التفكير التصميمي في قطاع التعليم العالي

6 دقائق
التفكير التصميمي في قطاع التعليم العالي
Shutterstock.com/4 PM production

دخل التعليم العالي في مرحلة انتقالية، إذ يُطلب من الجامعات اليوم إعادة النظر في الافتراضات الثابتة المتعلقة بالمكان والوقت والجودة؛ ذلك في ظل تغير الخصائص الديموغرافية للطلاب، والتطور السريع لمطالب أصحاب المصلحة، والتقنيات الجديدة، ونتوقع أن تستمر الجامعات في السنوات القادمة باتّباع نماذج التعليم العالي التقليدية؛ التي تفضل الأساليب القديمة والاستقرار، إن لم تُستبدل بنماذج جديدة تتبنى الابتكار التنظيمي والاستجابة والتكيف.

يوفر التفكير التصميمي في قطاع التعليم العالي مسارات مهمة لتشكيل هذه النماذج الجديدة، ويمكن أن يكون التغيير التنظيمي خياراً يؤخذ بعد دراسة؛ بحيث يشكل الهدف واتجاه التغيير نفسه. يشير هذا المنظور إلى أن هناك خيارات تتعلق بالتصميم يتعين اتخاذها حول ما تسعى المؤسسة إلى تحقيقه، وكيفية تنظيم ذاتها لتحقيق تلك الغايات؛ إذ تواجه العديد من القطاعات- وخاصة التعليم العالي- تحديات متعلقة بالأسواق القديمة والناشئة، وينبغي أن يكون هناك بعض من الجامعات على استعداد لتجاهل إحداها لصالح الأخرى؛ نظراً لأن كلا السوقين أساسيين ويمكن أن يكون لهما أدوارٌ مهمة في تحقيق المهمة الاجتماعية للتعليم العالي.

وجدنا أن استراتيجية تصميم «التحول المزدوج» أثبتت فاعلية خاصة في التعامل مع الأسواق القديمة والناشئة، وتعمل العمليتان بالتوازي وفقاً لهذا النهج؛ إحداها لتحسين الاستراتيجيات المعنية بتطوير المؤسسة ذاتها لتصبح أكثر استجابةً للمطالب الجديدة التي تواجهها، والأخرى لتصميم وتنفيذ الابتكارات المزعزعة التي توفر أساساً النمو المستقبلي والمرونة والاستجابة. نقدم هنا مجموعة من التوصيات حول كيفية تنفيذ التحول المزدوج في قطاع التعليم العالي:

صحيح أننا نشير إلى العديد من الكليات والجامعات، لكننا نركز على كيفية تبني المؤسسات التي نعمل فيها؛ وهي «جامعة بريغهام يونغ - أيدهو» (Brigham Young University-Idaho) و«جامعة ولاية أريزونا» (Arizona State University)، مبادئ التحول هذه. هاتان المؤسستان مهمتان كدراسات حالة لأوجه التشابه والاختلافات بينهما، إذ أن «جامعة بريغهام يونغ - أيدهو» هي كلية دينية خاصة مدة الدراسة فيها أربع سنوات وتأسست قبل أقل من عقدين من الزمن بعد إعادة تنظيم جذرية لكلية داخلية مميزة كانت مخصصة للتعليم المتوسط. في المقابل، تعتبر «جامعة ولاية أريزونا» جامعة أبحاث عامة وشاملة كانت في السابق كلية محلية للمعلمين والتي تبرز الآن بين الجامعات المحلية الأخرى لالتزامها بالقدرة على الوصول للطلاب وتميزها.

على الرغم من هذه الاختلافات الهامة المتعلقة بالتاريخ والهيكلة، اعتمدت الجامعتان نماذج تصميم تسهّل الابتكار على طول مسارات متعددة تبدو متضاربة، فكلاهما ملتزمتان بنجاح جميع الطلاب، وقد خضعتا لعملية تحول للاستجابة بصورة مستمرة لمجموعة جديدة من التحديات التي تواجه التعليم العالي.

تصميم جامعات العصور الوسطى يعيش ليومنا هذا

المعرفة هي جوهر التعليم العالي، وتعود جذوره الحديثة في أوروبا إلى القرن الحادي عشر؛ حيث أُسست أولى الجامعات من نقابات الطلاب الممارسين والمدرسين الخبراء، وقد جُمعت المعرفة في هذا النظام من قِبل الخبراء ونُقلت إلى أولئك المدرسين؛ وهو أسلوب يضعنا حتى يومنا هذا بصورة طبيعة الإدارة الذاتية لهيئة التدريس فيما يتعلق بتصميم الجامعات.

يلقي هذا الأسلوب بظلاله على التعليم العالي؛ حيث تمكنت الجامعات على مدى أجيال من الوفاء بمهامها العلمية والاجتماعية والاقتصادية من خلال تكرار النجاحات السابقة، والعديد من الكليات والجامعات اليوم موجهة داخلياً بذات هياكل الإدارة وصنع القرار حول الموارد وأساليب العمل وأشكال الإشراف والمشروعية، لذلك، فإن منطق التصميم الذي ساد في التعليم العالي يمكن أن يشجع أحياناً على اتّباع معايير محددة ويثبط الابتكار؛ ابتداء من عدد الكتب في المكتبات، إلى عدد الساعات التي يقضيها الطلاب في المحاضرات، إلى ما يشكل البرنامج الدراسي؛ أي أن هناك ضغوط قوية تدفع نحو التوافق.

خدمت هذه المعايير الصارمة التعليم العالي كثيراً حتى هذه المرحلة، فقد ساعدت على ضمان الجودة رغم التقلبات؛ التي تميزت بالانتشار السريع للمؤسسات الجديدة، وامتدت لقرون من الزمن، إلا أن العصر الحديث يتطلب قدراً أكبر من المرونة والابتكار. يجب أن نتجنب التركيز بشكل مفرط على دراسة مجموعة محدودة من الإجراءات الأكاديمية من خلال العوامل التي تهدف إلى ضمان الجودة، مثل أن تكون الجامعة معتمدة؛ أي يمكن القول أن الإفراط في التركيز على التوافق يحد من الاستكشاف والتمايز، وأحياناً الجودة على مستوى النظام. 

علاوةً على ذلك، فإن التحديات التي تواجه التعليم العالي اليوم فريدة من نوعها على مر التاريخ، لقد أصبح التقدم التكنولوجي المتسارع وواسع الانتشار الآن جزءاً من حياتنا، وفي حين لوحظ التقدم التكنولوجي بين الأجيال منذ الثورة الصناعية، فإن مزايا التقدم يتمتع به الأثرياء في المقام الأول، لكننا نقترب بسرعة من النقطة التي ستصل فيها تلك المزايا (ربما ببساطة من خلال خيارات التصميم) إلى الجميع، حتى الفقراء.

نحن نعلم أيضاً أن قدرة المجتمع على استيعاب التقنيات الجديدة آخذة في الازدياد؛ إذ بينما استغرق اعتماد الهواتف من قِبل 10% من الأميركيين- قبل قرن من الزمن- 25 عاماً، وصلت أجهزة الكمبيوتر اللوحية إلى هذه النسبة من اختراق السوق في غضون خمس سنوات، وفي حين وصل الكمبيوتر الشخصي إلى ربع سكان أميركا خلال 16 عاماً، استغرق الإنترنت سبعة أعوام فقط.

نتيجةً للتقدم التكنولوجي السريع وزيادة القدرة على دمج التقنيات الجديدة في النظم الاجتماعية المعقدة، أصبح لدينا الآن قدرة أكبر على الوصول إلى المعلومات والأدوات لجمعها ونقلها ومعالجتها. كان من المتوقع في السنوات الماضية أن تنتقل المهارات المهنية من جيل إلى آخر، لكن يُقدر اليوم أن 65% من تلاميذ المدارس سيعملون في وظيفة أو مهنة غير موجودة حالياً، ولأول مرة في تاريخ البشرية، يتغير أسلوب حياة الناس وعملهم تغييراً جذرياً خلال فترة عمر افتراضي واحد أو أقل.

بالإضافة إلى التغير التكنولوجي واسع النطاق؛ الذي يرفع التوقعات المتعلقة بالحراك الاجتماعي على نحو ثابت وفقاً لتقرير حديث صادر عن «مؤسسة بروكينغز» (Brookings Institution)، تنمو الطبقة الوسطى على مستوى العالم بنحو 140 مليون شخص سنوياً، ومثلت ما يقارب 3.2 مليار شخص في نهاية عام 2016، إلا أن الوصول الحقيقي إلى الكليات في الولايات المتحدة؛ الذي يُقاس من حيث نجاح الطالب وإتمام دراسته، يبقى محصوراً بالعائلات الميسورة، في حين أن الالتحاق بالكليات للطلاب من ذوي الدخل المنخفض قد زاد من 28 إلى 45% منذ عام 1970، ويتضاءل هذا الرقم أمام 82% من الطلاب من ذوي الدخل المرتفع الذين يلتحقون بالكليات.

تُعتبر الفجوة أكبر فيما يتعلق بالتخرج، إذ أن 77% من الطلاب الأميركيين من ذوي الدخل المرتفع يحصلون على درجة البكالوريوس في سن 24، مقارنةً بـ9% فقط من الطلاب من ذوي الدخل المنخفض. بعبارة أخرى، الطلاب من العائلات ذات الدخل المرتفع في أميركا هم أكثر احتمالاً بثماني مرات للتخرج من الطلاب الذين ينتمون إلى العائلات الأكثر فقراً، وبالتالي، فإن قدرة التعليم العالي في أميركا على المساهمة في الديمقراطية محدودة بطبيعتها، ويمكن القول أن ذلك يعود إلى تصميم الجامعات.

الانتقال نحو حلول التصميم

تشير هذه الاتجاهات التكنولوجية والاجتماعية مجتمعةً إلى أن العديد من الكليات والجامعات ستحتاج إلى تدريس مواد جديدة لفئات جديدة وأعداد أكبر من الطلاب للحفاظ على قيمتها بالنسبة إلى المجتمع، ويتطلب القيام بذلك نماذج تصميم جديدةً تماماً، لكن في مواجهة التغير الاجتماعي السريع، كان الاتجاه السائد بين الكثير من المؤسسات في التعليم العالي هو تعزيز النماذج التقليدية، وتَمثَّل جزء من هذا في ضخ الموارد في التكنولوجيا التي تديم النموذج الدراسي التقليدي، بالإضافة إلى الفشل في تسخير المزايا الفريدة للتعلم عبر الإنترنت والتعلم عن بعد، كما أن قادة الجامعات غالباً ما يختارون الاستثمار في وسائل الراحة للطلاب، والجهود المبذولة لتعزيز التصنيف من أجل زيادة أعداد الطلاب الملتحقين بجامعاتهم، على حساب الابتكارات ذات التأثير الحقيقي على الطلاب على المدى الطويل.

نرى أن المشكلات التي تعاني منها الكليات والجامعات هي نتيجة الفشل في قيادة التكيف القائم على التصميم، وكخطوة أولى في صياغة حلول التصميم؛ نوصي بالنظر إلى التحديات التي تطرحها الأسواق القديمة والناشئة على حد سواء، باعتبارها تحديات مستقلة، وإسناد مسؤولية محددة متمحورة حول الابتكار لمواجهة الوظائف المختلفة للجامعة، في حين أن هذا ليس سوى نهج واحد، لكنه يوفر فرصاً مهمة لإعادة تنشيط جوهر المؤسسة الأكاديمية مع السماح للمؤسسات الجديدة باستكشاف وابتكار المجالات التي يتم تجاهلها أو التقيد بالقديم منها بلا داعٍ.

بصورة عامة، يشجع إطار التحول المزدوج؛ الذي ندعو إليه المؤسسات، على البدء في العمل على صعيدين منفصلَين ومترابطَين جداً في الوقت ذاته؛ أولاً، «التحول أ»؛ وهو إعادة تصميم جوهر عمل المؤسسة لتحسين قدراتها من حيث التدريس والبحث، بينما يستلزم التحول الثاني؛ أو «التحول ب»، التصميم الدقيق للقدرة على الاستجابة للفرص الجديدة أو المطالب الاجتماعية. ضمن سياق التعليم العالي، وبالنظر إلى «التحول أ»، ينبغي على المؤسسات الأكاديمية خفض التكاليف، أو الخروج من العروض التي لا تميزها كفايةً، والاستثمار في المجالات التي ستعيد تكييف التدريس والبحث الجوهريين، بطرق من شأنها دعم الميزة التنافسية في مشهد دائم التغير، وبالتالي، فإن «التحول أ» يتعلق بالخيارات المتعمدة التي تواجهها كل جامعة، حيث يكون الفشل في الاختيار بمثابة خيار فعلي للقدرة المتواضعة المكلفة.

على النقيض من ذلك، ينبغي التعامل مع «التحول ب» كفرصة مميزة تركز على نماذج جديدة تماماً، وأسواق طلابية منفصلة، وتتضمن أمثلة الابتكارات المتعلقة بهذا التحول التعلم عبر الإنترنت والتعليم عن بعد وأشكال أخرى من شأنها رفع قدرة الوصول للطلاب، ويقدم قطاع التعليم العالي العديد من دراسات الحالة للمؤسسات التي قامت بتحولات ناجحة على مستوى بُعد واحد من هذين البعدين، بينما يقدم عدد أقل من الحالات؛ بما في ذلك «جامعة بريغهام يونغ - أيدهو» و«جامعة ولاية أريزونا»، أمثلةً عن التحول الناجح على مستوى البعدين معاً.

أكمل قراءة المقالة الثانية من هذه السلسلة للتعرف أكثر عن التفكير التصميمي في الجامعات

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

 

المحتوى محمي