كيف نستعين بالتفكير التصميمي من أجل التصدي للتغير المناخي؟

نهج التفكير التصميمي
shutterstock.com/bellartdesign
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يشهد مناخ العالم تقلبات مستمرة، ولم تعد فصول السنة مستقرة وأصبحت الكوارث الطبيعية تتكرر بتواتر متسارع، وصغار المزارعين الذين ينتجون 70% من المحاصيل الغذائية في العالم هم أكثر من يعاني حالات عدم الاستقرار المناخية هذه. خذ صاحبة مزرعة البصل الكولومبية، دونا غيلما؛ فهي تعمل في أرضها منذ 32 عاماً، ولكن وصفة السماد الكيميائي والمبيدات الحشرية وروث الدجاج الخام التي تعتمدها لم تعد مجدية، وهي تعزو تضاؤل محصولها وتعفن جذور البصل إلى امتداد فصل الصيف لفترة أطول وارتفاع درجات الحرارة فيه وتزايد الأمطار في غير موسمها. ولكنها تطرح أسئلة أكثر من الأجوبة التي تملكها، ما هو المقدار الذي ينبغي لها استخدامه من السماد؟ هل زيادة الري أفضل في كل الأحوال؟ هل يساعد التسميد في زيادة حجم المحصول فعلاً؟

أصبح تقلب الطبيعة هو القاعدة، ولم يعد بإمكان صنّاع القرارات الزراعية الاعتماد على المعارف المتوارثة منذ أجيال، إلى جانب أن التغير المناخي يُعدّ أيضاً “مشكلة غموض” تسد الطريق أمام مجتمعات الخطوط الأمامية التي تقف عاجزة بعد أن فقدت المعارف السابقة جدواها. تحدث هذه التغييرات على نطاق واسع وبسرعة كبيرة، وبالتالي تتطلب مواجهتها استجابات نشطة على المستوى الفردي، أو ما يسمى في بعض الأحيان “التكيف الذاتي” (autonomous adaptation)، فعلى كل حال ما زالت الخبرات المناخية محصورة بدرجة كبيرة بالعلماء وواضعي السياسات الذين تفصلهم آلاف الأميال عن المواقع الأشد حاجة إلى الممارسات التكيفية، لكن “مشكلات الغموض” تستدعي حلولاً محلية وطرق علاج منطقية بالنسبة للمزارعين والصيادين الذين يواجهون بالفعل تحديات تهدد موارد رزقهم.

فلنتعرف على نهج التفكير التصميمي الذي يستخدم لبناء الحلول بالتعاون مع المجتمعات الأقرب من التحدي المعني ولأجلها.

تصميم الحلول

أقامت مؤسسة رير (Rare) بالتعاون مع معهد هاسو بلاتنر للتصميم (Hasso Plattner Institute of Design – d.school) بجامعة ستانفورد مشروعاً قائماً على مبادئ التصميم من أجل التصدي لمشكلة الغموض العالية المخاطر التي يواجهها مزارعو البصل الكولمبيون المتمثلة في تحديد القدر الكافي من السماد الكيميائي لإنتاج البصل من دون الإضرار بالأتربة التي تعاني المعالجة المفرطة أساساً. ما هذا إلا مثال واحد على مشكلات الغموض في إحدى زوايا العالم، ولكن تبقى مشكلة معالجة مشكلات الغموض التي تهدد قدرتنا على التكيف المناخي في الوقت المناسب في أكثر الأماكن عرضة للخطر من العالم، لذلك نأمل أن يفكر عدد أكبر من صناع التغيير في تبني نهج التفكير التصميمي عندما “تفقد المعارف السابقة جدواها”.

خذ مثلاً واحداً من صغار المزارعين يعمل في مزرعة مستأجرة في محافظة وادي كاوكا الكولومبية، واسمه خوسيه فالنسيا؛ إذ لاحظ أن إنتاجية تربة أرضه تتضاءل ولكن صعُب عليه تفسير السبب، فتسجيل كميات المواد المضافة وتكاليفها ليس ممارسة شائعة لا سيما بين مزارعي الجيل الأول مثل فالنسيا الذي نزح مؤخراً من محافظة نارينو المجاورة مع أعداد كبيرة من الأهالي نتيجة للصراع الداخلي الذي استمر في البلاد 40 عاماً. افترض فالنسيا أن معالجة التربة بكمية أكبر من المواد سيحسن احتمالات إنتاج محصول وفير من البصل الكبير الحجم الذي يزداد الطلب عليه من أجل صناعة حلقات البصل التي تزين شطائر البرغر المفضلة في البلاد.

يُجمع الخبراء على خطورة المواد الكيميائية التي تضاف إلى التربة الزراعية بهدف تنشيطها، وهذا الرأي مثبت، ولكن على الرغم من أن وكلاء الإرشاد الزراعي الحكوميين ينصحون بضبط المواد المضافة إلى التربة بحسب احتياجاتها، فتوصيل هذه المقترحات إلى مجتمعات الخطوط الأمامية هو عملية شائكة ليس لها أي نص واضح. وفي مواجهة التغيير المناخي، تؤدي المشكلات بطبيعتها الغامضة المستمرة بالتطور إلى إضعاف احتمالات تغيير الممارسات التقليدية التي يتبعها المزارعون لا سيما إذا لم تتوفر لديهم المعلومات أو الأدلة التي يقدمها المزارعون الآخرون الذين ينجحون في تبني حلول تكيفية جديدة.

بدلاً من التساؤل عن طريقة تعليم المجتمعات العلوم “المناسبة” للزراعة بطرق لا تضر المناخ، يولي مشروع مؤسسة رير ومعهد هاسو بلاتنر التعاوني الأولوية لمسألة مختلفة تتمثل في تحديد التجارب الحية التي تتيح للمجتمعات فهم بيئاتها بصورة أوضح وتقييمها على نحو أفضل. كيف يمكن تزويد المجتمعات بالأدوات القائمة على البيانات من أجل منحها القدرة على إدارة مواردها؟ يتمثل التغيير الحاسم في الإقرار بالغموض الجوهري في عالم الطبيعة، ويجب أن نعمل بمرونة قائمة على المعرفة من أجل توفير المعلومات التي يستند إليها العلماء والمصممون وصناع التغيير ومجتمعات الخطوط الأولى في تقرير استجابتهم للتحديات البيئية المستقبلية.

أجرى فريق مؤسسة رير ومعهد هاسو بلاتنر عملية مرتكزة على تجارب المزارعين فيما يتعلق بصحة التربة وفهمهم لها، كيف يمكن لمزارع صغير التعامل مع التحدي المزدوج المتمثل في تأمين رزقه وضمان تجدد التربة من أجل المواسم الزراعية التالية؟ نظراً للقيود التي تفرضها حالة الإغلاق العام العالمية الحالية من أجل الحدّ من انتشار جائحة كوفيد-19، ابتكر أفراد الفريق استراتيجيات لإجراء الأبحاث عن بُعد بدلاً من المقابلات الشخصية التقليدية، إذ عملوا على جمع الآراء من أشخاص يعيشون قريباً من محافظة وادي كاوكا ومراجعة الأبحاث المقارنة حول صغار المزارعين الذين يواجهون مشكلات مماثلة تتمثل في الاختيار بين إنتاجية التربة وتجديدها في مناطق وسط الغرب الأميركي.

وبدأت تتجلى صورة توضح أن حياة مزارعي وادي كاوكا غير مستقرة إذ يعيشون على إيرادات محاصيلهم في مواسمها، وهم لا يملكون الأراضي التي يزرعونها، ما يجعل الاستثمار في تربتها مرهوناً بقدرته على تحسين سبل عيشهم أولاً ثم بالفائدة التي يعود بها على البيئة. كانت الأسمدة باهظة الثمن وكان معظم المزارعين يحاولون معالجة جودة التربة المتردية بروث الدجاج الخام، وكانت مؤسسة رير تعمل من خلال برنامجها “الأرض من أجل الحياة” (Land for Life) مع شركاء محليين من أجل تجديد أهمية التربة في دعم سبل عيش المزارعين، ولكن المزارعين أبدوا تردداً في القيام بمجازفة مالية لتبني أساليب الزراعة الحديثة عندما لم يتمكنوا من فهم الفوائد الفورية لتعديل الأسمدة أو المواد المضافة إلى التربة.

ولذلك اتبع الفريق نهجاً يهدف إلى إزالة الغموض قدر الإمكان من عمليات الزراعة باستخدام اللغة التي يفهمها المزارعون.

توضح مراحل التصميم الأولى في برنامج حفظ السجلات للطلاب طريقة حلّ المعضلة الأساسية التي واجهها المزارع؛ “ما هو القدر المناسب من السماد؟”

مثلاً، يستخدم المزارعون لغة “جيد” و”سيئ” منذ سنوات، ولكن المشروع المشترك أدى إلى إدراك أن الدليل الإرشادي الملموس والمرئي يساعد المزارعين على فهم تربة أراضيهم بصورة أوضح، مع الاستعانة بأداة تتبع سهلة الاستخدام من أجل حساب ارتباط استهلاك السماد الشهري بنجاح المحصول.

النموذج الأوّلي للحلّ: أنكور داز وكانا هاموند وماتيلدا نيكل، دورة معهد هاسو بلاتنر للتصميم بجامعة ستانفورد بعنوان “التصميم من أجل تحقيق القدرة القصوى على تحمل التكاليف”، ربيع عام 2020.

يعمل الطلاب في معهد هاسو بلاتنر للتصميم على إنشاء عدة اتجاهات للحلّ ويجمعون التقييمات طوال فترة المشروع من الشركاء والمستخدمين النهائيين، ما يزيد احتمالات أن تكون الحلول الناتجة مفيدة وفي محلها. توضح هذه الرسوم التخطيطية التقريبية الحاجة إلى استخدام أساليب القياس التي يتبعها سكان المنطقة بصورة يومية بالفعل، قالت واحدة من أعضاء الفريق، ماتيلدا نيكل، وهي طالبة في السنة الأخيرة بقسم علم النفس بجامعة ستانفورد: “لاحظنا في بحثنا تفاوتاً كبيراً في الأرقام، إذ كانت كمية السماد التي يوصي بها المرشدون مختلفة جداً عن الكمية التي يستخدمها المزارعون بالفعل. عندئذ فكرنا: لِم لا نستخدم وحدات القياس التي يستخدمها المزارعون بالفعل؟” تحولت الصور التوضيحية المعروضة أعلاه إلى “قوائم مراجعة” شهرية تتيح للمزارعين تتبع الكميات التي يستخدمونها من السماد وفق وحدات القياس التي يعرفونها؛ “الحفنة” (ملء كف اليد)، و”الإبريق”، و”الكيس”:

صفحة “مخطط المحاصيل” من دفتر الأستاذ المخصص للمزارعين بعنوان “تكاليف إنتاج المحصول”.

تضمنت الخطوات التالية عمل موظفي مؤسسة رير مع خبير في الرسم التوضيحي على نحو مكثف لإنشاء أداتين جاهزتين للاستخدام الميداني لحفظ السجلات وتحليل التربة، وفي نسختيهما النهائيتين تجنب فريق العمل استخدام السجل التوجيهي الشائع في المواد التي يتم إنشاؤها عادة للمستخدمين النهائيين. تجزئ “بطاقة صحة التربة” التربة إلى عناصر القوام والرائحة والرطوبة التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من عمل المزارع اليومي في المزرعة، وفي دفتر الأستاذ المبسط، يُطلب من المزارعين شطب الأسابيع المجاورة للسطور التي تحتوي على تفاصيل أنشطة محددة مثل إزالة الأعشاب الضارة (deshierbe) ونثر البذار (siembra) والتسميد (fertilización) ورش المبيدات الحشرية (plagas y enfermedades). يجب اختبار هذه الأدوات واستخدامها بصورة متكررة على مدى عدة مواسم زراعية وتحسينها باستمرار والتأكد من أنها تحقق أهداف المزارعين والأرض على حد سواء.

سيتطلب النجاح الطويل الأمد نجاحاً في 3 أبعاد على الأقل؛ إذ يتمثل الهدف الأشمل والأكبر في ضمان دوام قدرة هذه الأرض على دعم البشر وبقية النظام البيئي الطبيعي الذي يعتمد عليها، ولكن على المستوى الأساسي، سيتحقق النجاح إذا ساعدت هذه الأدوات المزارعين على اتخاذ قرارات مجدية اقتصادياً وبيئياً فيما يتعلق بمعالجة التربة، وبذلك يمتلكون زمام السيطرة على اعتبارهم منتجين يعتمدون على أنفسهم ويستطيعون معالجة التحديات الزراعية التي يواجهونها بصورة فورية في ظل التغير المناخي الكبير الذي يشهده العالم، كما ستحقق نجاحاً من نوع آخر إذا تمكنت من دمج تجارب المشاركين الحية ومعارفهم العلمية في نفس الحوار.

في الختام، ما هذا إلا أحد الأمثلة على أن مشاركة الأفراد الذين يملك كل منهم جزءاً من المعادلة في صناعة القرار توقع أثراً حقيقياً في المنطقة بأكملها، فإما أن تصبح الأرض مرهقة بسبب التسميد المفرط وإما أن تبقى خصبة يمكن للأجيال المستقبلية زراعتها والاعتماد عليها. يزداد هذا التحدي صعوبة نتيجة للتقلبات الناجمة عن تغير المناخ، ونرى أنه عندما “تفقد المعارف السابقة جدواها” يصبح من الضروري تطوير أدوات جديدة لصناعة القرار وتصميمها بالتعاون مع المجتمع المسؤول عن إدارة الموارد على المدى الطويل ولأجله. وميزات التفكير التصميمي المتمثلة في فهم المشكلة من وجهة نظر إنسانية واستكشاف مجموعة من الحلول المختلفة واختبارها وتكرارها مرة تلو الأخرى ملائمة جداً للإجراءات التعاونية المرتجلة الضرورية لتغيير فهم الناس لموارد الأرض المحدودة وإدارتهم لها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.