تمتد أراضي منطقة إيست كلكتا ويتلاندز في الهند على مساحة 125 كيلومتراً مربعاً، وتُستخدم لأغراض متعددة مثل تربية الأسماك والزراعة وزراعة الأرز، كما تعد أكبر منظومة لتربية الأحياء المائية التي تتغذى على مياه الصرف الصحي في العالم. من خلال توظيف 60,000 مزارع، وتوفير 15% من استهلاك مدينة كلكتا من الأسماك، وتوفير موطن لأكثر من 3,000 أسرة من القبائل، ومعالجة نصف مياه الصرف الصحي الناتجة عن مدينة يبلغ عدد سكانها 15 مليون نسمة، تُظهر هذه المنظومة البيئية التي نظّمها الإنسان -ليست طبيعية ولا صناعية (ربما كلتاهما)- شكلاً من أشكال الابتكار الاجتماعي الذي فشل العلماء في الاعتراف به وتبنّيه في كثير من الأحيان، وهو ما نطلق عليه "الابتكار البيوثقافي".
وفي حين يمكننا تصنيف الابتكارات التجارية على أنها منتجات أو عمليات أو نماذج أعمال، يمزج الابتكار البيوثقافي بين مفاهيم الابتكار القائم على استهلاك الموارد الطبيعية والأساليب البيوثقافية للحفاظ على البيئة. يُعرّف الابتكار البيوثقافي على أنه تطبيق المعرفة التقليدية لتحسين رفاهة الأجيال القادمة مع الحد الأدنى من استنزاف الأصول البيوثقافية، وينطلق الابتكار البيوثقافي من تقدير أنظمة المعرفة للمجتمعات الأصلية والقبائلية والمجتمعات المحلية الأخرى. ويوصف غالباً بأنه "معرفة مستندة إلى المكان"، لأنه متجذر في النظم البيئية الطبيعية التي عاشت فيها الشعوب قروناً عدة، ويعكس فهماً عميقاً للروابط بين السكان وبيئتهم.
لنتأمل هذه الأمثلة الآتية: في أستراليا، يدمج مشروع إنديجينيس غراسلاندس فور غراين (Indigenous Grasslands for Grain) المعرفة المحلية لشعب الغوميروي مع تكنولوجيا الزراعة الحديثة لإنتاج حبوب أصلية المنشأ ذات قيمة غذائية عالية وتجديد النظم البيئية المحلية. تعد المنازل التقليدية العائمة لشعب الأوروس في منطقة جبال الأنديز مصدر إلهام لتقنيات البناء المنخفضة التكلفة والصديقة للبيئة في جميع أنحاء العالم، التي تحسّن جودة المياه والتنوع البيولوجي. يركّز مشروع بنك الأرض للرموز الجينية (Earth Bank of Codes) على منطقة الأمازون لتجميع مكتبة جينية لكل الأنواع الحية بهدف تعزيز الابتكارات -من الأدوية الجديدة إلى التصنيع ذي الفاعلية- مع الوعد بتقاسم العائدات التجارية مع الشعوب التي ترعى هذا النظام البيئي الهائل.
على الرغم من تجاهل العلماء للابتكار البيوثقافي، فمجاله ليس محدوداً وحجمه لا يستهان به، وقد نما إلى حركة عالمية وحظي بالاعتراف والدعم من واضعي السياسات والخبراء وقطاعات متنوعة. أدرجت الأمم المتحدة التنوع البيوثقافي في جدول أعمالها للتنمية المستدامة، وأقرّت المنصة الحكومية الدولية لعلوم التنوع البيولوجي وسياساته وخدمات النظم البيئية (IPBES) بالأهمية الكبيرة للمعارف التقليدية في الحفاظ على التنوع البيولوجي والاستخدام المستدام، كما أنشأت اليونيسكو شبكة عالمية لمحميات المحيط الحيوي لإيجاد سبل جديدة للتنمية الاقتصادية المستدامة التي تعزز التنوع البيوثقافي والتي تُعد أساساً "مختبرات ابتكار" بايوثقافية.
وعلى الرغم من ذلك التقدم الحاصل، تشوش التصنيفات ومجالات الدراسة الدقيقة للغاية حركة الابتكار البيوثقافي لأنها لا تغطي الحركة بالكامل، وذلك بدءاً بتقديم مفاهيم متخصصة (مثل "القرصنة البيولوجية") إلى تسميات طويلة (مثل "أنواع معارف الشعوب الأصلية المستخدمة للتكيف مع تغير المناخ وأمثلة عليها"). ونظراً للطبيعة الواسعة الانتشار الفريدة للابتكار البيوثقافي الذي ينافس أنماط الابتكار التقليدية، نعتقد بأنه يتطلب أطر عمل وأدوات ونُهجاً جديدة للعاملين فيه وواضعي السياسات لاستغلاله بفعالية.
يقدّر الابتكار البيوثقافي "الإمكانات الضعيفة" لرأس المال البيوثقافي. وفي حين يرى خبراء الاقتصاد المحيط الإثني والمحيط الحيوي أصلين محتملين يجب الاستفادة منهما، تتعرض هذه الأصول البيوثقافية المترابطة لتهديد غير مسبوق. بالنسبة إلى واضعي السياسات، يعني ذلك تحويل قيمة رأس المال البيوثقافي كي يخدم الإنسانية، كما يجب الحفاظ على هذه القيمة وتدعيمها حتى لا تضيع، وذلك ما نطلق عليه "العناصر الثلاثة" للابتكار البيوثقافي.
تحويل رأس المال البيوثقافي
استغلّت قبيلة كاني في منطقة غاتس الغربية في ولاية كيرالا بالهند معارفها التقليدية بخصائص نبات "تريكوبوس زيلانيكوس" لتحويله إلى دواء يعالج التعب والإجهاد بفعالية. وعلى المنوال نفسه، استخدمت شعوب الغواراني نبات "ستيفيا" قروناً عدة، ولكنه أصبح الآن من المُحلّيات الفريدة البديلة للسكر وتدرُّ تجارته 492 مليون دولار سنوياً. لا تخفى الجهود المبذولة للاستفادة من القيمة البيوثقافية في مختلف الصناعات، مثل الكيماويات الزراعية والوقود الحيوي والأغذية الوظيفية والمغذيات ومستحضرات التجميل.
على المبتكرين وواضعي السياسات والباحثين إعطاء الأولوية للتنفيذ الفعال وتحسين الأساليب والآليات والشراكات الجديدة التي تهدف إلى تحويل الإمكانات البيوثقافية إلى ابتكارات عملية بطريقة عادلة ومنصفة لأصحابها الأصليين عبر "التوزيع العادل". على سبيل المثال، تقدم اتفاقية التنوع البيولوجي الأخيرة (COP15) الموقعة في مدينة مونتريال إطاراً لاستخدام معلومات التسلسل الرقمي (DSI)، ما يتيح التحويل الأخلاقي للقيمة من المحيط الحيوي والمحيط العرقي من أجل الحلول المبتكرة.
الحفاظ على رأس المال البيوثقافي
يمكن لأنظمة المعارف التقليدية أن تزيد من كفاءة التنقيب البيولوجي بنسبة تزيد على400%، لكن أسرار إسهامات الطبيعة لخدمة البشرية هذه مهددة بالانقراض. يؤدي كل من حماية رأس المال البيوثقافي والحفاظ عليه إلى ضمان استخدامه المستدام وإدارته من أجل الأجيال القادمة. على سبيل المثال، تختبر العقود الذكية التي تتضمن تكنولوجيا البلوك تشين (سلسلة الكتل) لدعم مجتمعات السكان الأصليين مالياً جهودهم الجوهرية لحماية التنوع البيولوجي وتطورها وتدعم ثقافاتهم الفريدة. وبالمثل، يجمع التعاون بين وكالة ناسا ورعاة غزلان الرنَّة من السكان الأصليين بين المعرفة المتطورة للسكان الأصليين وأنظمة المعلومات الجغرافية المتقدمة لإدارة المناطق القطبية الشمالية على نحو مستدام.
تنافس هذه الابتكارات البيوثقافية نُهج "الحفاظ على المحميات" التقليدية التي تسعى إلى "حماية" التنوع البيولوجي من خلال إقامة مناطق "محمية" يُستبعد منها السكان المحليون. على النقيض من ذلك، تؤكد الابتكارات البيوثقافية أهمية الدور المتكامل الذي تؤديه الشعوب الأصلية بوصفهم رعاة المحيط الحيوي. وبالتالي، لا تعزز الابتكارات البيوثقافية الاستغلال المستدام للتنوع البيولوجي وحمايته فحسب، بل تدعم سبل عيش السكان الأصليين المحليين وثقافاتهم وحقهم في تقرير المصير أيضاً. وبذلك تدعم المحيط الإثني والمحيط الحيوي وتحافظ على إمكاناتهما. وتتأتى أهمية حماية الأصول البيوثقافية من وجود أكثر من مليون نوع من النباتات والحيوانات المعرّضة لخطر الانقراض. ونظراً لحماية الشعوب الأصلية لما يقرب من 80% من التنوع البيولوجي المتبقي، تؤكد اتفاقية التنوع البيولوجي (COP15) الدور المركزي لمعارف الشعوب الأصلية وحقوقها وممارساتها ووجهات نظرها الشاملة وابتكاراتها في تحقيق أهداف الحفاظ على البيئة العالمية. في ضوء هذه التطورات، نحثُّ المبتكرين وواضعي السياسات والباحثين على الإسهام في فهم تفاعلات الأطراف المعنية المعقدة على الحفاظ على الأصول البيوثقافية وتعزيزها.
دعم رأس المال البيوثقافي
بالإضافة إلى تجنب استنفاد رأس المال البيوثقافي، بوسعنا استغلال موارد المحيط الحيوي والمحيط الإثني بطريقة تعمل على تحسينها بكفاءة. على سبيل المثال، لا يمكن للحرق الثقافي -وهو ممارسة تتطلب فهماً معقداً للجيولوجيا وأنماط الطقس ودورات تربية الحيوانات ودورات ازدهار النباتات- أن يخفف الآثار المدمرة لحرائق الغابات الأخيرة فحسب، بل يعزز صحة الأرض وإنتاجيتها والذين يعتمدون عليهما في معيشتهم، ومنهم القائمون على رعايتها من السكان الأصليين أيضاً. وبهذه الطريقة وحدّت الشعوب الأصلية في منطقة الأمازون البيروفي قواها في عام 2018 لتأسيس أمة وامبيس (Wampis Nation)، وهي حكومة إقليمية تتمتع بالحكم الذاتي، لا لحماية ثقافتها وأرضها من الصناعات القائمة على استهلاك الموارد الطبيعية فحسب، بل لإصلاحها من خلال الإدارة التقليدية للأراضي وإعادة التحريج والممارسات الزراعية المستدامة. يغطي هذا الابتكار البيوثقافي الفريد من نوعه مساحة تقارب ثلث مساحة هولندا ويضم أكثر من 15,000 شخص.
تهدف اتفاقية التنوع البيولوجي الأخيرة (COP15) إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف فقدان التنوع البيولوجي وعكس مساره، ووضع الطبيعة على طريق الانتعاش لصالح الإنسان والكوكب. إذ حددت الاتفاقية استعادة ما لا يقل عن 30% من النظم البيئية المتدهورة في البر والبحر والمسطحات المائية الداخلية والسواحل هدفاً لها بحلول عام 2030 (30 بحلول 30)، مع التركيز على احترام الشعوب الأصلية وتعزيز إسهاماتها الكاملة والفعالة في صناعة القرار وابتكاره، ويشمل ذلك موافقتهم الحرة المسبّقة المستنيرة. وتدعو هذه المبادرة العالمية الطموحة إلى ممارسات مؤسساتية جديدة وتفاعلات معقدة مع الأطراف المعنية لتعزيز قيمة العمل. يمكن للمبتكرين وواضعي السياسات والعلماء الاستفادة من مهاراتهم الفريدة لفهم هذه الأساليب والآليات والشراكات الجديدة على نحو أفضل بالإضافة إلى تحسينها، ما يؤدي في النهاية إلى دعم رأس مال وأصول بايوثقافية قوية.
مستقبل الابتكار البيوثقافي
مستقبل الابتكار الثقافي البيولوجي مفعم بالأمل، لكن نقص النظريات الكافية حوله يعيق التنفيذ العملي. يعترف واضعو السياسات بالعديد من التحديات العملية المستعصية عن الحل في دمج المعارف التقليدية في عمليات التقييم والابتكار التي تعطي الأولوية للمعرفة العلمية حالياً. بالإضافة إلى ذلك، ثمة شُح في المعلومات حول طرق التوسع بالابتكارات البيوثقافية بطريقة منصفة وعادلة بالنسبة إلى أصحابها الأصليين. فمثلاً، على الرغم من أن الممارسات الزراعية للسكان الأصليين مثل الحراجة الزراعية، والزراعة البينية، وحصاد مياه الأمطار، وتناوب المحاصيل تغذي قطاع الزراعة التجديدية -التي تنتج منتجات عالية الجودة وتحبس الكربون وتعزز التنوع البيولوجي- لم تكتسب مجتمعات السكان الأصليين سوى القليل في المقابل. وبالتالي، فإن التنقيب البيولوجي لجهة ما هو قرصنة بيولوجية لجهة أخرى.
أضِف إلى ذلك أن المحيط الحيوي والمحيط العرقي يمران في أزمة. يؤدي تسارع فقدان الأنواع إلى دفع النظم البيئية في جميع أنحاء العالم إلى الاقتراب من "نقاط التحول" على نحو خطِر، إذ يؤدي فقدان التنوع البيولوجي إلى ضرر لا علاج له بالقدرة على إفادة البشرية. كما يتسارع انقراض اللغات أيضاً بمعدل ينذر بالخطر، إذ يُتوقع انقراض ما يقدّر بنحو 30% من اللغات -وبالتالي فقدان مخزونات كبيرة من المعرفة البيوثقافية- بحلول نهاية القرن. يؤدي التهميش المستمر للشعوب الأصلية إلى زيادة فقرها على الرغم من دورها الحاسم في حماية 80% من التنوع البيولوجي الحالي.
ثمة مبادرات واعدة تتماشى مع مبادئ الابتكار البيوثقافي، ولكن لا يُعترف بها على هذا النحو. على سبيل المثال، تجمع مبادرة برنامج الإنسان والمحيط الحيوي التابعة لليونسكو العلماء والشعوب الأصلية معاً لتشكيل محميات المحيط الحيوي التي تعمل بوصفها "مختبرات ابتكار" من أجل التنمية المستدامة. وتوفر هذه المبادرات أساساً متيناً لمناصرة الرؤية المشتركة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2050، التي تسعى إلى إنشاء مسارات للمجتمعات للعيش في وئام مع الطبيعة، وثمة المئات من الابتكارات البيوثقافية الحالية والمستقبلية التي تقدم مسارات لتحقيق هذه النتيجة. على سبيل المثال، حدد تقييم أجراه الاتحاد الأوروبي 510 ابتكارات بيوثقافية تعزز الأمن الغذائي والقدرة على التحمل وسبل العيش والتنوع البيولوجي، في حين حدد تقييم حديث آخر 236 ابتكاراً بيوثقافياً في مجالات مثل البنية التحتية المادية وأنظمة التحذير من الكوارث الطبيعية والتمويل والسياسات.
من خلال تصنيف هذه المبادرات تحت عنوان الابتكار البيوثقافي، نأمل تشجيع المزيد من التركيز المكثف على هذا الشكل الفريد والواعد للتنمية المستدامة. ونأمل أيضاً أن يدفع نموذجنا المؤلف من العناصر الثلاثة والتنظير الأولي اللذين قدمناهما في هذه الحركة إلى الأمام، ما يشجع المزيد من الإنجازات الابتكارية البيوثقافية وإصلاح السياسات الشامل.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.