يعلم جاستن رايك أنه من الغريب أن يؤلف كتاباً عن قدرة التكنولوجيا على تحويل قطاع التعليم في وقت أجبرت فيه جائحة عالمية جميع المدرّسين على استخدامها، وحتى أبعدهم عن التكنولوجيا الرقمية. يقول في مقدمة كتابه الذي يحمل عنوان "العجز عن الزعزعة: لماذا لا يمكن للتكنولوجيا تحويل قطاع التعليم بمفردها" (Failure to Disrupt: Why Technology Alone Can’t Transform Education): "في أفضل الأحوال، سندرك في المستقبل الأهمية الهائلة التي تتمتع بها أنظمة التعليم التقليدية في تشكيل النظام الاجتماعي، وسنقدم لهذه الأنظمة ما يلزم من تمويل ودعم واحترام. ما قوة تكنولوجيا التعلم التي نستخدمها إلا انعكاساً لقوة مجتمع المدرّسين الذين يعملون على إدارة استخدامها". تلخص رؤية رايك بدقة ما يناقشه الكتاب حول عدم قدرة الابتكارات التكنولوجية على تغيير العالم بمفردها على الرغم من كل إمكاناتها.
رايك هو أستاذ لمادة دراسات مقارنة في الإعلام في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، ويقول في كتابه الذي ألّفه في توقيت مخيف، إن تكنولوجيا التعلم المستخدمة في قطاع التعليم على نطاق واسع لن ترقى إلى مزاعم مؤيديها المبالغ فيها؛ فالابتكارات مثل الدورات التعليمية الجماعية المفتوحة على الإنترنت (MOOCs) والبرمجيات التعليمية التكيفية المخصصة لاحتياجات الدارسين لم تثبت صحة التوقعات عن قدرتها على تحويل قطاع التعليم، ولم تتمكن من جَسر فجوات التحصيل العلمي لدى الطلاب، ويقول إننا بحاجة إلى إجراء تغييرات بطيئة تتزايد على نحو مطّرد مع الحرص الشديد على جعل أنظمة التعليم منصفة بدرجة أكبر.
يقول أيضاً إن تغيير النظام ضروري لأن أنظمتنا التعليمية تقليدية تقوم في أساسها على عمل مدرّس واحد ضمن قاعة دراسية مملوءة بالطلاب، وهي لم تتغير منذ قرون. وبما أن المدرّسين يتبعون أسلوب التعليم الذي اتبعه أساتذتهم من قبلهم، فتكنولوجيا التعليم المنتشرة على نطاق واسع مثل الدورات الجماعية الإلكترونية مفتوحة المصدر والبرمجيات التعليمية التكيفية لم تتمكن من إحداث أي تغيير جذري في نظام التعليم؛ أي إن منهجية التعليم لم تتمكن من مواكبة التكنولوجيا بعد. بل عمل نظام التعليم التقليدي جداً على إخضاع التكنولوجيا الابتكارية وإجبارها على الرغم من صيغتها الرقمية على ملاءمة منهجيات التدريس والتعلّم المعتادة.
خذ مثلاً الدورات الجماعية الإلكترونية مفتوحة المصدر التي كان مؤيدوها يبشرون بأنها ستقدم فرص تعليم منخفضة التكلفة لأي شخص في العالم، ولكنها بصيغتها الحالية وفقاً لما يقوله رايك: "مجرد ملحقات بالبنية الأساسية الحالية في برامج درجات الماجستير المهنية وبرامج تعليم المهارات التنفيذية". وتطبيق بطاقات العرض السريع، كويزليت (Quizlet)، هو أيضاً من الأمثلة التي ذكرها رايك لتوضيح إمكانات تكنولوجيا التعلم المحدودة في إعادة صياغة الأنظمة التعليمية الحالية؛ إذ يؤكد أن التطبيق شائع وفعال ولكنه ليس ذا أثر تحويلي، فهو مجرد نسخة رقمية عن أسلوب أثبت فاعليته من قبل.
يحدد رايك في تحليله 3 فئات متوافرة حالياً من تكنولوجيا التعلّم واسعة النطاق أو بيئات التعلم عبر الإنترنت المتاحة لعدد كبير من الطلاب ولكن بمشاركة عدد قليل من الخبراء؛ التعلم الذي يوجهه المدرّس، والتعلّم الذي توجهه الخوارزمية، والتعلم الذي يوجهه الأقران. ويصف هذه الفئات من منظور الفلسفتين الرئيستين في التعليم: نهج التوجيه بالتلقين حيث يعتبر المدرس طلابه أوعية فارغة يصبّ المعارف والمعلومات فيها صبّاً، ونهج التحفيز البنائي الذي يعمل المدرس فيه على إثارة اهتمام طلابه وفضولهم وإنشاء بيئة للتعلم من خلال العمل.
إن قدرة التكنولوجيا على تسهيل عملية التعلم محدودة، لا سيما فيما يتعلق بالتفكير النقدي والتواصل المعقد وحلّ المشكلات غير المنظم.
الدورات الجماعية الإلكترونية مفتوحة المصدر هي مثال جيد على تكنولوجيا التعليم بالتلقين الذي يوجهه المدرّس؛ إذ يتم تطوير المقرر الدراسي بناءً على تسلسل المواد الذي يرى المدرّس أو خبير المادة أنه الأفضل لتسهيل عملية التعلّم، ويكون المسار خطياً محدداً مسبقاً وموحداً لجميع المتعلمين.
بيئة التعلّم التي توجهها الخوارزمية هي أيضاً من تكنولوجيا التعليم بالتلقين، وهي تستجيب لمساهمات كل متعلّم على حدة؛ إذ يخوض كل متعلّم في المادة التعليمية مساراً يتم تخصيصه بناء على مجموع تفاعلاته مع النظام، ما يكشف مكامن قوته ومواطن ضعفه في مادة المقرر، ويتم توجيه الطالب الذي يحتاج إلى دعم إضافي لمراجعة المادة والتمارين من أجل معالجة المشكلة التي يعانيها، في حين يتم توجيه المتفوقين بسرعة إلى تعلّم مفاهيم جديدة أكثر صعوبة، وبهذه الطريقة تتم تلبية احتياجات التعلّم الخاصة بكل طالب على حدة.
أما بيئات التعلم الذي يوجهه الأقران التي تتماشى مع نهج التحفيز البنائي في التعليم فهي الأفضل للتعليم غير الرسمي؛ يصف رايك الضجة الكبيرة التي أثارتها منتجات شركة رينبو لوم (Rainbow Loom) في عام 2013، حين بدأ عدد كبير من المستخدمين بنشر مقاطع فيديو على منصة يوتيوب لتعليم طرق صنع أساور وتصاميم في غاية التعقيد باستخدام الشرائط المطاطية الملونة، وفي هذا المثال يعلّم الناس بعضهم بعضاً ويتعلمون بعضهم من بعض دون اتباع أي نظام رسمي. على الرغم من أن هذه البيئات تبدي فعالية في التفاعلات الاجتماعية، فهي غير منظمة لدرجة تجعلها عديمة الفعالية في شروط المدرسة التقليدية التي تم تصميمها لقياس التعلّم الفردي لا التعاوني، ويقول رايك إنه بعيداً عن بعض الاستخدامات مثل أنشطة نوادي الترميز اللامنهجية، تبدو بيئات التعلّم التي يوجهها الأقران غير ملائمة للمدارس.
كما يشير إلى تطوير فئة رابعة مؤخراً متمثلة في التعليم بناء على الألعاب، أو ما يسمى "التلعيب"، وهي تشمل كلاً من منهجي التلقين والتحفيز معاً. يمكن أن يتم التعليم بالتلعيب بتوجيه المدرّس، مثل الألعاب التي تتكون ببساطة من مسائل رياضية على شكل مغامرات ممتعة، أو بتوجيه الأقران مثل لعبة ماينكرافت (Minecraft) حيث يمكنك تعلّم نصائح وخدع للتقدم فيها من الآخرين الذين ينشرون تجاربهم فيها على الإنترنت. وكما هو الحال مع الدورات الجماعية الإلكترونية مفتوحة المصدر والبرمجيات التعليمية التكيفية، عجز أسلوب التلعيب عن إحداث تغيير جذري في قطاع التعليم، وفي حين يتم تدريس المتعلمين طرق ممارسة اللعبة يتساءل رايك عن قدرتهم على "استخدام مهارات اللعب بمرونة" في النماذج الأخرى، وفي الحياة اليومية أيضاً.
في النصف الثاني من كتابه، يعدد رايك المشكلات المعقدة التي تحدّ من قدرات أي بيئة للتعلم واسعة النطاق على تقليص التفاوت بين الطلاب؛ إذ يناقش مشكلة "لعنة المألوف" التي يتم فيها تخفيض مستوى التكنولوجيا كي تتلاءم مع الأنظمة التعليمية القائمة، ثم يوضح كيف يتجلى المفهوم الذي صاغه عالم الاجتماع روبرت ميرتن، تأثير متّى ("يولّد النجاح مزيداً من النجاح")، في تكنولوجيا التعليم، وذلك عندما يستفيد من يتمتعون بإمكانية الوصول إلى التكنولوجيا والامتيازات من تكنولوجيا التعلم واسعة النطاق بدرجة أكبر من استفادة من ينتمون إلى بيئات لا تتمتع بنفس الدرجة من الرفاهية، ويصف "فخ التقييم الروتيني" مدى براعة برامج التقييمات المؤتمتة في تقييم المهام التي يجيدها الكمبيوتر، في حين ستتطلب الوظائف المستقبلية موظفين قادرين على القيام بالمهام غير المرتبة التي لا يمكن أتمتتها، ويناقش في المعضلة الأخيرة المتمثلة في "القوة السامة في البيانات والتجارب" المخاوف الأخلاقية المعقدة المتعلقة بجمع بيانات الطلاب من دون إذن صريح.
وبناء على هذه المساوئ التي ينتقدها رايك، يقترح أن نعقد التزاماً طويل الأمد بتصميم هذه التكنولوجيا واستخدامها عن طريق العمل التعاوني بين مجموعة متنوعة من الطلاب وأولياء الأمور والمدرّسين والباحثين. ستؤدي دراسة أوجه استخدام هذه التكنولوجيا وإجراء تحسينات بسيطة مطردة مع مرور الوقت، وهي عملية يسميها رايك "التصليح" (tinkering)، إلى نتائج أفضل من نتائج المزاعم قصيرة الأجل المبالغ فيها حول قدرة التكنولوجيا واسعة النطاق على تحويل قطاع التعليم. وأخيراً، من الضروري التزام إجراء تغييرات على الأنظمة عبر الاستثمار في منظومات المدرّسين التي تركز على التطوير المهني وإجراء التحسينات على البنية التحتية المحلية وتنفيذ برامج تعليمية لتدريب أولياء الأمور على مساعدة الطلاب على استخدام التكنولوجيا بفعالية أكبر. باختصار، استخدام تكنولوجيا التعلم واسعة النطاق في المدارس والجامعات ليس حلاً سحرياً، والدعم الكبير الشامل لكل من البشر والأنظمة ضروري كي تتمكن هذه الحلول من إيقاع أثر حقيقي.
على الرغم من أن تحليلات رايك وتوصياته تنبع من خبرة واسعة وبحث عميق ومعلومات تاريخية واقعية، فثمة حلقة مفقودة، ليس في هذه التحليلات فقط وإنما في تكنولوجيا التعلم واسعة النطاق إجمالاً.
تتمثل هذه الحلقة المفقودة في المدرّسين؛ تعجز التكنولوجيا واسعة النطاق عن أداء الغرض منها لأنها تحاول إحلال برامج الكمبيوتر محل المدرسين، إلا أن هذه البرامج غير قادرة على تطوير الخبرات التربوية والتعليمية اللازمة لتسهيل التعلّم، في حين أن المدرّسين متمكّنون من المادة التعليمية التي يدرسونها ويتمتعون بمهارات عالية في الأساليب التعليمية والتربوية، ويعملون على تكييف هذه المعارف والخبرات من أجل تلبية احتياجات طلابهم، لأن كل طالب يسهم في تشكيل تجربة المجموعة بأكملها وطريقة التدريس التي يتبعها المدرّس مع هذه المجموعة. إطار عمل معارف التكنولوجيا وأساليب التعليم والمحتوى (TPACK) هو نهج يعالج مشكلات استخدام التكنولوجيا في القاعة الدراسية، وهو يوضح السبب الذي يجعل بيئات التعلم التكنولوجي واسعة النطاق عديمة الفعالية. يحتاج المدرسون إلى أنواع المعرفة الثلاثة التي يختلف تأثير كل منها باختلاف السياق التعليمي، والبشر وحدهم قادرون على تحديد ما يحتاجون إليه في كل موقف، ولا يمكن منح البرامج هذه القدرة، فالطلاب ليسوا روبوتات والتكنولوجيا ليست قادرة على التعليم مثل البشر الذين خضعوا للتدريب على الأساليب التعليمية والتربوية واكتسبوا حكمتهم من تجاربهم وبنوا خبراتهم المهنية التي تمكّنهم من تكييف أساليبهم وفق الحاجة.
يتجاهل تحليل رايك قيمة المدرّسين في مساعدة الطلاب على التعلّم؛ فالطلاب المنتمون إلى الفئات المهمشة أو الفقيرة ليسوا بحاجة إلى التكنولوجيا المجردة لمساعدتهم على التعلّم و التغلب على الصعوبات التي تواجههم، بل يحتاجون إلى التواصل والتوجيه والإلهام الذي لا يقدمه سوى البشر.
ومن أجل فهم أسباب ذلك من المهم أن نعيد النظر في مناقشة رايك حول فخ التقييم الروتيني، أي ما يجيده الكمبيوتر. يقول رايك إن نطاق التقييمات المؤتمتة محدود، وإن الكمبيوتر غير قادر على حل المشكلات غير المنظم أو التواصل على مستوى معقد يتجاوز حداً معيناً. يضرب رايك مثلاً ضرورة أن يقوم موظفو شركات الطيران بتسجيل المسافرين عند مكاتب الشركة في المطارات؛ يمكن لمنافذ الكمبيوتر تنفيذ عملية التسجيل الروتينية، ولكن إذا تطلبت الإجراءات تواصلاً أكثر تعقيداً أو خدمة تتجاوز المستوى الأساسي يصبح من الضروري أن يحضر أحد الموظفين لتولي الأمر.
وينطبق الأمر نفسه على التعليم؛ على الرغم من إمكانية برمجة بعض أوجه تقديم المحتوى والتقييم، فقدرة التكنولوجيا على تسهيل عملية التعلم محدودة، لا سيما فيما يتعلق بالتفكير النقدي والتواصل المعقد وحلّ المشكلات غير المنظم.
لا يلمّح رايك إلى أن هذه المهارات غير المؤتمتة هي تحديداً ما يستطيع المدرّس تقديمه في تعاملاته وتفاعلاته الشخصية مع الطلاب وتشجيعه لهم على النحو الذي يساعدهم على تعلم طرق التعامل والتفاوض مع الآخرين والتفكير بأسلوب ناقد، إذ لا يمكن لأي تكنولوجيا مهما كانت تقديم هذا المستوى من التوجيه المعقد.
من العدل القول إن رايك يقرّ بأن "أغلب المتعلمين يحتاجون إلى الدعم والتواصل البشري"، ويطالب برفع مستوى جهود إعداد المدرّسين كي يتمكنوا من تطبيق تكنولوجيا التعلّم واسعة النطاق على نحو هادف، ويدعو لبذل جهود أكبر للتطوير المهني لا سيما في مدارس الأحياء الفقيرة، وإنشاء منظومات مستدامة للتعلم المهني. ولكنه لم يوجه أي انتقاد لعدم قدرة الكمبيوتر على التعليم؛ أي على التواصل بأسلوب معقد وحلّ المشكلات الإنسانية غير المنظمة.
يقترح رايك إجراء تغييرات منهجية كبيرة بما يكفي لتحفيز تحويل أكبر في ثقافة قطاع التعليم، ولكنه لا يقترح خطوات عملية يمكن للأفراد الملتزمين بالمؤسسات التعليمية اتباعها لإحداث هذه التغييرات. يؤدي عدم تحديد الخطوات العملية وإغفال الدور المركزي الذي يؤديه المدرّسون إلى نشوء فجوة بين الأفكار النظرية والإجراءات العملية، وعلى الرغم من تأكيده هذه النقطة في مقدمة كتابه فهو لا يعززها فيما ناقشه فيه. لا يمكن لأجهزة الكمبيوتر أداء وظيفة التعليم، البشر فقط هم القادرون على أدائها. وبالتالي، ينهي القارئ الكتاب وفي ذهنه تساؤلات كثيرة عما يمكنه فعله لمعالجة مواضع القصور في تكنولوجيا التعليم عن بعد التي أصبحت ذات أهمية حيوية في خضمّ جائحة كوفيد-19 المستمرة بلا نهاية.