاقيات، مع الحفاظ على الخصوصية وتمكين الأفراد من المهارات اللازمة للتكامل الفعال مع هذه التقنيات. ويمكن أن يسهم التعاون الدولي وتبادل الخبرات في تسريع تطوير سياسات تعليمية فعالة، تحقق تكاملاً بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. إن مستقبل التعليم يعتمد على أنظمة عالمية مستنيرة، ومتجذرة محلياً، وتدار بصورة تشاركية، ما يضمن أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة لرفاه الإنسان لا بديلاً عنه.