تعد منظومة البحث العلمي والتعليم من المحركات الرئيسية لتحقيق التنمية الوطنية والتنافسية الدولية، ومن دون استثمارات وإصلاحات جوهرية في البحث العلمي والتعليم، تخاطر الدول بالتخلف عن ركب اقتصاد المعرفة العالمي، ما يقلل من تنافسيتها عالمياً.
يشير التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية الصادر عن مركز الفكر العربي إلى أن التعليم قادر على صياغة المفاهيم والقيم وتزويد الأفراد بالأدوات التي تساعد على تحسين سبل عيشهم وجعل النظم الاقتصادية والغذائية أكثر شمولاً ونفعاً للمجتمعات.
كما توفر المؤسسات التعليمية إمكانيات كبيرة لتعزيز المساواة بين الجنسين والتنوع والاندماج الاجتماعي من خلال تقديم فرص متساوية للوصول إلى المعرفة وتنمية المهارات. وقد أشار تقرير حديث إلى أن تثقيف الفتيات والنساء يعد من أفضل الطرق لتحسين التكيف المجتمعي مع تحديات المناخ.
وفي المقابل، يؤثر عدم تطور منظومة البحث العلمي والتعليم تأثيراً كبيراً في التنمية الوطنية ويقلل من القدرة التنافسية للبلدان على المستوى الدولي. فمنظومة التعليم التي تعاني نقص التمويل، والبنية التحتية القديمة، وقلة الباحثين المهرة، تؤدي إلى إنتاج أبحاث متفرقة ومحدودة التأثير تعجز عن تلبية احتياجات التنمية المحلية بفعالية. ويحد هذا القصور من تطوير رأس المال البشري الضروري للابتكار وخلق تقنيات تتناسب مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية، ما يقيد النمو الاقتصادي والقدرة على المنافسة عالمياً.
علاوة على ذلك، يؤدي ضعف دمج البحث العلمي في صنع السياسات إلى فقدان فرص اتخاذ قرارات مبنية على الأدلة التي من شأنها تعزيز نتائج التنمية، كما تواجه الدول ذات الأنظمة العلمية الضعيفة مشكلة هجرة العقول، إذ ينتقل الباحثون الموهوبون إلى دول أكثر تطوراً، ما يزيد من خسارة القدرات المحلية.
ومن هنا، يمكن النظر إلى تجربة الولايات المتحدة بوصفها مثالاً بارزاً على أهمية الاستثمار في البحث العلمي والتعليم، فقد أسهمت البيئة البحثية الملائمة في تعزيز مكانتها المميزة عالمياً في الابتكار والتنمية الاقتصادية، حيث صنفت في المرتبة الثانية عالمياً في الإنتاج البحثي وفقاً لمؤشر نيتشر إنديكس لعام 2024.
وفي الوقت الذي تدرك فيه دول الخليج أهمية البحث العلمي، فإن هناك أسئلة جوهرية دون إجابات اليوم، من أبرزها: أي نوع من الأبحاث نحتاج إليه؟ كيف يمكن أن تكون هذه الأبحاث أكثر التصاقاً بالأولويات الوطنية؟ لأي أهداف مجتمعية ينبغي أن تخصص الجهود البحثية؟ كيف يمكن ربط الأنشطة البحثية بأولويات التنمية الوطنية؟ هذه الأسئلة تزداد أهمية مع تأكيد الباحث البريطاني المعروف جون تشايلد أن "البحث يستخدم موارد بشرية ومالية مكلفة، لذلك يجب تقييم أدائه وفقاً لقدرته على دعم احتياجات التنمية الوطنية، وليس وفقاً لمؤشرات الأداء الشائعة وغير الفعالة المنتشرة اليوم". فمن دون رؤية استراتيجية واضحة تربط البحث العلمي بالأولويات المجتمعية والاقتصادية، قد تهدر دول الخليج استثمارات كبيرة في أنشطة بحثية ذات قيمة عملية محدودة.
تحديان رئيسيان أمام منظومة البحث العلمي في الخليج
على الرغم من استثمارات دول الخليج المالية في البحث العلمي والتعليم العالي، ما يزال التأثير الحقيقي لهذه الاستثمارات على التنمية الاقتصادية والاجتماعية محدوداً للغاية. في هذا السياق، نسلط الضوء على تحديين مهمين:
أولاً، ضعف الاستثمار النسبي: يشير تقرير حديث صادر عن برايس ووترهاوس كوبرز إلى أن متوسط الإنفاق العالمي على البحث والتطوير يبلغ نحو 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما لا تتجاوز دول الخليج ثلث هذا الرقم. في عام 2021، أنفقت السعودية وعمان وقطر والكويت أقل من 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي على البحث العلمي والتطوير. كما أن معدل النمو السنوي في إنفاق البحث في دول الخليج بين عامي 2017 و2021 كان 0.1% فقط؛ أي نصف المعدل العالمي. هذه الأرقام تؤكد أن ضعف الاستثمار يحد من قدرة المنطقة على تطوير بنية تحتية قوية، واستقطاب المواهب، وإنتاج أبحاث عالية الجودة.
ثانياً، ضعف الأثر الحقيقي للأبحاث: إضافة إلى تحدي التمويل، هناك مشكلة جوهرية تتعلق بضعف الأثر العملي للأبحاث. فعلى الرغم من زيادة عدد المنشورات البحثية في الخليج، فإن جودتها وتأثيرها الفعلي لا يزالان محدودين؛ إذ لا يظهر سوى 6% فقط من إنتاج دول الخليج البحثي في أبرز 5% من المجلات العالمية، مقارنة بـ 19% في سنغافورة و14% في المملكة المتحدة. وهذا يعكس ضعفاً واضحاً في ترجمة الجهود البحثية إلى نتائج ملموسة تفيد المجتمع والاقتصاد والسياسات العامة. كما أن هناك حالة من عدم الثقة الضمنية أو غياب التفاهم والتفاعل بين الباحثين من جهة، ومؤسسات الأعمال والصناعة وصانعي السياسات والمؤسسات الحكومية من جهة أخرى.
هذا التحدي المزدوج يثير سؤالاً جوهرياً أمام صناع القرار والمسؤولين في الجامعات الخليجية: لماذا نجري البحث العلمي؟ إن الإجابة الصادقة والواضحة عن هذا السؤال يمكن أن تكون بمثابة البوصلة التي ترشدنا إلى كيفية تخصيص الموارد وحجمها. لكن الواقع يشير إلى أن دوافع البحث في دول الخليج غالباً ما تكون متعارضة مع الاحتياجات الوطنية، بسبب تضارب أولويات الجهات المعنية المختلفة. فمثلاً:
- يرى معظم المسؤولين في الجامعات البحث العلمي وسيلة لتحسين التصنيف العالمي وزيادة المكانة الدولية.
- في حين، يرى معظم الباحثين البحث العلمي وسيلة للتقدم في مسيرتهم المهنية وأمانهم الوظيفي.
- في المقابل، هناك فئة قليلة من المسؤولين والباحثين تطرح أسئلة غير مرحب بها في الغالب حول أهمية جدوى الأبحاث العلمية ودورها في خدمة أهداف التنمية، لكنهم لا يملكون قوة كافية لإحداث تغيير جذري.
أدت هذه الأوضاع إلى انتشار ممارسات بحثية غير صحية على مستوى منطقة الخليج والعالم، مثل:
- التركيز المفرط على عدد المنشورات العلمية بدلاً من جودتها.
- التلاعب بعدد الاستشهادات لتعزيز مؤشرات تتعلق بإنجازات وتصنيفات شكلية.
- ثقافة "انشر أو اندثر" التي تبعد الأبحاث عن الأولويات الواقعية، إذ أدت الضغوط للنشر بغزارة إلى وفرة الأبحاث حول قضايا غير مهمة.
- ممارسات غير أخلاقية مثل التوظيف الشكلي وإساءة استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج عدد كبير من الأبحاث الضعيفة الأثر.
في ظل هذه البيئة، بات من المعتاد أن ينشر بعض الأفراد بحثاً جديداً كل أسبوع أو حتى كل بضعة أيام، في حين بدأ تأثير الباحثين الحقيقيين ومكانتهم بالتراجع. ويعود ذلك إلى هيمنة مؤشرات الإنجاز الرقمية، والاحتفاء بالمخرجات الكمية بغض النظر عن قيمتها الفعلية. وقد أسهم هذا التوجه في تهميش الجهود العلمية الجادة في بعض المؤسسات، ومهد لتحول المشهد البحثي نحو الأسوأ، ما لم يواجه هذا المسار بوقفة جادة وإصلاحات حقيقية. لقد أصبح البحث العلمي في كثير من المؤسسات التعليمية نشاطاً شكلياً يؤدى لأغراض إدارية أو تصنيفية، بدلاً من أن يكون وسيلة فعالة لتحقيق التنمية الوطنية الحقيقية.
من المقاييس الشكلية إلى القيمة الحقيقية: إعادة رسم أهداف البحث
عندما يتحول البحث إلى مجرد أرقام (منشورات، استشهادات، تصنيفات)، فإنه يؤدي إلى هدر الموارد وتفويت فرص حقيقية للتنمية. لذلك، يجب على الجامعات مقاومة إغراء السعي وراء المكانة والأهداف القصيرة الأجل على حساب دورها الوطني الطويل الأجل في خدمة مجتمعاتها. لذا، يجب إعادة تعريف الهدف من البحث في دول الخليج ليشمل:
- تحديد التحديات المحلية الملحة وفهمها بعمق.
- تقديم حلول عملية ومستدامة وقائمة على الأدلة.
- المساهمة في التنويع الاقتصادي وتعزيز المرونة الوطنية.
- تطوير منظومة معرفية قادرة على مواجهة المتغيرات المحلية والعالمية.
وكما أشار الأستاذ جون تشايلد، فإن "البحث الجامعي يتنافس مع أولويات الاستثمار الوطنية الأخرى. لذلك، ينبغي أن يصمم الاستثمار في البحث بما يتناسب مع الاحتياجات المحلية واستراتيجيات التنمية". لتحقيق ذلك، يجب أن تبدأ التغييرات على مستوى القيادات وصناع السياسات، وأن ترتكز على 3 أولويات استراتيجية:
- الأولوية للتأثير المحلي بدلاً من التصنيف الدولي.
- التركيز على جودة الأبحاث وتأثيرها بدلاً من الكم.
- ربط الاستثمارات البحثية بوضوح مع الأهداف التنموية الوطنية.
من خلال ترسيخ جهود البحث العلمي على أساس هذه الأولويات الاستراتيجية، العلمي يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي اتخاذ الخطوات الأولى اللازمة لضمان أن تحقق استثماراتها في البحث فوائد ملموسة وواقعية للمجتمع والاقتصاد على حد سواء. لذا، يعتمد تحقيق هذه الرؤية على إجراءات تحويلية مثل:
- تجديد معايير التوظيف والترقية والتقييم السنوي لإعطاء الأولوية للتأثير العملي، والتعاون بين التخصصات، والمساهمة في التنمية الوطنية.
- تشجيع المبادرات البحثية الجريئة، والعالية المخاطر، والطويلة الأمد، بدلاً من تفضيل الدراسات الآمنة، والقصيرة الأجل، وذات التأثير المحدود فقط.
- بناء منظومات بحثية متكاملة تعزز التعاون بين الجامعات والقطاعات الصناعية والحكومة والمجتمع المدني.
دون هذه الإصلاحات المنهجية، حتى أكثر ميزانيات البحث سخاء ستنتج عوائد محدودة وغير مستدامة لدول الخليج.
بارقة أمل: ملامح التحول نحو البحث المؤثر في الخليج
على الرغم من التحديات التي تواجه منظومة البحث العلمي في الخليج، بدأت بعض الجامعات باتخاذ خطوات عملية لإعادة النظر في أهدافها البحثية وربطها باحتياجات المجتمع والتنمية الوطنية. في هذا السياق، تشير بعض التجارب المؤسسية في المنطقة إلى بداية تحول تدريجي في الفهم والأولويات. على سبيل المثال، أظهرت بعض الجامعات الخليجية، ومنها جامعة قطر، مراجعات استراتيجية لمنهجياتها البحثية، ولا سيما في ضوء التغيرات العالمية في تقييم الأداء الأكاديمي، والجدل المتزايد حول محدودية مؤشرات التصنيف العالمي في عكس الأثر الحقيقي للبحث. وبدأت هذه المؤسسات تدرك أهمية تحويل التركيز من الكم إلى الكيف، ومن المؤشرات الشكلية إلى التأثير المجتمعي والاقتصادي.
ويتمثل التوجه الجديد لبعض الجامعات في:
- اعتبار خطط التنمية الوطنية إطاراً لتحديد الأولويات البحثية.
- تطوير مؤشرات تقييم تأخذ في الاعتبار الأثر الاجتماعي والتنموي.
- دعم نقل المعرفة والتكنولوجيا عبر آليات تمويل جديدة.
- الاستثمار في الكوادر الشابة، وبناء بيئة بحثية تشجع على الابتكار والتأثير، لا مجرد الإنتاج الكمي.
مثل هذه الخطوات، وإن كانت لا تزال في بداياتها، تعبر عن وعي متزايد بالحاجة إلى تجاوز النموذج القائم على "الترتيب لأجل الترتيب"، والتحول نحو نموذج بحثي أكثر اتصالاً بالواقع وأكثر قدرة على الإسهام في تحقيق الأهداف الوطنية.
كما أن هذا التوجه لا يقتصر على المنطقة فحسب؛ فقد اتخذت عدة جامعات مرموقة حول العالم، في الصين والولايات المتحدة وأوروبا، مؤخراً قرارات جريئة بالانسحاب من التصنيفات العالمية. ويعكس هذا التوجه المتنامي انتقادات واسعة للمنهجيات المتبعة في تلك التصنيفات، التي تتهم بإغفال القيم المؤسسية، والتركيز على مؤشرات كمية لا تعكس الأثر الحقيقي. هذا التحول في الرؤية والنهج، سواء في الخليج أو خارجه، قد يشكل نقطة انطلاق نحو بيئة بحثية جديدة تعيد الاعتبار لدور البحث العلمي بوصفها رافعة تنموية حقيقية، لا مجرد وسيلة للتفاخر أو الترتيب.
ضرورة تغيير الثقافة البحثية في دول الخليج
يتمثل أحد المحددات الرئيسة لنجاح دول الخليج في تحقيق التنمية المستدامة في قدرتها على تحويل البحث العلمي من نشاط دعائي وإعلامي إلى محرك فعال يسهم إسهاماً مباشراً في دعم الأهداف التنموية الوطنية. وبين هذين النموذجين تكمن فروقات جوهرية في الرؤى والاستراتيجيات وآليات العمل. وتعد التجربة الجديدة لجامعة قطر، إلى جانب الخطوات الجادة التي اتخذتها بعض المؤسسات التعليمية الرائدة عالمياً، دليلاً على أن هذا التحول ممكن، على الرغم مما ينطوي عليه من تحديات ومخاطر.
وفي نهاية المطاف، نؤكد أن نقطة الانطلاق الحقيقية نحو تغيير منظومة البحث العلمي تبدأ بفهم عميق وجوهري لطبيعة البحث العلمي ودوره الأصيل في بناء الأمم.
هذا الفهم الواعي يمهد الطريق لإعادة تشكيل القناعات والرؤى لدى صانعي السياسات والقيادات الأكاديمية، ما يؤدي إلى ترسيخ ثقافة جديدة للبحث العلمي تركز على الغرض والمعنى بدلاً من الرمزية والمكانة.
ومن هذا المنطلق، يصبح من الممكن إحداث تحول فعلي في السلوكيات والممارسات المؤسسية، من خلال إعادة تصميم أنظمة الحوافز، ومراجعة مؤشرات الأداء، وتوجيه الأولويات البحثية نحو ما يخدم المجتمع.
وعندئذ فقط، يمكن للبحث العلمي أن يتحول إلى أداة استراتيجية فعالة تسهم بجدية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في دول الخليج.
فنحن نعيش في منطقة شديدة التعقيد، وعالم يتسم بعدم الاستقرار، ولا يمكن التعامل مع هذه التحديات دون وعي عميق. وهذا الوعي لا يتحقق إلا من خلال بحث علمي رشيد، يمارس بوصفه أداة تنموية استراتيجية، لا وسيلة للتفاخر الإعلامي والمؤسسي.