أدى ظهور تشات جي بي تي وغيره من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى إحداث تغيرات متسارعة في المشهد التعليمي؛ فبعد أن كانت مجرد تكنولوجيا تجريبية، أصبحت اليوم عنصراً محورياً في قاعات الدراسة والواجبات والاختبارات. وهذا يستدعي طرح أسئلة ملحة: كيف يمكن استخدام هذه التكنولوجيا؟ ولماذا؟ ومن يستخدمها؟ ولأي غرض؟.
بدلاً من التركيز على تبني أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي فحسب، ينبغي للمعلمين وصناع السياسات ومطوري التكنولوجيا أن يطرحوا السؤال التالي: ما هو نوع النظام التعليمي الذي نبنيه باستخدام الذكاء الاصطناعي؟ "علينا احتضان هذه الأدوات ودمجها في السياسات والأساليب التربوية؛ إذ لا يمكن التعويل على استمرارية استخدام برامج حظر التصفح في أثناء الاختبارات وسياسات الفصل الصارمة ومنع استخدام هذه المنصات". يقتضي هذا إحداث تغيير جذري في النظام التعليمي يستند إلى القيم. ويستعرض هذا المقال ما يتيحه الصعود المتسارع لتشات جي بي تي وسائر أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي من فرص للابتكار، كما يختبر قدرتنا على تصميم أنظمة تعليمية عادلة قائمة على أسس أخلاقية ومفيدة اجتماعياً.
يوفر الذكاء الاصطناعي التوليدي مزايا ملموسة عند استخدامه بمسؤولية في المجال التعليمي؛ فقد أثبتت الأبحاث والدراسات التجريبية أن أدوات مثل تشات جي بي تي قادرة على:
- تخصيص التعلم، من خلال تقديم شروحات وتعليقات مصممة حسب احتياجات كل طالب.
- رفع كفاءة المهام الإدارية، عبر دعم المعلمين في التصحيح وإعداد المحتوى وتخطيط الدروس.
- تعزيز التعبير الإبداعي، من خلال مساعدة الطلاب على استكشاف اللغة والسرد القصصي وإنتاج المحتوى.
- دعم الطلاب الناطقين بلغات متعددة والمقبلين على التخصصات التقنية، لا سيما أولئك الذين يواجهون صعوبة مع نماذج التعليم التقليدية.
- الإسهام في تعزيز المهارات الرقمية لدى الطلاب؛ إذ يمكن توظيف التدريس المدعوم بالذكاء الاصطناعي لتعليم المهارات الحيوية في مجال تكنولوجيا المعلومات.
عند دمج تشات جي بي تي بصورة مدروسة في العملية التعليمية، يمكنه الإسهام في إتاحة المعرفة للجميع وتخفيف الأعباء عن المعلمين وتمكين الطلاب من التفاعل مع المحتوى بأساليب جديدة. ولا تمثل هذه الإمكانات مجرد فكرة نظرية، بل تمثل تحولاً حقيقياً بالنسبة للطلاب في الأنظمة التعليمية التي تعاني نقص الموارد أو المثقلة بالأعباء.
الابتكار في غياب الضوابط
ومع ذلك لا يكفي الابتكار وحده؛ فقد كشف الاعتماد المتسارع على الذكاء الاصطناعي في التعليم، بقيادة الطلاب الذين سبقوا المؤسسات التعليمية بخطوات في هذا السياق، عن ثغرات كبيرة في الاستعداد، خاصة في الجوانب الأخلاقية والإدارية والتربوية.
تشمل أبرز المخاطر ما يلي:
- السرقة العلمية والاعتمادية المفرطة: استخدام الطلاب الذكاء الاصطناعي للتحايل على عملية التعلم بدلاً من تعزيزها.
- التحيز والمعلومات المضللة: تتأثر مخرجات تشات جي بي تي بالبيانات التي تدرب عليها، ما قد يؤدي إلى ترسيخ أوجه عدم المساواة الاجتماعية أو تضمين معلومات مختلقة.
- إرباك آليات التقييم: تواجه نظم التقويم التقليدية صعوبة في التمييز بين عمل الطالب الحقيقي والمحتوى المولد بواسطة الذكاء الاصطناعي، ما يضعف مصداقية الدرجات والملاحظات المقدمة.
- الخصوصية وإساءة استخدام البيانات: قد يؤدي غموض شروط الاستخدام وآليات جمع البيانات إلى تعريض خصوصية الطلاب للخطر.
- تهديد أدوار المعلمين: إن السردية التي تروج للاستغناء عن المعلمين، بدلًا من تعزيز دورهم، تهدد بتقويض قيمتهم المهنية.
يلجأ العديد من المؤسسات إلى فرض الحظر أو القيود على استخدام الذكاء الاصطناعي، بيد أن هذه الإجراءات الارتجالية تعجز عن معالجة المشكلة الهيكلية الأعمق؛ فنحن نفتقر إلى استراتيجية متماسكة ومبنية على القيم لدمج الذكاء الاصطناعي في التعليم.
إعادة النظر في دور المعلمين: من رقيب إلى موجه
بدلاً من مقاومة الذكاء الاصطناعي، على المعلم أن يصبح موجهاً ناقداً له؛ فأدوات الذكاء الاصطناعي لا تضعف دور المعلم، بل تعيد تشكيله. وقد أظهر منهج "تقييم أنظمة التدريس المعتمدة على الذكاء الاصطناعي" في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الذكاء الاصطناعي يوفر أساليب مبتكرة للتدريس وفرصاً جديدة لتعلم الطلاب.
على المعلم اليوم أن:
- يساعد الطلاب على التفاعل النقدي الواعي مع أدوات الذكاء الاصطناعي.
- يصمم نماذج تعليم هجينة توظف الذكاء الاصطناعي، مع التشديد على التفكير البشري والتعاون والذكاء العاطفي.
- يعزز الثقافة الرقمية بوصفها مهارة أساسية لا تقل أهمية عن القراءة أو الرياضيات.
- يشارك في وضع السياسات المؤسسية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، لضمان توافقها مع القيم التعليمية، لا الإمكانات التكنولوجية وحدها.
تدعو هذه المنهجية إلى تبني منظور شامل على مستوى المنظومة بأكملها: كيف يمكننا إعادة تصميم المنظومة التعليمية للاستفادة من الذكاء الاصطناعي دون الخضوع له؟ على قادة التعليم أن يحولوا الذكاء الاصطناعي من قوة مقلقة ومزعزعة إلى ابتكار راسخ أخلاقياً يسهم بفعالية في رسم ملامح مستقبل التعليم.
ضرورة دمج الذكاء الاصطناعي وفق مبادئ أخلاقية
إذا أخفقت الأنظمة التعليمية في التحرك بخطى استراتيجية، فقد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى مفاقمة أوجه عدم المساواة القائمة؛ فهذه الأدوات، شأنها شأن غيرها من التكنولوجيات، ليست محايدة؛ بل تعكس توزيع القوى وتفاوت مستويات الوصول والتحكم. والتحديات الأخلاقية في مجال التعليم تتجاوز بكثير مسألة اكتشاف السرقة العلمية. ومثلما أوضحت عالمة البيانات والرياضية البارزة، كاثي أونيل، قائلة: "الخوارزميات تنشر التحيز على نطاق واسع".
يقول مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، كلاوس شواب: "علينا أن نواجه، على المستويين الفردي والجماعي، القضايا الأخلاقية والمبدئية التي تثيرها الأبحاث المتقدمة في مجالي الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية"
ينبغي أن تستند استراتيجية دمج المبادئ الأخلاقية إلى ما يلي:
- إرساء قواعد مؤسسية واضحة توضح الاستخدام المقبول وتكفل النزاهة الأكاديمية والشفافية في التقييم.
- تنسيق جهود التعاون بين الجامعات وصناع السياسات وشركات تكنولوجيا التعليم ومؤسسات المجتمع المدني لضمان توافق التشريعات التنظيمية مع الابتكار.
- اعتماد نهج تصميمي يتمحور حول العدالة، بما يضمن عدم استبعاد الطلاب والمعلمين المهمشين أو الإضرار بهم نتيجة التغيرات القائمة على الذكاء الاصطناعي.
- توجيه الاستثمارات نحو البنية التحتية الرقمية والتدريب، لا سيما في المناطق المنخفضة الموارد.
يجب أن تكون الاعتبارات الأخلاقية محوراً أساسياً عند دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم؛ فلا يصح أن تأتي سياسات الذكاء الاصطناعي في هذا السياق في مرتبة لاحقة، بل ينبغي تصميمها بالتعاون مع المعلمين والطلاب واستناداً إلى هدف يتمثل في تعزيز التعلم الشامل والهادف، كما ينبغي أن يعزز الذكاء الاصطناعي الجوانب البشرية للتعليم، لا أن يحل محلها.
رؤية شاملة للمستقبل
لا يكفي إدخال بعض التعديلات على المناهج الدراسية أو تحديث البنية التحتية التكنولوجية لمواكبة الذكاء الاصطناعي، بل لا بد من إحداث تحول شامل في فهمنا للمعرفة والتعلم ودور التعليم في المجتمع؛ إذ يتوقع عالم الكمبيوتر جيفري هينتون "تفوق أنظمة التدريس المعتمدة على الذكاء الاصطناعي على المعلمين البشر"، ويدعو إلى تبني سياسات تعليمية استباقية، محذراً من خطر تهميش الجامعات التي تتأخر تتأخر في التكيف مع هذه المستجدات.
على الأنظمة التعليمية أن تتحرك على عدة مستويات:
- توعية قادة التعليم وصناع السياسات بطبيعة أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي وما تستطيع ولا تستطيع فعله، مع توضيح قدراتها وحدودها وإمكاناتها المستقبلية.
- إعداد الطلاب لا ليستخدموا الذكاء الاصطناعي فحسب، بل ليخضعوه للتساؤل أيضاً، ويطوروا في الوقت نفسه قدرتهم على التفكير الأخلاقي والتفكير النقدي وحل المشكلات.
- ضمان إسهام التكنولوجيا في تعزيز العلاقة الإنسانية في التعلم، لا أن تحل محلها.
- وضع رفاه الأفراد وحرية الاختيار والقدرة على الإبداع في صميم العملية التعليمية، جنباً إلى جنب مع تنمية المهارات والمعرفة بالمحتوى.
يقول أستاذ تكنولوجيا التعليم مايك شاربلز: "إن لم يتعلم أحد، فلن يستفيد أحد". وإن كان هناك وقت مناسب لإعادة النظر في أساليب التقييم، فهو الآن. قد لا تكون هذه التحولات سهلة، لكنها ضرورية. فأدوات الذكاء الاصطناعي تعد اختبار لقيمنا التعليمية. وينبغي أن يتمحور نقاشنا حول دور الذكاء الاصطناعي في التعليم على الغاية الأساسية للتعليم، ألا وهي تنمية التفكير النقدي واستثمار الفرص الجديدة؛ وتضيف في نفس السياق المديرة المشاركة بمعهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المتمحور حول الإنسان، في-في لي: "الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الذكاء البشري، بل هو أداة لتعزيز قدرة البشر على الإبداع والابتكار"
بدلاً من الاكتفاء برد الفعل، لا بد من المشاركة في صناعة المستقبل
لا مفر من التوسع في اعتماد الذكاء الاصطناعي في التعليم، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل سنشكل مساره بأنفسنا، أم نسمح له بأن يعيد تشكيل مستقبلنا؟ إذا تعاملنا مع الذكاء الاصطناعي على أنه مجرد تحد تقني، فسنضيع فرصة تحويل التعليم إلى منظومة أكثر إنسانية وشمولاً واستشرافاً للمستقبل.
يقول أحد رواد الفكر في مجال الذكاء الاصطناعي، ستيوارت راسل: "يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي أداة نستخدمها لتعزيز قوة حضارتنا وقدراتها".
يمكن أن تسهم أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل تشات جي بي تي، في بناء هذا المستقبل، لكن ذلك مشروط بدمجها على نحو أخلاقي ونقدي وهادف. ويتطلب هذا الظرف قيادة حاسمة وواعية قادرة على مواجهة مقاومة التغيير التي يبديها بعض قادة التعليم ممن لم يستوعبوا بعد التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي ولا الفرص التي يتيحها، ومن هنا ينبغي على المؤسسات التعليمية أن تتخذ قراراً واعياً بتشكيل مستقبل دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم وأن تقدم نموذجاً للابتكار القائم على الأخلاق والمسؤولية الاجتماعية.
وختاماً، نوصي قادة التعليم باتخاذ الخطوات التالية لضمان تكامل الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية بشكل فعال وأخلاقي:
- تبني رؤية استراتيجية لدمج الذكاء الاصطناعي في منظومات التعليم، ترتكز على فهم عميق للفرص والتحديات التي يطرحها، بعيداً عن ردود الفعل العاطفية أو التوجسات التقليدية.
- إنشاء وحدة تنظيمية مخصصة، ولو على المدى المتوسط، تتولى الإشراف على دمج الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة في المناهج الدراسية وأساليب التدريس وآليات التقييم والبنية التحتية ودعم الانتقال الآمن والفعال إلى عصر الذكاء الاصطناعي.
- إعداد مبادئ توجيهية أخلاقية واضحة لدمج الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، تتماشى مع قيم المؤسسة واحتياجات الطلاب.
- توفير بيئات آمنة لتجريب استخدام الذكاء الاصطناعي، بدعم من أعضاء هيئة التدريس والطلاب.
- الدخول في شراكة مع مطوري تكنولوجيا التعليم في تصميم أدوات تراعي الشمولية والشفافية.
- الاستثمار في برامج الثقافة الرقمية لتمكين كل من الطلاب والموظفين.
- الانضمام إلى تحالفات بين القطاعات المختلفة أو المبادرة بتأسيسها للعمل على تعزيز الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في التعليم.