في محمية السكان الأصليين "سيلفا دي ماتافين" الموحدة في كولومبيا، يمكننا أن نشهد ما يعنيه إطار تعويضات الكربون التمويلي لمشروع "خفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها في البلدان النامية" أو الذي يختصَر بـ (+REDD) للأشخاص الذين يعيشون في الغابات التي يحافظون عليها.
أخبرني "كاسيك ماتسولو" عندما وصلنا إلى مكاتب مؤسَّسة "أكاتيسيما" (ACATISEMA) الجديدة في مدينة كوماريبو: "كانت هذه المكاتب بحجم قن الدجاج. انظر كيف أصبحت". كان رجلاً من من السكان الأصليين السيكوان في أوائل الخمسينيات من عمره بتسريحة شعر مسطحة ضيقة (عسكرية) وعينين لطيفتين وابتسامة واسعة، وهو منسق المنطقة الأولى في محمية "سيلفا دي ماتافين" وأحد أهم قادتها، ويلقب بـ "كاسيك"، أي زعيم القبيلة.
رافقنا الزعيم بفخر في جولة حول المبنى الحديث المؤلف من طابقين، يتضمنان عدة مكاتب وقاعات اجتماعات. في الطابق العلوي، رأينا امرأتين تجريان حسابات على جداول بيانات برنامج إكسل. فوضحت المحاسبة "نيلا بارا" لنا: "نعمل على ميزانية العام المقبل"، وهي مسؤولة عن الطلبات المقدمة من قطاعات المحمية التي يبلغ عددها 16 قطاعاً ومجتمعاتها المحلية التي يبلغ عددها 315 مجتمعاً محلياً. تمثل مبيعات مشروع (+REDD) من أرصدة انبعاثات الكربون المسموح بها 100% من ميزانية تشغيل مؤسَّسة "أكاتيسيما"، التي ستعادل حوالي 5 ملايين دولار في عام 2022. يمول المشروع برامج المياه الصالحة للشرب والأمن الغذائي والتعليم والطاقة الشمسية والنقل، وذلك إضافةً إلى تغطية أجور الحراس من السكان الأصليين المرابطين في جميع أنحاء المحمية لحماية الغابة.
بعد زيارة العيادة الصحية المشيدة حديثاً، التي يمولها مشروع (+REDD) أيضاً، سافرنا عبر السافانا إلى مدينة كوماريانا، ودخلنا المحمية لأول مرة. أعلن الزعيم أمام مئة شخص تقريباً ممن حضروا وكانوا يتحدثون اللغة السيكوانية كلغة أساسية: "بعض الأشخاص الذين لا يفهمون مشروعنا (+REDD)، يسيئون إليه أو قد يرغبون حتى في سحبه منا،
إن الأشخاص الذين ينتقدونه يجلسون بعيداً في مكاتبهم في بوغوتا أو أوروبا. جاء "جون" و"لورينا" و"دانيال" لرؤية محمية "سيلفا دي ماتافين". سيعقََد اجتماع مهم حول التغير المناخي، ستتخذ فيه الحكومات من جميع أنحاء العالم قرارات مهمة تحدد ما إذا كانت أمنا الأرض ستعيش، ستعيش لأننا سنساهم في ذلك ونؤدي دورنا، أو ستموت، ستموت لأن بعض الأشخاص يفضلون الشجار حول ما يجب علينا فعله، بدلاً من اتخاذ إجراء عاجل".
التخلص من الأفكار السامة في الجدالات
مشروع (+REDD) هو إطار عمل تدعمه الأمم المتحدة يسعى إلى الحد من التغير المناخي عن طريق منع إزالة الغابات. إن اختصار (+REDD) يشير إلى "خفض الانبعاثات الناتجة عن إزالة الغابات وتدهورها في البلدان النامية"، ويدل رمز "+" على دوره في حفظ الغابات والإدارة المستدامة لها، وتعزيز مخزونات الكربون في الغابات. أضفى إطار عمل الأمم المتحدة حول التغير المناخي (UNFCCC) الطابع الرسمي على (+REDD) في عام 2005، بعد أن تطور على مدار العقد الماضي تحت عنوان "تجنب إزالة الغابات". وفقًا لتقرير نشرته مؤسَّسة "إيكو سيستم ماركيت بلايس" (Ecosystem Marketplace) بعنوان "ظلال مشروع (+REDD)" (+Shades of REDD) في عام 2019، "لو كانت الدول الغنية تعتقد حقاً أن قيمة الغابات في البلدان الفقيرة عامرةً أكبر من قيمتها مدمرةً، كما يشير المنطق، لاتخذت إجراءات فعلية لتساهم في إنقاذ تلك الغابات التي تتحدث عنها".
تقر اتفاقية باريس بأن الإدارة الأفضل للغابات يمكن أن تحقق 25% من التخفيض الضروري لإبقاء الاحتباس الحراري العالمي أقل من 2 درجة مئوية في حلول عام 2050. إن مشروع (+REDD) هو آلية تنشئ دورةً مثمرةً ومعززةً لإنقاذ المناخ من خلال تعاون الحكومات وقطاع الشركات ومجتمعات السكان الأصليين.
لإحراز تقدم نحو تحقيق هذا الهدف في مدينة غلاسكو، علينا التخلص من الأفكار السامة في جدلنا حول تعويض الكربون. يميل نقاد هذا القضية إلى التركيز على مسألتين غير مرتبطتين ببعضهما، وهما: حساب معدلات إزالة الغابات للمشروع الواحد (وهذه مسألة تقنية بحتة ولا تزال قيد التنفيذ) والتمويه الأخضر للشركات. تدور حوارات علمية معمَّقة على جميع الأصعدة ومن شبه المؤكد أنه سيسفر عنها التطور الضروري وإعادة تقويم معايير التحقق. وفيما يتعلق بمعايير التحقق، تقتضي المواجهة الحقيقية للتغير المناخي أن تتعاون الحكومات والمنظمات غير الحكومية والوكالات المانحة والشركات معاً بنية صادقة لتحقيق هدف مشترك. يصعب كثيراً تحقيق ذلك إذا كانت الحكومات عاجزة عن التواصل الفعال مع قطاعات تعويض الكربون التي تتطور سريعاً في بلدانها وتنظيمها. وسيكون مستحيلاً تقريباً أن تثق بأنه لا يوجد أحد يتلاعب بهذا النظام، في ظل غياب معايير تعويض أوضح وملزمة أكثر.
يعد اجتماع قادة العالم المنعقد في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي لعام 2021 (COP26) فرصةً لدعم التوحيد القياسي لمسألة تعويضات الكربون. يجب على مجموعات مثل مجموعة الدول السبع (G7) ومجموعة الدول العشرين (G20) في غلاسكو أن تصغي إلى قادة جنوب الكرة الأرضية للتشارك في وضع اقتراح واقعي وفعال يعترف بالأهمية البالغة لمشاريع مثل "ماتافين" ولمجتمعات السكان الأصليين الموجودين على الخطوط الأمامية في تنفيذ الإجراءات المتعلقة بمسألة المناخ. تمثل مؤسَّسات مثل مؤسَّسة "أكاتيسيما"، التي سميت بهذا الاسم اختصاراً لعبارة "رابطة المجالس والسلطات التقليدية للشعوب الأصلية في محمية سيلفا دي ماتافين)، نموذجاً مبتكراً للحفاظ على التنوع الثقافي والبيولوجي الذي يشمل الغابات، ولا ينبغي أن يُتوقع منها الدفاع عن حججها حول شرعية النهج السوقي. لسوء الحظ، وأثناء متابعتنا للجدل بين هيئات مراقبة مشروع (+REDD) ومؤسَّسة "فيرا" (VERRA)، فمن الواضح أن الاعتراض الفلسفي على السوق قد طال السؤال التقني حول طريقة حساب نقط البداية العلمية (من قبل أشخاص يفتقرون تماماً إلى الخبرة الفنية لتنفيذ ذلك). سلوك هذا الطريق لن يفضي بنا إلى تحقيق هدفنا.
تفوق مجتمعات السكان الأصليين التي تعتمد على الغابات مثل المجتمعات الموجودة في "ماتافين" الحكومات فطنةً في مسألة الحد من إزالة الغابات. تعد مشاريع (+REDD) - والمجتمعات التي تستفيد منها - اللبنات الأساسية لمعالجة مشكلة التغير المناخي، لكن علينا مكافأتها بسخاء لتقديمها هذه الخدمة الواهبة للحياة. تعد تعويضات الكربون إحدى الحلول القليلة التي توصل إليها العالم لمعالجة مشكلة التغير المناخي. لا ينبغي تأجيل تحسين علم قياس الكربون وإنشاء سوق تعويض يمكّن قطاع الشركات من اتخاذ إجراءات سريعة لتمويل مساعي التخفيف من آثار التغير المناخي التي يقودها المجتمع، أكثر من ذلك.
نظرة أعمق
تبلغ مساحة "سيلفا دي ماتافين" 1.86 مليون هكتار، فهي بذلك أكبر من عدد من البلدان. تقع في المنطقة الانتقالية بين غابات الأمازون وسهول اللانوس - في السافانا الاستوائية في حوض أورينوكو المشترك بين كولومبيا وفنزويلا - وهي موطن لسلسلة من الغابات والأنهار المتعرجة والبحيرات القوسية والسافانا الاستوائية، التي تغمَر مساحات شاسعة منها عندما تفيض الأنهار خلال موسم الأمطار، ولم تجرى دراسات كافية عليها وهي غير مفهومة فهماً كافياً نسبياً. كانت محظورةً على علماء الأحياء والاستكشاف العلمي لعقود من الزمن، لأن إدارة "فيتشادا" والإدارات المجاورة لها كانت معاقل للقوات المسلحة الثورية الكولومبية التي تعرف اختصاراً بـ "فارك" (FARC)، وهي أكبر مجموعة حرب عصابات في كولومبيا، لم توقع اتفاقية سلام مع الحكومة إلا في عام 2016. ومع ذلك، بفضل الدراسات الأخيرة التي أجرتها مؤسَّسات "هومبولت" ( Instituto Humboldt) و"سينتشي" (SINCHI) و"فونداسيون أوماتشا" (Fundación Omacha)، أصبحنا نعلم أن "ماتافين" ليست موطناً لمئات الأنواع من فصائل الطيور والثدييات والبرمائيات والنباتات فحسب، بل هي مستودع مهم للحياة المائية وبؤرة عالمية للتنوع الحيوي للأسماك.
كما أنها موطن لـ 16 ألف من السكان الأصليين الذين ينتمون إلى ست مجموعات عرقية (سيكواني، بياروا، بيابوكو، بويناف، كوريباكو، كيوبيو). أنشئت ست عشرة محمية للسكان الأصليين هنا في الثمانينيات، مما أضفى الطابع الرسمي على حيازة الأراضي والحقوق الإقليمية للمجتمعات الصغيرة الموجودة على طول الأنهار الرئيسية في المنطقة. وبمساعدة تمويل صندوق البيئة العالمي، قاد "إيتنولانو" عملية لتوحيد المحميات الست عشرة، إضافةً إلى بعض الأراضي غير المدمجة، في وحدة متصلة جغرافياً.
كان إنشاء مؤسَّسة "أكاتيسيما" في سبتمبر/أيلول من عام 2001 جزءاً من هذه العملية. وكان الغرض من إنشائها صياغة وتنفيذ البرامج اللازمة لإدارة هذه المحمية الشاسعة التي تمتد على منطقة تعد الحكومة الوطنية الكولومبية فيها شبه مغيبة كلياً. اعترف الرئيس "ألفارو أوريبي" في عام 2002 بالمحمية رسمياً، لينشئ ما يمثل الآن رابع أكبر محمية للسكان الأصليين في كولومبيا. ووقعت شركة "ميدياموس إف آند إم" (Mediamos F&M) - وهي شركة استشارية في مدينة كالي في كولومبيا - في عام 2012 اتفاقية مع مؤسَّسة "أكاتيسيما" لتطوير إحدى أول مشاريع (+REDD) في كولومبيا.
تحدثت في صباح يومي الأول في قرية "ماتسولداني" مع صبيين عمرهما 15 عاماً يدعيان "إديلسون" و"إدغار". عندما سألتهما عن الهدف من مشروع (+REDD)، أخبرني "إديلسون" أن الغرض منه الحد من آثار التغير المناخي من خلال الحد من قطع الأشجار في الغابات. وأنهم تلقوا مقابل عدم قطع أشجار الغابات الموارد والتدريب اللازمين لتطوير الأنشطة المرتبطة بخطة مجتمعهم التي يطلق عليها "بلان دي فيدا" (plan de vida) أو خطة الحياة. أنشطة مثل مشاريع لزراعة الكاكاو أو فاكهة "يوكا برافا" أو الموز في قطع أراضيهم المزروعة الصغيرة، أو إتاحة الحصول على اللوازم المدرسية والمنح. وكانت غالباً طلبات لأشياء عملية مثل الدراجات النارية والمحركات الخارجية والأسقف المصنوعة من الصفيح المموج.
بعد زيارتنا لمدينة "بارانكو" في كولورادو والتعرف على مساعيهم لجعل المجتمع وجهةً لهواة صيد الأسماك ومراقبة الطيور، انطلقنا في رحلة في نهر "أورينوكو" المنساب، ثم دخلنا في جدول "كانيو دي ماتافين" الذي تشعر كأنه من عالم آخر، وهو جدول مياه أسود يمتد من شرق المحمية إلى غربها ويمر من قلبها. بعد إجرائنا زيارة سريعة لقرية "سيرابيا"، أوقفنا جمال خلجان المياه السوداء الأخاذ لجدول "كانيو دي ماتافين" للحظات. كان ربان القارب "غريغوريو" يغلق محركه ويضرب هيكله أربع مرات عندما قال: "هذه بقعة ملائمة للـ "تونيناس". ليظهر في غضون ثوان الدولفين النهري الوردي أو ما يعرف باسمه العلمي (Inia geoffrensis humboldiana)، وينفث الماء من فتحة النفث، ويرينا زعنفته الظهرية ثم يختفي، ليعاود الظهور بعدها بلحظات مع صغيره.
بعد إعادة التجمع لقضاء ليلة في مدينة "إنيريدا"، زرنا المكتب المحلي لمؤسَّسة "أكاتيسيما" لمقابلة "يسينيا كايوباري ساينز"، حاكمة قطاع المحمية النائي "بيروكال أجوتا" التي تنتمي للمجموعة العرقية "بويناف" والبالغة من العمر 31 عاماً. مع أن النساء الآن يترأسن أو يشاركن في رئاسة ست من لجان "ماتافين" التنسيقية الثمانية وهي (الصحة، والتعليم، وحقوق الإنسان، والأراضي والبيئة، وخطط الحياة، والشباب، والبرامج، والمرأة)، فإن "يسينيا" حالياً المرأة الوحيدة بين نظرائها حكام "المجلس" (Cabildo) الست عشر، وثاني امرأة تشغل منصب حاكم مجلس في تاريخ مؤسَّسة "أكاتيسيما" الذي يمتد منذ 20 عاماً. أخبرتنا حاكمة المجس: "يدعمني زوجي ومجتمعي دعماً كبيراً، لكن لا يزال يُتوقَّع مني أن أعتني بمنزلي وعائلتي وأطفالي، لكن هذا لا يتوقع من الرجال الذين أعمل معهم".
كانت خطتنا للمرحلة الثانية من الرحلة هي قطع نهري "غوافيار" و"أوفا" للتوجه إلى قرية "كومارال"، حيث سنحضر ورشةً تركز على إدارة المراحل النهائية الحاسمة لحصاد الكاكاو وتخميره ومعالجته (الكاكاو هو المكون الخام المستخدم في صنع الشوكولا). ثم ننصب أراجيحنا لمدة ثلاث ليالٍ وننظم زيارات خلال هذه المدة إلى بضعة مجتمعات أبعد، تقع في الجهة الجنوبية الغربية البعيدة للمحمية.
تحدثت في قرية "كوميرال" مع "إدوين ليوناردو لوبيز نافارو"، غادر الشاب ذو 26 عاماً مدينة "كوماريبو" عندما كان مراهقاً يافعاً ليعمل في مناجم الذهب غير القانونية الواقعة ضمن حديقة "سيرو ياباكانا" الوطنية في فنزويلا. وأوضح أن أجور عمال المناجم تكون نسبةً مئويةً من الذهب الذي يستخرجونه، لكن كان هذا العمل الذي يشمل استخدام الزئبق خطيراً. في أحد الأيام أثناء عمله في المنجم، شاهد والده يقتل بعيار ناري أمام عينيه، على ما يبدو بسبب دين ما. غادر "إدوين" في اليوم التالي مع زوجته "أماندا داكوستا" ذات 28 عاماً، ليعود في نهاية المطاف إلى مدينتي "إينيريدا" و"كوماريبو". أنجب الزوجان طفلاً مؤخراً، وهما متفائلان تفاؤلاً يشوبه الحذر بفرص نجاحهما المستقبلية، التي تشمل زراعة الكاكاو في مدينة "كوماريبو".
عندما كنا في طريق العودة إلى مدينة "إنيردا"، أوقفت وحدة بحرية قاربنا، وراجعت وثائقنا، وسألتنا عما نفعله. بعد تحققهم من قصتنا، تجاذبنا أطراف حديث ودي مع الجنود. كان نصفهم على الأقل من أصل إفريقي كولومبي أو من السكان الأصليين، وكان جميعهم تقريباً ينتمون إلى أفقر المناطق أو أكثرها عنفاً في كولومبيا، مثل "كاوكا" و"شوكو" وشبه جزيرة "غواخيرا". بينما كنا نغادر ذكرنا الجنود بارتداء سترات النجاة.
خلال الأيام العشرة من رحلتنا، كان ذلك لقاءنا الوحيد مع الحكومة الوطنية. والمؤسسات الأخرى الوحيدة التي صادفتها كانت بعض زملائي السابقين من جزيرة "باندا" (Panda) العاملين في منظمة "الصندوق العالمي للطبيعة" (WWF)، وامرأة من مدينة "كالي" كانت قد بدأت العمل في وظيفة جديدة مع "المجلس النرويجي للاجئين" (Norwegian Refugee Council)، ومجموعة ضخمة من المسيحيين الإنجيليين كانوا يسافرون في ثلاث زوارق مزودة بمحركات. حافظت المبشرة والإنجيلية الألمانية الأميركية "صوفيا مولر" على إبقاء التبشير والكرة الطائرة هنا، وقد أمضت 60 عاماً تجوب أنهار المنطقة وتترجم الإنجيل إلى أكثر من اثنتي عشرة لهجة من لهجات السكان الأصليين. لسوء الحظ، أدت حركة "مولر" التي سميت بـ "حركة القبائل الجديدة التبشيرية" أو (el Movimiento Misionero Nuevas Tribus) إلى تبشير مجتمعات السكان الأصليين، وكان هذا السبب الرئيسي وراء اختفاء الموسيقى والرقص التقليديين للسكان الأصليين تقريباً من هذه الزاوية من كولومبيا.
أخبرني عالم في الأنثروبولوجيا ومدير مؤسَّسة "إيتنولانو" "أنتونيو لوبو غيريرو" من مكاتب المنظمات غير الحكومية في مدينة بوغوتا، بعد أيام قليلة من عودتي من "ماتافين": "إحدى الأشياء التي تغيرت منذ بدء مشروع (+REDD) هي إنشاء مؤسَّسة "أكاتيسيما" في البداية بغرض إدارة محمية "سيلفا دي ماتافين"، وأصبح لدينا الآن هيكلية مؤسَّسة "أكاتيسيما" وشركة "ميدياموس" و"سيلفا دي ماتافين" التابعة لمشروع (+REDD). يمنح المشروع أجوراً كثيرةً وهذا أوجد واقعاً مختلفاً". أسس والدا "أنتونيو" مؤسَّسة "إتنولانو" في عام 1984، لذا أمضى الكثير من سنوات شبابه في مجتمعات السكان الأصليين القاطنة في سهول اللانوس الكولومبية وغابات الأمازون.
الترَّهات
جادلت مجموعة مراقبة الكربون التي تتخذ من بلجيكا مقراً لها، بالتعاون مع "مركز أميركا اللاتينية للصحافة الاستقصائية" ( Latin America Center for Investigative Journalism-CLIP) والصحفي الكولومبي "أندريس بيرموديز" في يونيو/حزيران، بأن مشاريع الحِراجة واسعة النطاق في كولومبيا تختلق رصيداً لانبعاثات الكربون المسموح بها أكبر من مقدار خفض الانبعاثات الذي تحققه فعلاً. يزعمون أن مشروع محمية "ماتافين" استخدم نقطة بداية مبالغ فيها لحساب معدل إزالة الغابات، مما يزيد مقدار رصيد انبعاثات الكربون المسموح بها الصادر عن المشروع، ما يعني أنه يمكن للشركات تعويض أو تحييد انبعاثاتها بشراء أرصدة انبعاثات الكربون المسموح بها المبالغ بتقدير قيمتها بدلاً من دفع ضريبة الكربون (وبالتالي حرمان الحكومة الكولومبية من عائدات ضرائب هي بأمس الحاجة إليها). بناءً على هذا التحليل، أوصت مجموعة مراقبة الكربون بأن يتوقف المستثمرون عن شراء أرصدة انبعاثات الكربون المسموح بها من مشروع "سيلفا دي ماتافين" وأن تشطب مؤسَّسة "فيرا" اسم المشروع من سجلها أو تلغي ترخيصه.
ترفض كل من مؤسَّسة "فيرا"، أكبر سوق كربون تطوعي في العالم، وشركة "ميدياموس إف آند إم" النتائج التي توصلت إليها مجموعة مراقبة الكربون رفضاً قاطعاً. بالإمكان الاطلاع على رد مؤسَّسة "فيرا" هنا (الذي يزخر بالكلام الكربوني واللغة الاصطلاحية لهذا القطاع)، إضافةً إلى رد مجموعة مراقبة الكربون هنا.
تمادت مجموعة مراقبة الكربون في تقريرها بزعمها أن مشروع "ماتافين" ينشر الترهات، ودعوتها المستثمرين إلى التوقف عن شراء أرصدة انبعاثات الكربون المسموح بها التي يصدرها هذا المشروع. وُضعت نقطة بداية إزالة الغابات في مشروع "ماتافين" والمرجع (أو المنطقة البديلة) المستخدم لحسابها وفق معيار الكربون المعتمد الذي كان موجوداً قبل أن تضع وزارة البيئة والتنمية المستدامة في كولومبيا إطار عمل تنظيمي وطني لمشروع (+REDD). تم التحقق من صحة مشروع "ماتافين" ومراجعته ثلاث مرات (أكثر من أي مشروع آخر في كولومبيا) وفق هذا المعيار. ما كان يجب على الوزارة فعله عندما وضعت أخيراً مبادئها التوجيهية الناقصة في عام 2019 هو التواصل وتقديم التوجيه لجميع مشاريع (+REDD) المنشئَة مسبقاً حتى تعدل نقط بدايتها وفق ذلك. لم يحدث هذا نهائياً.
لم تجرِ أي من مجموعة مراقبة الكربون أو مركز أميركا اللاتينية للصحافة الاستقصائية (الذي يتلقى تمويله من مؤسَّسة "بوليتزر سينتر" (Pulitzer Center)) زيارةً فعليةً لمشروع "ماتافين" قبل أن تستنتجا أنه ينشر الترهات. لو زاروه، لكانوا شهدوا أن المشروع يخفض معدل إزالة الغابات بالفعل، إذ وفقاً لمؤسَّستي "إيديام" (IDEAM) و"سياك" (SIAC) خفضت بلدية "كوماريبو" معدل إزالة الغابات بين عامي 2019 و2020 بمقدار 1244 هكتار. كما كانوا قد شهدوا أن مشروع (+REDD) يعوض مجتمعات السكان الأصليين التي تعيش في محمية "سيلفا دي ماتافين"، عن غياب الحكومة الكولومبية فيها بطرائق تساعدهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية. فقد أجري البحث المخصص للمقال من بروكسل وبوغوتا، واعتمد بمعظمه على مصادر مجهولة.
(في الوقت نفسه، يبدو أن أكبر مشروع للحد من التغير المناخي في كولومبيا يحصل على ترخيص مجاني. إذ على ما يبدو أن مشروع "فيزيون أمازونيا" (Visión Amazonía) الذي تديره وزارة البيئة والتنمية المستدامة في كولومبيا، يخفق في تحقيق النتيجة المرجوة. فبعد تلقي المشروع 85 مليون دولار خلال السنوات الخمسة الماضية من النرويج وألمانيا والمملكة المتحدة، فشل في تحقيق هدفه المعلن المتمثل بخفض معدل إزالة الغابات).
يعد الكثيرون كولومبيا رائدةً في السياسة المناخ وتمويله. وإحدى أسباب ذلك هي ضريبة الكربون التصاعدية في البلاد، التي فرضها الرئيس السابق والحائز على جائزة نوبل "خوان مانويل سانتوس" خلال فترة ولايته الثانية. إضافةً لهذا، كانت المشاركة النشطة والقيادة الحازمة التي قدمتها "أسوكاربونو" (ASOCARBONO)، وهي رابطة تضم مطوري مشاريع ومرافق تسجيل ومنظمات غير حكومية وشركات، فعالةً في تعزيز الحوار المشترك بين القطاعات داخل كولومبيا وكسب ثقة المستثمرين الخارجيين.
أتيحت لي فرصة معرفة كيفية استعداد قطاع الكربون لمؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي المقبل في مدينة غلاسكو، في جلسة قمة المناخ السابقة للمؤتمر المستضافة في مدينة "قرطاجنة" في الفترة الممتدة بين 6 إلى 8 أكتوبر/تشرين الأول. بدأ المؤتمر بدايةً موفقةً إذ ناشد مدير بعثة "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID) في كولومبيا "لاري ساكس" الممثلين الحاضرين من جميع أنحاء أميركا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي الذي يبلغ عددهم 300 فرد إلى "التفكير في المجتمعات التي تعيش في الغابة وتوفير فرص لهم، وإقامة شراكات مع القطاع الخاص الذي يدفع عجلة الأعمال التجارية المراعية للبيئة، ومشاريع السياحة البيئية، والطاقة المتجددة".
لكن بمجرد انتهاء المراسم، تلاها يوم ونصف من الحوارات الباهتة، إذ واصل المسؤولون الحكوميون الكولومبيون وأولئك الذين يحاولون رسم صورة أكثر إيجابية لمشروع "فيزيون أمازونيا" الاستفاضة في الحوار دون مغزى. قالوا أن كولومبيا تحتاج إلى وضع قواعد أوضح، ولوائح تنظيمية أفضل، والتحلي بشفافية أكبر. لكن على عاتق من تقع مهمة تنظيم قطاع الكربون وإظهار تأثير تمويل المانحين؟
في صباح اليوم الأخير، كنت على وشك المغادرة والتنزه لشراء قميص كتّان جديد من طراز "غوايابيرا" قبل أن ألاحظ أن "أنجيلا أندرادي" رئيسة "منظمة الحفظ الدولية" (Conservation International)، التي ترأس أيضاً لجنة منظمة "الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة" (IUCN) لإدارة النظام البيئي، قد اعتلت المنصة لتقود جلسةً عنوانها: (+REDD): 20 عاماً من الدروس المستخلصة من تنفيذ المشاريع. كان من بين المحاضرين "جاير موسكيرا"، هو قائد شاب من أصل إفريقي كولومبي حدثنا أن مشاريع (+REDD) في المحيط الهادئ الكولومبي لا تدر إيرادات للمجتمعات من خلال بيع أرصدة انبعاثات الكربون المسموح بها فقط، بل كانت تساعد أيضاً في إبقاء النشطاء البيئيين وقادة العدالة الاجتماعية على قيد الحياة. إذ نشرت منظمة "غلوبال ويتنس" ( Global Witness ) تقريراً جديداً قبل أقل من شهرين يشير إلى أن كولومبيا أخطر دولة في العالم على القادة في مجال البيئة للسنة الثانية على التوالي.
أدار المهندس المدني "روبرتو ليون غوميز" الجلسة، الذي عمل لمدة 28 عاماً لإحراز تقدم في قضايا الحفاظ على الغابات في كولومبيا. فقد شاركنا أن مشروع "باراموس إي بوسكيس" (Paramos y Bosques) التابع "للوكالة الأميركية للتنمية الدولية" كان يستخلص الدروس المستفادة من نشر مشاريع (+REDD) التي يديرها المجتمع المحلي في المحيط الهادئ ويطبقها للحد من إزالة الغابات في البلديات التي منحت أولوية التنمية الريفية في اتفاقية السلام لعام 2016. إضافةً إلى تلقي المشاركين المساعدة التقنية لإتمام دراسات الجدوى التمهيدية وقياس استمرارية ومردودية مشاريع (+REDD)، كانوا يتعلمون كيفية التفاوض على عقد اتفاقيات ملائمة طويلة الأمد مع مطوري المشروع.
جذبتني منسقة الفعالية والمنسقة الصحفية "آنا ماريا روشا" بعد الجلسة إلى الغرفة الخضراء، حيث كان وزير المناخ الأرجنتيني "باتريسيو لومباردي" يجهز ملاحظاته الختامية. رحب بي الوزير "باتريسيو"، المسؤول الأعلى رتبةً في المؤتمر وضيف الشرف ترحيباً حاراً، مشيراً أنه اليوم يُتم عاماً كاملاً في هذا المنصب. بدأ الوزير بالإشارة إلى بعثة من غرب إفريقيا تجلس جوارنا: "تكون بلادنا عادةً هي المدينة لدول الشمال، لكن الأمر مختلف في قضية التغير المناخي، ففي قضية التغير المناخي، بلدان الشمال هم المدينون لنا".
سألت الوزير عن انطباعاته عن المؤتمر وتطلعاته لمؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي المقبل. فأجابني: "نحتاج إلى إنعاش هذه الحوارات، فنحن نتحدث كثيراً عن الأسواق، وهو حوار محدود جداً يقتصر على ما يهم وما ليس مهماً. إن الكربون هو الحياة. الكربون يمثلنا، ونحن لسنا سلعاً. لقد فقدت أوروبا غاباتها، على عكس إفريقيا والأميركيتين وبابوا غينيا الجديدة. إن الرهانات على هذا المؤتمر كبيرة. ويجب أن تكون كذلك".
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.