في زخم الجهود التي تبذلها الدول والحكومات للحد من تداعيات تغير المناخ، يتركز الاهتمام حول سبل التحول إلى التجارة الخضراء، ففي الوقت الذي تسهم فيه حركة التجارة العالمية في تفاقم التحديات المناخية؛ يمكنها أن تكون أداة فعالة للانتقال إلى اقتصاد أكثر استدامة حفاظاً على البيئة.
في هذا الإطار، سيُعقد في الفترة من 12 إلى 15 سبتمبر/أيلول 2023، المنتدى العام لمنظمة التجارة العالمية، وسيدور النقاش حول الطرق التي يمكن أن تسهم فيها التجارة ببناء مستقبل أكثر خضرة واستدامة، ومنها إزالة الكربون من وسائل النقل، وتعزيز دمج أصحاب المشاريع الصغيرة في الممارسات المستدامة. فما أهمية التجارة الخضراء وما التحديات التي تواجهنا في تطبيقها؟
تقليل الانبعاثات الناتجة عن التجارة حاجة مُلحة
تتسبب حركة السفن والشاحنات والطائرات التي تنقل البضائع حول العالم بنحو 20-30% من انبعاثات الكربون العالمية، ما يخلق حاجة مُلحة إلى اعتماد إجراءات مستدامة تساعد على الانخراط في التجارة الصديقة للبيئة، وتطبيق آلية تسمح للأسواق بنشر التكنولوجيا النظيفة لتقليل استخدام الطاقة والحد من الانبعاثات السامة.
ويؤدي نقل البضائع وتصريفها كجزء من سلاسل القيمة العالمية المعقدة إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، إذ يأتي أكثر من 75% من الانبعاثات الناتجة عن التجارة العالمية من قطاعات محدودة، بما في ذلك الطاقة والنقل، وفي حال عدم اتخاذ أي إجراءات مستدامة ستواجه الشركات العديد من التحديات؛ فقد تضطر إلى نقل عملياتها إلى أماكن أخرى ذات معايير بيئية أقل، أو قد لا يتمكن المصدّرون من الدخول إلى أسواق ذات معايير بيئية عالية يصعب عليهم الالتزام بها.
بدأ التفكير في استدامة سلاسل التوريد ودعم أساليب الإنتاج المحلية والمرنة وتطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري للحفاظ على البيئة. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية التجارة الخضراء ودورها في تحقيق التنمية المستدامة من خلال خلق الوظائف، والقضاء على الفقر، وتوفير الغذاء، ففي عام 2019 بلغت قيمة التجارة الخضراء في الولايات المتحدة نحو 1.3 تريليون دولار، وخلقت نحو 9.5 ملايين وظيفة بدوام كامل، فيما سيسهم الاستثمار الأخضر وفرض ضرائب على انبعاثات الكربون في زيادة الناتج المحلي الإجمالي للصين بنحو 0.7% وخلق نحو 12 مليون وظيفة بحلول عام 2027.
قد يؤثر تغير المناخ سلباً على التجارة من خلال زيادة التكاليف وتعطيل سلاسل التوزيع والتوريد، لكن يمكن أن تشكل التجارة في الوقت نفسه أداة فعّالة لحل مشكلة تغير المناخ، فعند حدوث فيضان أو عاصفة مثلاً، ستساعد التجارة على توفير إمدادات الغذاء والدواء والسلع اللازمة لإعادة البناء، ومن جهة أخرى يمكن أن يسهم استخدام توربينات الرياح والألواح الشمسية في الحد من انبعاثات الكربون.
يتجه المسار اليوم نحو التجارة الخضراء، ويُفترض أن يكون لها دور أساسي في مكافحة تغير المناخ، لكن هذا الاتجاه يُثير قلق البلدان النامية من أن تقود رحلة التحول للاقتصاد الأخضر إلى حجب القيود الحمائية المفروضة على التجارة العالمية، الأمر الذي يوسع الفجوة بينها وبين البلدان المتقدمة ويعرقل مسار التنمية.
تحديات التحول إلى التجارة الخضراء
كي تسهم التجارة في تحقيق التنمية المستدامة يجب الموازنة بين حرية تبادل السلع والمنتجات وحماية البيئة والمسؤولية الاجتماعية، لكن نجد أن الخطط الخضراء التي تشجع على العمل المناخي، تخاطر بترك الاقتصادات النامية والناشئة خلف الركب وقد تخلق توترات تجارية تضر بسلاسل توريد التكنولوجيا الصديقة للبيئة، إذ واجهت متطلبات الإنتاج المحلي للبطاريات والسيارات الكهربائية انتقادات على اعتبار أنها ممارسات مقيّدة للتجارة وتخالف نظام التجارة الحرة المتعدد الأطراف.
تعرفة جمركية مرتفعة
تكمن المشكلة في التعريفات الجمركية المطبّقة على السلع والخدمات الصديقة للبيئة والتي تعيق التدفق الحر لتلك السلع، وتمنع البلدان النامية والفقيرة من حقها في امتلاك التكنولوجيا الجديدة التي تساعدها على مواجهة تقلبات المناخ، خصوصاً أن الانبعاث في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل نمت بوتيرة أسرع من المتوسط العالمي في الفترة من 2010 إلى 2018، كما تعد اقتصاداتها أكثر عُرضة لآثار تغير المناخ، إذ يعتمد الكثير منها على قطاعيّ الزراعة والسياحة اللذين يتأثران بارتفاع درجة الحرارة ومنسوب مياه البحر، كما لا تمتلك تلك البلدان الموارد الكافية التي تساعدها على التكيف مع تقلبات المناخ.
وبحسب البنك الدولي، قد يؤدي ارتفاع الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة إلى انخفاض الصادرات الزراعية للبلدان المنخفضة الدخل بنسبة 39% ما يخلق تهديداً لأمنها الغذائي، بالتالي يجب تعميم الأدوات والمنتجات التي تساعد على زيادة غلة المحاصيل، مثل البذور المقاومة لتقلبات المناخ، والأنواع الجديدة من الأسمدة، وتوفير التكنولوجيات والبيانات الرقمية للمزارعين لمساعدتهم على تقليل الهدر والفاقد.
ومن ناحية أخرى، عندما تكون التعريفات الجمركية على المنتجات الصديقة للبيئة منخفضة، ستفقد المنتجات الخضراء ميزتها التنافسية، لا سيما في الأسواق النامية والفقيرة التي يزداد فيها الطلب على السلع المنخفضة السعر.
لذا يجب إلغاء القيود عن الصادرات في حالة وقوع الأزمات حتى لا تتفاقم مشكلة نقص الغذاء العالمية، وأن تطبّق الدول التعريفات الجمركية المنخفضة على السلع الأقل كثافة في إطلاق انبعاثات الكربون، وليس على منتجات الصناعات الملوثة للبيئة مثل الطوب والأسمدة، فالتشجيع على الحماية المنخفضة للتعريفات الجمركية للسلع الكثيفة الانبعاثات سيخلق دعماً ضمنياً للكربون بما يتراوح بين 500 إلى 800 مليار دولار سنوياً.
بالمقابل، تتوقع منظمة التجارة العالمية، أن يؤدي تحرير السلع والخدمات البيئية من الرسوم الجمركية والحواجز غير الجمركية إلى تقليل انبعاثات الكربون بنسبة 0.6% لأن التدابير الرامية إلى حماية البيئة والتكنولوجيا التي تعمل على زيادة كفاءة استخدام الطاقة ستصبح في متناول الجميع. ويعد هذا المسعى ضرورياً لتحقيق هدف التنمية المستدامة 9.4 الذي يدعو إلى "اعتماد أكبر للتكنولوجيات والعمليات الصناعية النظيفة والسليمة بيئياً".
ومن التحركات الإيجابية في هذا الإطار، مبادرة التجارة الخضراء في مصر التي يستفيد منها 4,200 مُزارع في 6 محافظات، إذ تهدف إلى تعزيز سلسلة القيمة المستدامة في قطاع الزراعة، عبر توفير التقنيات الزراعية الحديثة والمستدامة لصغار مزارعي الطماطم لزيادة قدرتهم التنافسية وتمكينهم من الوصول إلى الأسواق العالمية.
دعم المنتجات الملوثة للبيئة
تتمثل المشكلة الأخرى في الدعم المقدم للمنتجات الملوثة للبيئة مثل الفحم والنفط، وفي حين يرى المدافعون عن دعم الوقود الأحفوري أنه أحد التدابير الاجتماعية لمكافحة الفقر، فإن 15% من الفقراء فقط يستفيدون منه، بحسب وكالة الطاقة الدولية.
وسجّل الدعم العالمي للوقود الأحفوري مستوىً قياسياً بلغ 7 تريليونات دولار في 2022 مرتفعاً بواقع تريليوني دولار على مدى العامين الماضيين، ليمثل دعم النفط والفحم والغاز الطبيعي نحو 7.1% من الناتج المحلي الإجمالي عالمياً؛ أي ما يفوق الإنفاق السنوي للحكومات على التعليم البالغ 4.3% من الدخل العالمي، وما يعادل نحو ثلثي ما تنفقه على الرعاية الصحية الذي يصل إلى ما يقارب 11%.
بالتالي خفض الدعم المقدم للوقود الأحفوري من شأنه أن يسهم في الاتجاه نحو تجارة أكثر خضرة، إذ توقعت دراسة أجراها المعهد الدولي للتنمية المستدامة عام 2021، أن يقلل إلغاء دعم الوقود الأحفوري للمستهلكين في 32 دولة من انبعاثات الغازات الدفيئة بمعدل 6.1% بحلول عام 2030، كما سيزيد إيرادات الحكومات بواقع 4.4 تريليونات دولار، وسيحمي 1.6 مليون شخص سنوياً من خطر الوفاة المبكرة.
يمكن أن تكون التجارة في حد ذاتها قوة دافعة للتنمية المستدامة، لكن يجب أن تدعم إنتاج التكنولوجيا النظيفة والسلع المنخفضة الكربون في البلدان الأكثر فقراً، وتساعد في خلق حوافز الابتكار وتعزيزها حتى تستفيد تلك البلدان من الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر. فإذا أردنا مواجهة فقدان التنوع البيولوجي وتقليل الانبعاثات الدفيئة وحماية المحيطات ووقف تدهور الأراضي، يجب أن تصبح التجارة العالمية أكثر استدامة وتسهم في حماية اقتصادات الدول النامية.