كيف يسهم التعليم الرقمي في دعم أهداف التنمية المستدامة؟

5 دقائق
التعليم الرقمي
shutterstock.com/creo2

تعد جائحة كورونا أكبر تحدٍ في العصر الحديث لقطاع التعليم، حيث أدت لأكبر تعطيل للنظام التعليمي في التاريخ الحديث؛ فخلال أيام قليلة، تأثر تعليم نحو 1.6 مليار طالب في أكثر من 190 دولة حول العالم. وبقياس هذا الإغلاق على نسبة الطلاب حول العالم، نجد أن نسبة 94% من طلاب العالم قد تعطل تعليمهم، وتأثر أكثر من 99% من الطلاب في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث تأخر الطلاب بثمانية أشهر عن المستوى الذي كانوا ليصلوا إليه لولا الجائحة.

لكن، كما قيل إن التحديات تصنع الفرص، ففي فترة الحظر العالمي، اضطر العالم في غضون أيام لإيجاد حلول جديدة لاستمرارية التعليم، فالنموذج التقليدي لم يعد متاحاً، إذ أُغلقت المدارس وأصبح الطلاب والمعلمون في منازلهم؛ لذلك، انتقل الغالبية إلى تطبيق التعليم عن بُعد سواء عن طريق التعليم الإلكتروني أو عبر التلفاز أو الإذاعة، أو غيرها من الوسائل المتاحة لمتابعة التعليم بشكل مدمج، ما ساعد في ظهور واقع جديد للتعليم. وانتشر مصطلح "التعليم بعد كوفيد-19"، وتوقع تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي بعنوان: "جائحة كوفيد-19 غيّرت التعليم للأبد" (The COVID-19 pandemic has changed education forever) أن الجائحة ستشكل علامة فارقة في تاريخ التعليم، خاصة بعد ظهور ما سأطلق عليه مصطلح "التعليم الرقمي"؛ للدلالة على مختلف طرق التعليم عن بعد أو المدمج أو الإلكتروني.

نمو سوق التعليم الرقمي كنموذج جديد

لم يكن النقاش حول التعليم الرقمي قبل جائحة "كوفيد-19"، متداولاً كثيراً، فلم يتخيل أبرز المتفائلين بأن يُطبق إلا خلال عقد أو عقدين من الزمن في نطاق محدد في الدول المتقدمة. واليوم، أصبح الباب مفتوحاً لأكبر تحول في تاريخ التعليم منذ عصر الثورة الصناعية، بلا شك، نحن مقبلون على تحولات كبيرة في التعليم والفضل لجائحة "كوفيد-19".

فإذا نظرنا إلى سوق "التعليم الرقمي" قبل جائحة "كوفيد-19"، نجد أن تقرير سوق التعليم عبر الإنترنت قدّم تحليلاً مفصلاً لصناعة التعليم عبر الإنترنت، وتوقع نمو سوق قطاع التعليم الرقمي إلى نحو 350 مليار دولار أميركي بحلول 2025. لكن بعد جائحة "كوفيد-19"، التي سرّعت من نمو هذا السوق، تأثر واقع وتوقعات تقرير سوق التعليم عبر الإنترنت للفترة بين عامي 2022 و2027، حيث وصل واقع حجم السوق إلى 269.87 مليار دولار أميركي في سنة 2021، فيما جاءت توقعات نمو سوق التعليم الرقمي بتضاعف حجم السوق إلى 585.48 مليار دولار أميركي بحلول عام 2027.

التحول والتطور الذي شهده قطاع التعليم خلال جائحة "كوفيد-19"، والتطوير الذي يشهده التعليم الرقمي، يمكنه أن يوفر فرصة لتطوير نموذج تعليمي جديد وجيد ومنخفض التكلفة وقابل للتوسع بشكليه الرقمي والمدمج. ولتحقيق هذا التحول بنجاح، فإن الأمر يتعدى الجانب التكنولوجي ويشمل جهوزية البنية التحتية والرقمية، وتطوير السياسات والمعايير، وبناء القدرات لمختلف المستويات في القطاع التعليمي، وتعزيز الشراكات بين مختلف القطاعات التعليمية والأكاديمية والتكنولوجية والتنظيمية بما يسهم في صياغة مستقبل التعليم الرقمي ودعمه خاصة للفئات الأقل حظاً حول العالم.

استمرارية التعليم والفجوة الرقمية

على الرغم من تحديات التعليم عن بعد خلال فترة جائحة "كوفيد-19"، كانت الأولوية هي استمرارية التعليم، حيث كان التحصيل متفاوتاً؛ تبعاً لكثير من المعطيات منها الجهوزية للتعليم الرقمي من مختلف أطراف العملية التعليمية وطرق تطبيقها وكذلك توافر البنية التحتية التكنولوجية.

ثمة العديد من المشاكل التي قد تعيق دور التعليم الرقمي، ففي الوقت الذي قطعت فيه العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية شوطاً في تحقيق استمرارية التعليم عبر هذا النمط، لا يزال الملايين من الطلاب من اللاجئين والمجتمعات الأقل حظاً في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل محرومين من ميزات التعليم الرقمي؛ بسبب محدودية الوصول للإنترنت وخدمات التعليم الرقمي، حيث تكافح المؤسسات التعليمية والمؤسسات غير الحكومية ومؤسسات الإغاثة الأخرى في تقديم التعليم ضمن بيئة التعليم التقليدي أو ما يطلق عليه "التعليم ضمن أماكن الطوب والأسمنت" (Brick-and-Mortar education).

لذلك، فقد أكدت أزمة "كوفيد-19" أهمية الوصول للإنترنت لاستمرارية التعليم، كما أثبتت أهمية حق الوصول للإنترنت للفئات الأقل حظاً من المجتمع والحاجة أكثر من أي وقت سبق لتعزيز الجهود الدولية في سد الفجوة الرقمية بين الدول والمجتمعات. هنا، كان التحدي ومنه وُلدت الفرصة، فمع هذا التحول خلال فترة قصيرة، تغيرت وجهات النظر المعارضة للتعليم الرقمي، فهو الواقع الذي لا مفر منه، حالياً وكثرت النقاشات والدراسات حول طرق التعليم الرقمي وكيفية تطويرها، وكذلك تسارعت وتيرة تطوير تكنولوجيات التعليم الرقمي بصورة لم نشهد لها مثيلاً. كما تطورت ثقافة التعليم الإلكتروني بين مختلف أطراف العملية التعليمية من مسؤولين ومعلمين وأولياء أمور، وبالطبع الطلاب خلال نحو سنتين من الواقع الجديد، ممهدة بذلك الطريق إلى التعليم الرقمي كنموذج جديد يلبي الطموحات ويعزز الفرص.

وبالنظر للتحديات والفرص في قطاع التعليم وأهداف التنمية المستدامة، لعل أبرز من يمكن أن يستفيد من هذه التحولات هي المجتمعات الأقل حظاً في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، فالتطور في قطاع التعليم الرقمي والمدمج يطرح خيارات جديدة خارج النموذج التقليدي للتعليم، والذي يواجه العديد من التحديات التي تحيل دون تحقيق الهدف الرابع لأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في التعليم المتمثل في ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع، وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة. وحسب تقديرات "اليونسكو" (UNESCO) قبل الجائحة، فإن أكثر من 264 مليون طفل لا يحصلون على فرص التعليم، وهذا الرقم قابل للزيادة نظراً للتبعات الاقتصادية والاجتماعية للجائحة، علماً أن هناك حاجة لأكثر من 69 مليون معلم إضافي في ظل وجود 85 مليون معلم بالفعل في جميع أنحاء العالم، وذلك لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة للتعليم 2030. وبطبيعة الحال، سيكون هناك حاجة لبناء الملايين من المدارس، لكن حتى لو توفر التمويل، فإن هذا النموذج في توفير التعليم يعتبر عالي التكلفة وصعب الانتشار؛ بسبب التناقص العالمي في عدد المعلمين.

تجربة الإمارات لنشر التعليم الرقمي

في الوقت الذي تكافح فيه بعض الدول نمط التعليم التقليدي، تمتلك دولة الإمارات العربية المتحدة تجربة رائدة عالمياً في مجال التحول الرقمي في التعليم أو ما يعرف بالتعليم الإلكتروني أو التعلم الذكي؛ حيث أُطلقت أول مبادرة للتعليم الإلكتروني المدرسي في عام 2008، وتلاها إطلاق برنامج محمد بن راشد للتعلم الذكي عام 2012، الذي يعد أول مشروع للتعلم الذكي علي مستوى وطني شامل، وأدى دوراً كبيراً في جهوزية النظام التعليمي العام واستمراريته خلال الجائحة. وعلى الجانب التنموي في التعليم، وتحديداً التعليم الرقمي، أطلقت الإمارات عدداً من المبادرات الرائدة إقليمياً وعالمياً منها: مشروع منصة "مدرسة" للتعليم الإلكتروني الذي أُطلق عام 2018 من قبل مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، إذ قدمت أكثر من 63 مليون حصة تعليمية، ووفرت أكثر من 6 آلاف فيديو تعليمي باللغة العربية مجاناً في مواد العلوم العامة والرياضيات والفيزياء والكيمياء واللغة العربية لكل المراحل الدراسية، وتعتبر بذلك أكبر منصة عربية تدعم جميع الطلاب العرب بمواد تعليمية رقمية ذات جودة عالية. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2020، أطلقت أيضاً مبادرة "المدرسة الرقمية" التعليمية، التي تعد أول مدرسة عربية من نوعها، تهدف إلى توفير التعليم عن بُعد بطريقة ذكية ومرنة للطلاب من شتى الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والمستويات التعليمية، وتستهدف الفئات المجتمعية الأكثر هشاشة والأقل حظاً واللاجئين في المجتمعات العربية والعالم.

تستهدف المدرسة الرقمية ضم مليون طالب في أول خمس سنوات حيث دشنت المرحلة التنفيذية لتشمل 20 ألف طالب في خمس دول هي الأردن والعراق ومصر وموريتانيا وكولومبيا. واستطاعت المدرسة الرقمية، خلال فترة وجيزة نسبياً، تحقيق مجموعة كبيرة من الشراكات عبر تأسيس تحالف مستقبل التعليم الرقمي الذي يضم حتى اليوم أكثر من 30 جهة محلية وعالمية.

التعليم الرقمي مسار رئيسي في المستقبل

لعل أهم درس مستفادة من الجائحة في قطاع التعليم، كان إمكانية حل مشكلات التعليم في البلاد منخفضة الدخل بفضل اتباع التعليم الرقمي، وكيف يمكنه توفير الدعم اللازم لأطفال اللاجئين، لذلك أعلنت الأمم المتحدة عن قمة تحويل التعليم المزمع عقدها في سبتمبر/ أيلول 2022، حيث اقترحت خمس مسارات عمل جديدة تعد ذات أهمية عالمية لتحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة المعني بالتعليم، منها التعليم الرقمي وهذا يؤسس لبداية مرحلة محورية في تبني التعليم الرقمي وتحويله من خيار فرعي إلى مسار رئيسي في خطط وبرامج تحويل التعليم عالمياً.

في الختام، التعليم هو أساس التنمية وتحويل التعليم إلى عملية رقمية مطلب أساسي لمواكبة التحديات واستغلال الفرص التي توفرها الثورة الرقمية، فالتعليم الرقمي يوفر فرصاً كبيرة، على الرغم من مواجهته الكثير من التحديات، لكن لا يمكن التغلب عليها إلا عبر رؤية متكاملة وبتضافر الجهود من مختلف القطاعات وعلى مختلف المستويات. وإن كانت التجربة الإماراتية ناجحة، فضلاً عن تبني قمة تحويل التعليم لأسس التعليم الرقمي أيضاً، فإن الحاضر يشير إلى إمكانية اعتماد هذا النمط التعليمي كمسار رئيسي، ومن ثم، تحقيق الهدف الرابع من أهدف التنمية المستدامة للتعليم.

المحتوى محمي