تولّد التكنولوجيا تغييرات كبيرة في الشركات والأسواق والأنظمة الاقتصادية، لذلك يتعين علينا إعادة تصور الطرق المتبعة في تعليم مدراء المستقبل، وتعدّ أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة دليلاً مرشداً.
تولّد التكنولوجيات الجديدة تغييرات جذرية في طرق العمل بعالم الشركات والحكومات، وتبدو شركات القرن الواحد والعشرين مختلفة جداً عن سابقاتها؛ فقد أصبحت أكثر مرونة وأقصر عمراً، لا تقوم على التراتبية الهرمية ولا تتمتع بقدر كبير من الاستقرار. ولكن التعليم الإداري بقي متأخراً عن التغيير الذي تشهده المؤسسات، وكي يتمكن من مواكبته يجب أن يتبع إرشادات توجيهية جديدة كي يحقق هدفه. وبرأيي، توفر أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة إطار عمل محكماً للطريقة التي يجب اتباعها في تعليم مدراء المستقبل.
التعليم الإداري في القرن العشرين
التعليم الإداري هو منتج القرن العشرين الذي أذّن ببدء حقبة سيادة الشركات الكبيرة؛ إذ نمت شركات جنرال موتورز (General Motors) وأيه تي آند تي (AT&T) وجنرال إلكتريك (General Electric) ويو إس ستيل (US Steel) وأصبحت أمثلة على القوة الصناعية، وكان الإنتاج بكميات كبيرة والتوزيع الشامل في وفورات الحجم يثبت أن الشركات الأكبر حجماً تكون تكلفتها أقل بشرط أن تتم إدارتها على النحو الصحيح، لذا أصبح قطاع الأعمال بحاجة إلى مدراء مهنيين لشغل وظائف نظامه الهرمي الذي يتسع باستمرار، فتم إنشاء مؤسسات تعليمية لتزويده بهم، مثل كلية هارفارد للأعمال التي تم تأسيسها في عام 1908.
كما خلقت البيروقراطية الحكومية طلباً على التعليم الإداري، ففي عام 1908 كانت الحكومة الفيدرالية لا تزال صغيرة جداً، ولم تكن الضرائب مفروضة على الدخل والعقارات، ولم يكن لوزارة العمل أي وجود، ولم يكن قطاع الأعمال خاضعاً للتنظيم بعد، وكانت الميزانية الفيدرالية أصغر من الأصول التي تملكها شركة يو إس ستيل؛ ولكن بسبب ضغط الحركة التقدمية ترافق نمو قطاع الشركات مع نمو الحكومة المركزية القادرة على ضبطه والسيطرة عليه.
كانت كليات الإدارة تتطابق بتصميمها وإدارتها مع الشركات التي تخدمها، وحتى اليوم نرى أن غالبية كليات الأعمال في العالم قائمة على النظام الذي كانت الشركات الأميركية تقوم عليه في عام 1970، إذ تضم أقسام الشؤون المالية والمحاسبة والعمليات والتسويق والإدارة والاستراتيجية؛ لو تحولت شركة آي بي إم إلى كلية أعمال لكانت ستبدو مثل كلية هارفارد للأعمال تماماً.
ولكن تنظيم شركات اليوم مختلف جداً عما كان عليه في عصر ازدهار "الشركات الكبرى"؛ إذ أصبح عدد الشركات العامة في الولايات المتحدة الأميركية اليوم أقل مما كان عليه قبل 20 عاماً بمقدار النصف، وفي حين حلّت الوظائف محل المهن سابقاً يحل العمل المستقل محلّ الوظائف اليوم، وأصبح بإمكان شركات التكنولوجيا اليوم العمل بعدد قليل من الموظفين والإداريين. خذ مثلاً شركة نتفليكس (Netflix) التي تضم 5,500 موظف فقط في العالم بعد أن أسهمت في إفلاس شركة بلوك باستر (Blockbuster) التي كانت تضم 90 ألف موظف، كما أن عدد موظفي الحكومة الفيدرالية اليوم مماثل لعددهم في عام 1974عندما غادر الرئيس ريتشارد نيكسون مكتب الرئاسة، وازداد اعتماد الحكومة على مجموعة متنامية من الموظفين بعقود، ويعمل كثير من المدراء مع عدد قليل جداً من المرؤوسين أو من دون أي مرؤوس على الإطلاق، وتبتعد شركات اليوم كل البعد عن نظام التسلسل الهرمي البيروقراطي القديم.
نماذج الشركات الجديدة
تعتمد المؤسسات اليوم على شركات مزودة للأعمال الأساسية الجاهزة، وأصبحت شبيهة بشركة نايكي (Nike) التي تعتمد على موظفين متخصصين بعقود لأداء مهامها الأساسية. تقدم هذه الشركات خدمات التصميم (مثل شركة آيديو - IDEO) والتوظيف (مثل شركة أديكو - Adecco) والبرمجة (مثل شركة أب وورك - Upwork) وتنظيم كشوف الرواتب (مثل أمازون ويب سيرفيسز - Amazon Web Services) والتصنيع (مثل شركة علي بابا - Alibaba) وواجهة المتجر الإلكترونية (مثل شركة سيلز فورس - Salesforce) والتوزيع (مثل شركة أمازون). سيكون بإمكان أي شخص إنشاء شركة بحدّ ائتماني متواضع نظراً لتدني التكاليف الأولية إلى حدها الأدنى.
أدى نظام العمل هذا إلى خلق أشكال تنظيم جديدة كلياً. خذ مثلاً قدر الطهي إنستانت بوت (Instant Pot)، وهي قدر (حلة) ضغط إلكترونية تعمل بالتكنولوجيا الفائقة شهدت معدلات بيع غير مسبوقة منذ عقود في فئتها وأصبحت أداة المطبخ الأكثر مبيعاً؛ صممها دكتور في هندسة الكمبيوتر عاطل عن العمل يدعى روبرت وانغ، ومولها بنفسه بمبلغ 350 ألف دولار، وطرحها على موقع أمازون في عام 2010. تم تصنيعها بالتعاقد مع شركة تصنيع صينية، وتضمنت خطة "التسويق" إرسال قدر إنستانت بوت إلى 200 شخص من أصحاب المدونات المؤثرين ومؤلفي كتب الطهي، ثم مراقبة مراجعات زبائن موقع أمازون حولها بحرص شديد، أما خطة التوزيع فقد تضمنت إدراجها ضمن قوائم موقع متجر أمازون (Amazon.com). في عام 2018 باع متجر أمازون 300 ألف قدر إنستانت بوت في فعاليته السنوية "برايم داي" (Prime Day)، وبلغت قيمة مبيعات المتجر السنوية منها 300 مليون دولار. تحتوي قدر إنستانت بوت على برامج لأفضل الوصفات من جميع المطابخ المعروفة تقريباً، سواء كانت وصفات المطبخ الإيطالي أو وصفات حمية باليو أو الوصفات النباتية أو الحلال. بعد نجاح الشركة الأم لقدر إنستانت بوت في اختراع هذه الفئة والهيمنة عليها، ما زالت تعمل بخمسين موظفاً فقط في إحدى ضواحي مدينة أوتاوا الكندية. يعد هذا النموذج المكافئ الصناعي للمتجر المؤقت، ولكنه يتمتع ببصمة واسعة النطاق في قطاع تجارة التجزئة.
ثمة شركات أقصر أجلاً بعد، مثل وايز (Wyze) وسَن فالي (Sunvalley) التي تبحث عن المنتجات الباهظة الثمن في متجر أمازون (مثل كاميرات الويب والكابلات الإلكترونية وبطاريات الهواتف النقالة) من أجل تقديم منتجات منافسة جديدة أفضل بسعر أقل بكثير. في متجر أمازون، لم يعد المنتج الأكثر مبيعاً هو منتج الشركة ذات العلامة التجارية الأشهر، بل المنتج الذي يحصل على أفضل التقييمات من الزبائن بسعر معقول، مثل أجهزة التلفاز فيزيو (Vizio) التي تمكنت من إزاحة تلفاز سوني من السوق، ويتم تطبيق استراتيجيات مماثلة في مختلف قطاعات السوق. يقول كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، فرهد مانجو: "سنحصل على منتجات أفضل بأسعار أقل بكثير، وستواجه الشركات الكبرى التي تقدم أبرز المنتجات الرائدة في العالم على اختلاف فئاتها صعوبة أكبر من أي وقت مضى في إقناعنا بدفع مبالغ كبيرة لشراء أجهزتها". في مواجهة مراجعات الزبائن التي يمكن الاعتماد عليها تتضاءل أهمية أسماء العلامات التجارية أكثر فأكثر.
كيف نقوم بتعليم المدراء على نحو يتلاءم مع المستقبل؟
تشكّل هذه التغييرات الجوهرية التي شهدناها في الأعمال والأسواق على مدى العقد الماضي تحدياً هائلاً يواجه التعليم الإداري، وأقول دائماً لزملائي إن كليات الإدارة تتبنى نظام شركة إيستمان كوداك لتدريب الموظفين على العمل في شركة إيستمان كوداك، فهي تضم أقساماً منعزلة للمحاسبة والشؤون المالية والعمليات والتسويق والإدارة والشؤون القانونية، ويتم تنظيمها وفق تراتبية هرمية ثابتة تتيح للموظفين الأعلى رتبة قضاء مسيراتهم المهنية بأكملها في نفس الشركة. بينما نجد في العالم الخارجي أن النظام الرأسمالي يمر بعملية إعادة تنظيم هائلة أزاحت الشركات الكبرى التي كانت مهيمنة في القرن العشرين على اعتبارها المؤسسات المركزية المسؤولة عن تنظيمه، وذلك يخلق متعة جديدة للمستهلكين ومخاطر كبيرة على العمالة ويمنح العوامل الرقمية والمالية التي تتحكم بحياتنا أشكالاً جديدة غامضة من القوة.
يجب أن يخضع نظام التعليم الإداري إلى تعديلات كبيرة في عالمنا الذي تتضاءل فيه الشركات التقليدية وتنتشر الأعمال المؤقتة، وفيما يلي أقترح 4 إرشادات توجيهية لإجراء هذه التعديلات:
1. "الأعمال" و"الإدارة" هي وسائل لا هدف
الغاية من الإدارة هي تلبية الاحتياجات البشرية، والفعالية في تلبيتها هي المقياس النهائي لنجاح الشركة، ولسنا بحاجة إلى تقديس أدوات التعاون البشري (مثل الشركات الربحية). يقوم أحد زملائي في كلية روس لإدارة الأعمال بجامعة ميشيغان، جيم والش، باختبار جمهوره بالسؤال التالي: "القانون بالنسبة للعدالة مثل الدواء بالنسبة للصحة ومثل الإدارة بالنسبة لماذا؟" تتنوع طرق تفكير الناس في هذا السؤال بدرجة مذهلة، ويمكننا اقتراح الجواب التالي: الغاية الشاملة من الإدارة اليوم هي تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وهي 17 هدفاً تشمل القضاء على الفقر والجوع وضمان الصحة الجيدة والرفاهة والمساواة في التعليم والمساواة بين الجنسين. إذا دربنا طلابنا على الإدارة بوضع هذه الأهداف دليلاً مرشداً للتعليم الإداري فسنولّد قوة دفع للتقدم البشري أكبر من التي تولّدها ابتكارات وادي السيليكون.
2. فلنتوقف عن تقديس رأسمالية المساهمين
عانينا أذى كبيراً ناجماً عن فكرة أن الشركات وجدَت من أجل خلق القيمة للمساهمين وأن سعر السهم هو المقياس الأهم لنجاح أعمالها، لربما كانت افتراضاً مفيداً في ثمانينيات القرن الماضي ساعد على تفكيك تكتلات الشركات المتضخمة التي نمت وأصبحت مهملة أكثر مما ينبغي، ولكن من الواضح أن نظرية القيمة السهمية لم تعد مفيدة اليوم. مع التناقص الكبير في عدد الشركات العامة في أوقات الرخاء والأزمات على حد سواء، لم يعد من المنطقي تعليم طرق "تعظيم القيمة السهمية" على اعتبارها الهدف الأساسي من الأعمال لا سيما أننا نشهد ولادة بدائل مالية مبتكرة جديدة كل عام.
3. يجب أن ندرب طلابنا بأسلوب لا إداري بدرجة كبيرة على استخدام أفضل وسائل تحقيق الأهداف الإدارية
في بعض الأحيان يتمثل النهج الأنسب في الشركة الربحية التي يملكها المساهمون، ولكنه في أحيان أخرى يتمثل في المؤسسة غير الربحية أو الشركة الاجتماعية أو السياسة الحكومية أو نظام برمجي مفتوح المصدر (مثل لينوكس) أو حركة اجتماعية أو شكل جديد تماماً من العمل التعاوني. نعيش اليوم في عصر يستطيع فيه منشور واحد على منصة فيسبوك في اليوم التالي للانتخابات دفع نصف مليون امرأة (وغيرهنّ أيضاً) للتجمع بنفس اليوم في مدينة واشنطن مرتديات قبعات وردية اللون. أصبحت مجموعة الطرق التي يمكن اتباعها في إنجاز الأعمال عبر العمل التعاوني (أي الإدارة) أوسع من أي وقت مضى، ولكننا نبدأ العمل بافتراض أن أي حلّ سيفضي في نهاية المطاف إلى الشركة العامة؛ وهذا تقييد ليس له أي مبرر.
4. المهارات اللازمة للعمل الإداري في عالم المنصات والأعمال المؤقتة تختلف عن المهارات التي كانت مطلوبة في الشركات التقليدية الكبرى
نتخيل أن التعليم الإداري قادر على التعلّم من نهج جامعة وولدورف، حيث يتعمق الطلاب في دراسة الفنون والثقافة كي يتمكنوا من تطبيق التفكير الإبداعي في كل المواد الدراسية على اختلافها. في الكلية التي أعمل فيها نهدف إلى منح الطلاب فرصة احتضان الابتكارات الاجتماعية بالاعتماد على الموارد المتعددة التخصصات الواسعة النطاق في الجامعة عن طريق المشاريع المؤقتة التي يتم تنفيذها في مركزنا إمباكت ستوديو (Impact Studio). لا نعتبر إلقاء كلمة ترويجية مقنعة على المستثمرين هدفاً نهائياً (على خلاف كثير من حاضنات الأعمال)؛ بل يتمثل هدفنا في إحداث تأثيرات إيجابية ملموسة في العالم.
على الرغم من أن عالم المؤسسات يشهد تغييرات جذرية، فعالم التعليم الإداري لم يتغير كثيراً. والآن هو أنسب وقت للتفكير فيما يجب أن يتضمنه التعليم الإداري وطرقه التي تتلاءم مع القرن الواحد والعشرين، وسيساعد تدريب المدراء على استخدام أدوات التعاون الجديدة سعياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، مع اتباع أسلوب لا إداري بدرجة كبيرة لتدريبهم على استخدام الوسائل (سواء كانت ربحية أو غير ربحية أو حكومية أو غيرها) في إنشاء العالم الذي نرغب في العيش فيه.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.