يثير التلوث البيئي الناتج من عمل قطاع صناعة الأزياء استياء متزايداً، لذا تعمل نماذج الأعمال الدائرية على تعزيز فرص استدامة النمو من خلال فصل تدفقات الإيرادات عن استخدام الموارد. يشرح الرئيس التنفيذي السابق للعمليات في شركة تمبرلاند (Timberland) كين بوكر في سلسلة بعنوان "للنقاش" تحول قطاع الأزياء إلى النموذج الدائري والعقبات التي تحول دون اعتماده، وردود الباحثين والخبراء في هذا القطاع.
تتبع مختلف الصناعات مثل صناعة المشروبات الغازية والأثاث والإلكترونيات والأزياء مساراً أحادي الاتجاه يتمثل في "التصنيع ثم الاستخدام ثم الرمي في النفايات". يؤدي نظام التشغيل الخطي هذا إلى استنفاد الموارد، وتلويث المحيطات، وتوليد جبال من النفايات. يستمر الضغط المتزايد بهدف نمو الأعمال في الإضرار بالتنوع البيولوجي وتسريع وتيرة الاحتباس الحراري، وبالتالي زيادة حالات الجفاف والفيضانات والهجرة واشتدادها. وبالنتيجة يتنامى رفض الجمهور للصناعات المستهلكة للموارد على نحو متزايد.
قدمت مجموعة من المستشارين والمؤسسات غير الحكومية والشركات (أطلقتُ عليها أسم "شركة الاستدامة") أحدث حل يقدم صفقة رابحة للطرفين وهو النموذج الدائري الذي يسعى إلى فصل النمو الاقتصادي عن الأثر البيئي. ثمة أكثر من 100 تعريف متداول للنموذج الدائري. إذ يصفه مناصروه بأنه "نظام مُجدد يخفِّض المواد الأولية من الموارد وكميات النفايات ويخفف من خسارة الطاقة عن طريق إبطاء حلقات دوران المواد والطاقة وإغلاقها وتضييقها بفضل التصميم لاستخدامات طويلة الأمد والصيانة والإصلاح وإعادة الاستخدام وإعادة التصنيع والتجديد وإعادة التدوير".
وللوعد بقيادة السوق لفك الارتباط بين النمو الاقتصادي والتأثير البيئي تاريخ طويل، يرجع على الأقل إلى تقديم لجنة بروندتلاند (Brundtland Commission) التابعة للأمم المتحدة لمفهوم "التنمية المستدامة" في عام 1987. عرّف مشروع تقرير نُشر قبل اجتماع تلك اللجنة التنمية المستدامة على أنها "تنمية [يمكن] الحفاظ عليها إلى أجل غير مسمى دون الإضرار بالبيئة، أو تهديد التنمية نفسها". واستندت ثقة أعضاء لجنة الأمم المتحدة بالتنمية المستدامة إلى التقدم التكنولوجي المصحوب بأدوات الإدارة مثل القياس وإعداد التقارير والشهادات.
طورت ونفذت شركة الاستدامة منذ صدور تقرير اللجنة سلسلة من الحلول الطوعية التي يقودها السوق لتعزيز التنمية المستدامة. وتشهد على هذا الجهد الآلاف من تقارير المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR)، ومئات من خطط الاعتماد، وسلسلة من استراتيجيات مربحة لجميع الأطراف. وقد تضمنت هذه الاستراتيجيات مفاهيم عدة مثل إحداث قيمة مشتركة، وممارسات توليد الربح مع توليد قيمة للمجتمع من خلال معالجة الاحتياجات والتحديات المجتمعية؛ والاستثمار البيئي والاجتماعي والاستثمار في الحوكمة المؤسسية، والفكرة القائلة بأن الاستثمار في شركات أكثر استدامة يمكن أن يحقق عوائد أفضل في سوق الأسهم مع تحسين النتائج الاجتماعية والبيئية. ولكن لا يعالج أي من هذه الحلول صراحة الطلب المتزايد على الموارد في كوكب محدود الموارد.
ومن هنا تأتي أهمية النموذج الدائري وتتربع على قمة الدليل الإرشادي المربح للجميع. ثمة تقدم مشجع لتطوير النماذج الدائرية لبعض السلع مثل الألومنيوم والكرتون والعبوات البلاستيكية، حيث تتوفر التكنولوجيا اللازمة ويمكن أن يتجاوز سعر المواد الأولية سعر المواد المعاد تدويرها. كما اكتسب النموذج الدائري شعبية في صناعة الأزياء التي تستهلك ما يقرب من 80 تريليون لتر من الماء وتولد أكثر من 90 مليون طن من النفايات كل عام. ونظراً لجذب الأثر البيئي لهذه الصناعة اهتماماً إعلامياً سلبياً على نحو متزايد، تعمل نماذج الأعمال الدائرية على تعزيز فرص الحفاظ على الاستدامة من خلال فصل تدفق الإيرادات عن استخدام الموارد.
وتبدو الفرضية واعدة. لكن تجربتي بصفتي عضواً في شركة الاستدامة والرئيس التنفيذي السابق للعمليات في شركة تمبرلاند تقودني إلى التشكيك في الحلول المزعومة التي تتعارض مع حوافز الصناعة والقوانين الطبيعية والأنماط الأساسية لسلوك المستهلك وللاقتصاد. وعلى الرغم من جاذبية النموذج الدائري من الناحية النظرية، فإن المبادرات المنفردة الخاصة بالعلامات التجارية في صناعة الأزياء لن تستطيع قلب النظام الخطي الراسخ. سأشرح في هذه المقالة تحول الصناعة إلى الاقتصاد الدائري والعوائق التي تحول دون اعتمادها. وسأختتمها بمجموعة من التوصيات لزيادة التعاون الفعال بين القطاعات فيما بعد الاقتصاد الدائري.
مشكلة قطاع صناعة الأزياء
فهم حجم التأثير البيئي لصناعة الأزياء أسهل من فهم مسارها نحو التنمية المستدامة. ولتلبية الضرورات المزدوجة للنمو والربح، طورت الصناعة نظاماً خطياً يعتمد على الابتكار، ودورات المنتج السريعة، والتقادم المخطط له، والعمالة الرخيصة من الخارج، والتسويق المبالغ فيه، والاهتراء النسبي للملابس. وهو نظام ناجح حتى الآن. إذ زادت مبيعات الأزياء بأكثر من الضعف منذ عام 2000. تُقدّم اليوم أزياء جديدة بوتيرة سريعة، بما يتجاوز مواسم الخريف-شتاء والربيع-صيف التقليدية؛ إذ تطلق بعض العلامات التجارية آلاف التصاميم الجديدة أسبوعياً، مثل شركة شين الصينية للموضة السريعة الزوال. ويُستخدم معظم الملابس الجديدة لفترة وجيزة فقط ثم يتم التخلص منها، وينتهي بها المطاف بالحرق في مكبات النفايات أو تُشحن إلى البلدان النامية مثل غانا وتشيلي التي تسمح منذ زمن باستيراد الملابس المستعملة.
وعلى الرغم من جاذبية النموذج الدائري من الناحية النظرية، فإن المبادرات المنفردة الخاصة بالعلامات التجارية في صناعة الأزياء لن تستطيع قلب النظام الخطي الراسخ.
تنتج غالبية شركات الأزياء الشهيرة تقارير المسؤولية الاجتماعية للشركات، وقد اعتمد العديد منها شهادات صديقة للبيئة، مثل بلوساين (bluesign) (في إنتاج المنسوجات)، وعدم إنتاج المواد الكيميائية الخطرة (ZDHC) ("استخدام المواد الكيميائية المستدامة")، والتجارة العادلة (fair trade) (في الإنتاج). وعلى الرغم من اكتساب هذه الشهادات مكانة بارزة وتجريب قطاع صناعة الأزياء سلسلة من حلول إعادة التدوير وإعادة الاستخدام، مثل التصاميم العديمة النفايات أو التصاميم من مواد قابلة للتحلل، تستمر كمية النفايات والتلوث التي تنتجها صناعة الأزياء في التفاقم. إذ تشير التقديرات إلى أن انبعاثات الكربون في هذه الصناعة تتراوح بين %2 و10% من الانبعاثات العالمية، وهو نطاق لا يمكن تصوره لصناعة تدّعي أنها ملتزمة بالاستدامة. وتتجاوز انبعاثات صناعة الأزياء انبعاثات فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مجتمعة وفقاً لشركة ماكنزي أند كومباني (McKinsey & Company).
ونظراً لتزايد استخدام صناعة الأزياء للمواد الاصطناعية مثل البوليستر والنايلون بوتيرة أسرع بكثير من معدل استخدامها للمواد الطبيعية، تستهلك الأزياء الآن 70 مليون برميل من النفط سنوياً، أي ما يقرب من 1% من إنتاج النفط العالمي. كما أن النفايات الكيميائية السائلة، واستهلاك المياه، واستخدام الأراضي، والتلوث الناتج عن الجسيمات البلاستيكية الدقيقة ما تزال عقبات في وجه الاستدامة لا يمكن التخلص منها.
وفي وسط اشتداد الاحتباس الحراري وتسارع فقدان التنوع البيولوجي، من المتوقع أن تنمو صناعة الأزياء بأكثر من 60% هذا العقد. تضع شركات مثل شركة التجزئة السويدية آتش آند إم (H&M) أهدافاً ذات مصداقية هشة للحفاظ على النمو وتجنب الواجبات التنظيمية، مثل مضاعفة النمو مع تقليل انبعاثات الكربون بنسبة 50%، والاعتماد على النموذج الدائري كنهج لتحقيق هذا الهدف.
وضع نموذج الموضة السريعة الزوال شركة آتش آند إم في مرمى سهام للناشطين البيئيين. وقد تتحمل الانتقادات المتزايدة المسؤولية الجزئية عن اختيار الشركة لهيلينا هيلميرسون لتكون أول من يشغل منصب الرئيس التنفيذي من خارج العائلة المؤسِسة في يناير/كانون الثاني 2020. شغلت هيلميرسون منصب مديرة الاستدامة لمدة 5 أعوام من بين المسؤوليات العدة التي اضطلعت بها خلال مسيرتها المهنية في شركة آتش آند إم التي امتدت 25 عاماً.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020، شاركت هيلميرسون في محادثات حول مستقبل الكوكب والأزياء والاستدامة مع زميلها السويدي يوهان روكستروم الذي يعمل مهندساً لإطار عمل الحدود الكوكبية. واختارت مضيفة الحدث مؤسسة غلوبال فاشن أجيندا (Global Fashion Agenda) غير الحكومية التي أسستها وتمولها شركات أزياء عدة مثل نايكي وكيرينغ (Kering) وآتش آند إم منزلاً عصرياً في غابة سويدية ليكون مسرحاً مميزاً لهذا الحدث. واتفق كل من روكستروم وهيلميرسون بسرعة على أفضل مسار لمواجهة التحديات البيئية. قال روكستروم: "بصراحة إن النموذج الدائري هو المستقبل لجميع القطاعات، وبخاصة قطاع المنسوجات". واتفقت معه هيلميرسون على أن "النموذج الدائري هو الحل".
فليس من المستغرب إذن أن تعتمد شركة آتش آند إم النموذج الدائري محوراً لاستراتيجيتها للاستدامة. وكرر الرئيس التنفيذي للشؤون المالية لشركة آتش آند إم آدم كارلسون ما قالته هيلميرسون في حديث له في مؤتمر مؤسسة غلوبال فاشن أجيندا 2022 في كوبنهاغن، مشيراً إلى أن النموذج الدائري بالغ الأهمية لتحقيق هدف شركة آتش آند إم المتمثل في مضاعفة الإيرادات وخفض إجمالي انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون إلى النصف بحلول عام 2030، وهو ليس بالأمر الهين لشركة تنتج بالفعل أكثر من 20 مليار دولار من المبيعات.
وتستثمر آتش آند إم في جبهات متعددة لدفع أجندتها الدائرية قُدماً. حتى إنها عينت رئيساً لقسم النموذج الدائري الذي تتمثل وظيفته في سد الفجوات بين نشاطات الشركة مثل الترويج والإنتاج والاستدامة. أصدرت الشركة سندات استدامة بقيمة 500 مليون يورو (548 مليون دولار) مرتبطة بأهداف انبعاثات الكربون والمواد المعاد تدويرها؛ مقدمة نماذج أعمال جديدة لتأجير منتجاتها وإعادة بيعها وإصلاحها؛ ومشغلة لأكبر برنامج لجمع قطع الملابس في العالم. وتتعاون الشركة مع أكثر من 60 شريكاً، بما في ذلك مؤسسة إلين ماك آرثر (Ellen MacArthur Foundation) وهي مؤسسة خيرية غير ربحية مقرها المملكة المتحدة ومخصصة لتسريع النماذج الدائرية. كما تصمم آتش آند إم مجموعات ملابس صديقة للبيئة تعرض مجموعات قطع الثياب المبتكرة؛ وتستثمر في شركات تكنولوجيا إعادة التدوير الجديدة مثل شركات إنفينيتد فايبر (Infinited Fiber) وسبينوفا (Spinnova) وأمبرسايكل (Ambercycle)؛ وتدعم مالياً عدد من شركات تكنولوجيا الزراعة المتجددة وشركات المواد الأولية المبتكرة.
وتمتلك آتش آند إم رفقاء رائعين في سبيل تحقيق النموذج الدائري. إذ تتمتع كل من شركات غوتشي وآبل وأديداس وإيكيا وباتاغونيا (Patagonia) وأمازون وبيبسي وكيرينغ بنماذج دائرية خاصة كحل لفصل نمو الإيرادات واستهلاك الموارد. إذ تعمل شركة الاستدامة بكامل طاقتها في قطاعات عدة. قدمت مؤسسة إلين ماك آرثر وماكنزي أند كومباني دراسات عدة تروج للنموذج الدائري بوصفه فرصة لربح ملايين الدولارات. وصدر في الآونة الأخيرة تقرير عام 2022 لمؤسسة غلوبال فاشن أجيندا ومؤسسة فاشن أون كلايميت (Fashion on Climate) ومؤسسات غير حكومية في قطاع صناعة الأزياء بعنوان "توسيع النموذج الدائري: منظور لخطة العمل"، وخلص إلى أنه "يمكن تقليل ما يقرب من 25% من انبعاثات [صناعة الأزياء] من خلال النماذج الدائرية".
وأعطى مجلس مصممي الأزياء في أميركا (CFDA) بسبب هذه الدراسات أهمية كبيرة للنموذج الدائري، وهو أحد أكبر الاتحادات التجارية في القطاع. وقال مؤخراً الرئيس التنفيذي لمجلس مصممي الأزياء في أميركا ستيفن كولب: "إننا نؤمن بمستقبل قوي لقطاعنا من خلال تبني الابتكار والنموذج الدائري، ويتضمن ذلك إعادة التدوير وإعادة الاستخدام وإعادة البيع والمواد والعمليات المخصصة". كما تبنّى الاتحاد الأوروبي خطة عمل للاقتصاد الدائري تقترح سلسلة من التدابير لتعزيز النموذج الدائري للأزياء، ويتضمن ذلك إطار التصميم البيئي للمنتجات الجديدة؛ وتحسين القوانين، بما فيها مسؤولية المنتج الموسعة (EPR) ومعايير تصنيف المنتجات؛ ونهج لتحقيق درجة عالية من فرز النفايات؛ وتعزيز إصلاح المنسوجات وإعادة استخدامها وتدويرها؛ ووضع حدود لعدد مجموعات الأزياء.
7 عقبات أمام نجاح النموذج الدائري
يكمن العديد من العقبات التقنية والمادية والعلمية والمالية بين النموذج الدائري المنشود لصناعة الأزياء وتحقيق النتائج المرجوة. وإليكم أهم العقبات التي يجب التغلب عليها ليحقق النموذج الدائري أهدافه المرجوة.
أهداف المنظومة وحوافزها التي لم تتغير | يبلغ الرؤساء التنفيذيون والمدراء الماليون في الشركات العامة عن نتائجهم المالية لمساهميهم كل 90 يوماً. وتبقى حوافزهم مرتبطة بنمو الإيرادات والربحية وتوليد التدفقات النقدية. لذلك لا يميل القادة إلى تأييد التدخلات التنظيمية، أو الدفع مقابل آثار الإنتاج الجانبية مثل انبعاثات الكربون أو نفايات المنسوجات، أو دعم الابتكارات التي تعرّض النتائج المالية القصيرة الأجل للخطر. فيركز المسؤولون التنفيذيون طاقاتهم المحدودة على تحقيق الأهداف المالية على الرغم من فهمهم القضايا الشاملة مثل ندرة الموارد أو التغير المناخي.
كما تُحدث سلاسل التوريد الخارجية تحديات شاملة. وتركز العلاقات القصيرة الأجل بين شركات العلامات التجارية والموردين على الجودة ومواعيد التسليم والتكاليف. وفقاً لتقرير مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) لعام 2020: "لقد عزز هذا النظام المجزأ والمبني على العمليات التجارية بشكل أساسي بيئة غير مواتية للاستثمار في مشاريع البحث والتطوير والابتكار" التي تستدعي فترات سداد أطول. ويُكلف الموردون غالباً بتنفيذ أهداف الاستدامة مع "ضمانات قليلة بالاستفادة من استثماراتهم" من الطلبات الإضافية، وفقاً للتقرير نفسه. ويؤدي هذا السيناريو إلى طريق مسدود وعدم تحسين بيئي.
المقاييس التقديرية أو الغائبة | لا توجد مقاييس معيارية للنموذج الدائري. فقد تضع بعض الشركات أهدافاً للنسبة المئوية للمواد المعاد تدويرها، وقد تقيس شركات أخرى نسبة الحد من النفايات. وضعت المملكة المتحدة والنرويج وهولندا سياسات دائرية وطنية، وعلى الرغم من ذلك اعترف تقرير الاقتصاد الدائري لعام 2021 لهولندا بأنها تفتقر إلى "المقاييس التي تمكنها من توجيه العمل". ويتوافق هذا الاعتراف مع النتائج التي توصلت إليها دراسة تحليلية شمولية حديثة لمقاييس النموذج الدائري التي تكشف أن هذه المقاييس المستخدمة حالياً لا تقدم تقييماً شاملاً لتقدم العمليات. والأسوأ من ذلك، أن الدراسة توصلت إلى أن بعض التدابير المستخدمة لقياس التقدم تجيّر انخفاض استهلاك المواد إلى تأثيرات بيئية أو اجتماعية أخرى. وتتمثل الإشكالية الأخرى، في تتبع العديد من مقاييس النموذج الدائري النتائج مقابل التأثيرات، ما يصعّب تقييم التقدم.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة نقص ملحوظ في تحليل التأثيرات البيئية المحتملة للتحول من نظام خطي إلى نظام دائري. ولا يوجد تحليل أكاديمي لدورة الحياة خاضع لمراجعة الأقران يقارن الأثر البيئي للنموذجين. ويبدو هذا النقص غريباً نظراً إلى حماس القطاع للنموذج الدائري. يدّعي تقرير "توسيع النموذج الدائري" الصادر عن ماكنزي أن المخرجات المعاد تدويرها لها تأثير بيئي أقل من المواد البكر بالنسبة إلى المنسوجات. لكن النتائج تعتمد على العمليات المستخدمة في إعادة التدوير، وموقع إعادة التدوير، ومصدر الطاقة، ولوجستيات التجميع، والافتراضات الأخرى المستخدمة في التحليل.
فقدان الطاقة وتحلل المنتج | حلقة التكرار اللانهائي بإعادة تدوير المنتجات إلى ملابس جديدة ليست إلا ضرباً من الخيال. فكل حلقة تكرار تستهلك طاقة، ومع نقل الطاقة أو تحويلها تقل جودتها. وقد يُنتج المزيد من الطاقة من مصادر متجددة يوماً ما، لكن حوالي 10% فقط من الطاقة العالمية اليوم تنتج من تلك المصادر. بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم عمليات إعادة تدوير المنسوجات تقلل من الجودة بسبب تقصير الألياف، ما يجعل إعادة إنتاج ملابس من ملابس عملية صعبة. وبالتالي فإن أقل من 1% من منتجات الأزياء مدورة؛ أي منُتجة من ملابس أخرى.
نماذج أعمال غير قابلة للتوسع أو محط شكوك | يعتمد النموذج الدائري على نماذج أعمال جديدة تهدف إلى إطالة عمر الملابس، مثل الإيجار ( مثل منصة رينت ذا ران أواي (Rent the Runway)، وشركة فيرنش (Fernish))، وإعادة البيع (مثل شركتي ذا ريل ريل (The RealReal) وثريد أب (thredUP))، والإصلاح (مثل شركتي دايسون (Dyson) وأركتيريكس (Arc’teryx)). ومع ذلك، لم يثبت العديد من هذه النماذج بعد ربحيته، لذا من الصعب قياسها. على سبيل المثال، برنامج باتاغونيا ورن وير (Patagonia Worn Wear) لإعادة البيع الذي أُطلق منذ ما يقرب من عقد من الزمان والذي حظي بدعاية كبيرة، يولد أقل من 0.5% من مبيعات الشركة. ونفدت أموال شركة رينيوال وركشوب (Renewal Workshop)، وهي دار إصلاح ممولة تمويلاً جيداً، وكان لا بد من بيعها للحفاظ على بقائها في العمل. وتمكنت منصة رينت ذا ران أواي من طرح أسهمها للاكتتاب العام، لكن قيمتها السوقية تحوم عند أقل من نصف رأس مالها المستثمر، وخسرت شركة ثريد أب أموالها وتداولاتها لتصل قيمتها السوقية القصوى إلى ما يقرب من العُشر.
وفي حين أن الإيجار قد نجح في بعض الأعمال، مثل منازل العُطل ذات الإشغال المنخفض والتكاليف الأولية المرتفعة، فأنه لم ينجح بعد على نطاق واسع في قطاع الأزياء. وحتى في حالة نجاحه، يظل التأثير البيئي لإعادة البيع في قطاع الأزياء غير معروف، حيث لم يتضح بعد إذا ما كانت هذه النماذج تقلل من شراء منتجات جديدة. ومن الجدير بالذكر بالنسبة إلى مبيعات الملابس الجديدة والمستعملة، أن مدير التسويق في شركة إعادة البيع ذا ريل ريل ساشا سكودا ذكر أن "المستهلكين مدمنون على تجديد ملابسهم، بغض النظر عما إذا كان ذلك من سوق الملابس الجديدة أو المستعملة".
وفي الوقت نفسه، قد لا تُحل مشكلة الجدوى المالية لإعادة التدوير. وبداية مرحلة تصنيع المنسوجات المعاد تدويرها غالباً أكثر تكلفة من المواد البكر. ووفقاً لتقرير "توسيع النموذج الدائري" الصادر عن مؤسسة غلوبال فاشن أجيندا، يمكن أن تنخفض التكاليف بمرور الوقت وزيادة الحجم وتنامي الخبرة، ما يجعل المواد المعاد تدويرها أكثر فعالية من حيث التكلفة. وهنا أيضاً تعتمد التوقعات على المعطيات، مثل مَن يمول رأس مال البنية التحتية لإعادة التدوير، وسعر المواد الأولية، وتكاليف التجميع والنقل. وفي النهاية، إن كانت تكلفة النموذج الدائري أعلى من نموذج "التصنيع ثم الاستخدام ثم الرمي في النفايات" الخطي القياسي فلن يُعتمد على نطاق واسع.
مواد أولية بلاستيكية أو حيوية بكميات محدودة | تعمل المنشورات الترويجية للصناعة بشكل متزايد على الترويج لمحاسن النموذج الدائري الذي يعتمد على المواد القابلة للتحلل الحيوي. وتشمل الابتكارات على "جلود" من أوراق الأناناس والصبار والفطر، وخيوط من مواد أولية طبيعية مثل الذرة أو السكر. جذبت المواد الحيوية في السنوات الست الماضية أكثر من ملياري دولار من رأس المال الاستثماري.
لكن ذلك الترويج الكثيف لا يسفر دائماً عن حلول مستدامة. فلنأخذ على سبيل المثال جلد الديسيرتو (Desserto)، وهو بديل عن الجلد التقليدي مصنوع من الصبار، وقد تبدو هذه المادة الطبيعية مرشحة رائعة للاستخدام في النموذج الدائري. لكن المنشورات الترويجية للشركة المنتجة تتجاهل الإشارة إلى أن المُنتج مدعوم ببلاستيك (البولي يوريثين)، وهو مركب يستغرق مئات السنوات لكي يتحلل حيوياً. وأي استخدام واسع النطاق للمواد الحيوية التي تعتمد على السكر والذرة سيؤدي إلى زيادة الطلب على السلع التي تواجه حالياً ارتفاعاً في الأسعار بسبب الحاجة إلى إنتاج المزيد من الغذاء لمجاراة النمو السكاني. بالإضافة إلى ذلك، لا تمتلك هذه الاختراعات استطاعة الإنتاج وسلسلة التوريد المستقرة اللتين توفرا إنتاجاً مستقراً وأسعاراً منخفضة مثل سلع المشتقات النفطية.
ومع ذلك يسعى العديد من شركات المواد الحيوية الناشئة إلى تطوير حلول مستدامة واعدة. على سبيل المثال، ابتكرت شركة ناتشورال فايبر ويلدينغ "إن إف دبليو" (Natural Fiber Welding) عملية لمعالجة الألياف المعاد تدويرها وزيادة طولها، وصيغة لإنتاج جلود نباتية خالية من البلاستيك. وتلقت شركة إن إف دبليو تمويلاً من داري الأزياء رالف لورين (Ralph Lauren) وألبيردز (Allbirds). وتجسد شركة فيربريكس (Fairbrics) الفرنسية التي تطور عملية تحول نفايات ثاني أوكسيد الكربون إلى نسيج بوليستر مثالاً آخر.
نقص القدرات والبنية التحتية المكلفة | تحتاج تكنولوجيا إعادة التدوير للأقمشة المختلطة المتعددة الألوان إلى وقت طويل لتصبح جاهزة للتوسع. على الرغم من أن إعادة تدوير المنتجات المصنوعة من عبوات القطن والبولي إيثيلين تيريفثاليت (PET) قابلة للتطبيق من الناحية الفنية والتجارية، فإن إنتاجها يمثل أقل من 10% من إنتاج الأزياء. يُستخدم مزيج من المواد والصباغات المختلفة بألوان وزخارف متنوعة في صناعة الملابس والأحذية على نحو متزايد. فمن المحتمل أن يحتوي الجينز الذي يحوي قماش الدينم المطاطي على الإيلاستين، وهو بوليمر صناعي طويل السلسلة. وتعمل شركات ناشئة واعدة مثل أمبرسايكل (Ambercycle) وسيرك (CIRQ) على تطوير تكنولوجيا مزج المواد، لكن النموذج الدائري في قطاع الأزياء سيبقى محدوداً حتى تصبح تكنولوجيا إعادة التدوير هذه جاهزة للتوسع.
حتى لو كانت التكنولوجيا جاهزة وبتكلفة تنافسية، فسيتطلب بناء البنية التحتية اللازمة لإعادة التدوير التي تلبي الطلب على إعادة تدوير أكثر من 100 مليار وحدة من الأزياء كل عام جهداً هائلاً لتمويلها. إذ قدّرت دراسة حديثة أن تكاليف رأس المال تتراوح بين 6 و7 مليارات دولار لبناء البنية التحتية لدعم ثلث قدرة إعادة التدوير في أوروبا وحدها. ويجب موازنة هذه التكاليف الرأسمالية مع التكاليف الرخيصة للألياف البكر. ووفقاً لمهندس المواد في معهد جورجيا للتكنولوجيا (Georgia Institute of Technology) يوجيانغ وانغ: "عملية إنتاج البوليستر والقطن والأقمشة الأخرى رخيصة للغاية وهناك هامش ربح ضئيل في حال لم تكن عمليات إعادة التدوير مكلفة للغاية".
وأخيراً، البنية التحتية لإعادة التدوير الباهظة الثمن ليست على ما يبدو التحدي الأكبر لتحقيق النموذج الدائري. إذ تتمثل أكبر العقبات في غياب البنية التحتية لتصنيع مجموعات الأزياء وفي سلوك المستهلك. فوفقاً لرئيسة قسم النموذج الدائري في شركة زالاندو (Zalando) ،لورا كوبن، "فجوة السلوك كبيرة جداً وبخاصة فيما يخص النموذج الدائري. ويرجع ذلك غالباً إلى غياب الحلول التي يمكن توفيرها للعملاء على نطاق واسع". حتى عندما تعود القمصان والأحذية الرياضية إلى مجموعات الموضة، ثمة تحدٍ إضافي يتمثل في ربط النفايات بعمليات الإنتاج عبر إعادة التدوير.
غياب تنسيق ما قبل التنافس والعمل التعاوني بين القطاعات | منحني منصبي السابق بوصفي الرئيس التنفيذي للعمليات في تمبرلاند فرصة لحضور مؤتمر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 2022 حول تدوير الأحذية. ضم الاجتماع ممثلين من أكثر من 10 علامات تجارية منافسة وعشرات الموردين. وخلص التقرير النهائي للاجتماع إلى أن النهج القياسي "المغلق" للابتكار والملكية الفكرية سيخفق في حال طُبّق على الانتقال نحو اقتصاد الأحذية الدائري. وأجمع المشاركون على أنها كانت المرة الأولى التي يجتمعون فيها لمناقشة طرق التعاون ضمن هذه الصناعة لتنفيذ النموذج الدائري.
وفي حين أن العمل التعاوني بين المنافسين في قطاع الأزياء في مجالات تبدأ من تصميم المنتج إلى اختيار أفضل المواد خطوة أولى ضرورية في سبيل تحقيق النموذج الدائري، فهو ليس كافياً. إذ تُصنف جميع الاستثمارات في البنية التحتية للفرز والتجميع خارج الحدود التقليدية لقطاع صناعة الأزياء. والعمل التعاوني بين واضعي السياسات والمستثمرين والمشغلين ضروري لتوسيع نطاق هذه الاستثمارات لدعم القدرة اللازمة لبدء التحول إلى منظومة الأزياء الدائرية. تهدف خطة عمل الاقتصاد الدائري الجديدة للاتحاد الأوروبي إلى جانب المساعي الجديدة في الصين إلى إطلاق مثل هذا التعاون.
الحلول الأفضل في مكان آخر
لا تستطيع البشرية الانتظار عقوداً من الزمن لمعالجة أزمات الكوكب العديدة السريعة التطور. فندرة المياه وفقدان التنوع البيولوجي من التحديات التي تحتاج إلى حلول سريعة. وفي الوقت نفسه يجب أن تنخفض انبعاثات الكربون بأكثر من 7% سنوياً على مدى السنوات السبع المقبلة حتى تتاح الفرصة للحد من الاحترار 1.5 درجة مئوية. ويقارن ذلك بأكبر انخفاض عالمي في انبعاثات الكربون الذي وصل إلى نسبة %2 خلال فترة الركود العالمي 2008-2009.
ونظراً إلى إلحاح المسألة، فقد حان الوقت للاعتراف بأن الحلول الطوعية التي تقودها السوق لن تعالج بدرجة كافية آثار الإنتاج الجانبية السلبية على البيئة. إذ أثبتت النظرية القائلة بأن القياس والإبلاغ من شأنه تمكين المستهلكين والمستثمرين للضغط على الشركات للتصدي للتغير المناخي أنها عديمة الفاعلية. وكلما أسرعت شركة الاستدامة في إدراك حدود العمل التطوعي، أسرعت في تكريس المزيد من الاهتمام للإجراءات التحويلية.
وعلى الرغم من أن صناعة الأزياء ليست سوى قطاع واحد من بين قطاعات الاقتصاد العدة، فإن تأثيرها البيئي السلبي كبير ومتزايد. يشير غياب التقدم والعقبات الهائلة إلى أن الإفراط في المراهنة على النموذج الدائري لن يقربنا من تحقيق الاستدامة. لذا سأقدم 4 توصيات يمكن لصناعة الأزياء اتباعها لمعالجة آثارها السلبية على البيئة على نحو مباشر.
ونظراً إلى إلحاح المسألة، فقد حان الوقت للاعتراف بأن الحلول الطوعية التي تقودها السوق لن تعالج بدرجة كافية آثار الإنتاج الجانبية السلبية على البيئة.
معالجة الاستهلاك المفرط | أكبر مصدر للتأثير هو الأصعب في التغيير. أدى تسويق الأزياء وعدم تغيير نموذج العمل القائم على "التقادم المدروس"، وهو نموذج عمل يعتمد على تصميم منتجات يصعب إصلاحها أو تصبح قديمة الطراز سريعاً، إلى إنشاء آلية إدمان متقنة محفزة للدوبامين تتنامى دون عائق. فاليوم يشتري المستهلك العادي قطعة ملابس واحدة كل أسبوع في الولايات المتحدة. وفي حال حذوت البلدان النامية حذو الولايات المتحدة، فمن المرجح أن تسعى إلى محاكاة هذا السلوك.
والتحذيرات القاسية من الفوضى البيئية الوشيكة لم تفعل شيئاً يذكر لتغيير أنماط الاستهلاك. يهدف دفع صناعة الأزياء نحو استخدام "أفضل المواد" (أي الأقل ضرراً على البيئة) ووسوم الاستدامة إلى زيادة تفضيل العلامة التجارية بين المستهلكين وتحفيز الطلب. فمن غير المنطقي الادعاء بأن زيادة مبيعات الأحذية والقمصان "المستدامة"- ويلقى 75% منها في المطامر أو المحارق- ستؤدي إلى مستقبل مستدام.
في حال التزم الناس في العالم المتقدم بتقليل الاستهلاك واستندوا في مشترياتهم بدرجة كبيرة إلى الحاجة، فقد نتمكن من العودة إلى العيش ضمن الحدود الطبيعية. ومن المستحيل توقع حدوث هذا التغيير نظراً لطبيعة عصرنا الحالي. لذلك ثمة حاجة إلى المزيد من الآليات الشديدة الفاعلية لعكس التأثير البيئي المتزايد للأزياء. وربما يتعين على المشرعين أن يفكروا في فرض ضريبة على الموضة السريعة التقادم لتمويل معالجة الآثار الضارة للصناعة، تماماً مثل ضرائب السجائر التي فرضت لتقليص الاستهلاك وتمويل برامج الصحة العامة. ويمكن أن تؤدي هذه الضرائب إلى إبطاء نمو إنتاج الوحدة في حال كانت الضريبة كبيرة بدرجة كافية لزيادة الأسعار.
التنظيم الفعال | على الرغم من نية قوانين الاتحاد الأوروبي الحسنة لتحقيق النموذج الدائري، لم يتضح بعد مدى فعاليتها. ويتمثل النهج الأوضح في وضع الحكومات قيوداً على التأثيرات البيئية مثل انبعاثات الكربون مع السماح للشركات بتحديد طرق تحقيق هذه التخفيضات. ويرمي التشريع المقترح في نيويورك "قانون استدامة الأزياء وتحمل المسؤولية الاجتماعية" إلى تحقيق ذلك تماماً. إذ يطلب من شركات الأزياء التي تبيع منتجاتها في ولاية نيويورك تخفيض الانبعاثات تماشياً مع هدف الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية 1.5 درجة مئوية. وفي حال أخفقت الشركات في الوفاء بالتزامها، فيمكن تغريمها بما يصل إلى 2% من إيراداتها.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على المسؤولين المنتخبين تنظيم ادعاءات المُنتج والتحقق من صحتها. فيجب ألا تكون شركات الأزياء قادرة على استخدام مصطلحات مثل "دائري" أو "أخضر" أو "مستدام" في وصف منتجاتها حتى تُحدد التعاريف القانونية (حالها كحال الأطعمة العضوية) وتأكيد الامتثال. مثل هذه القوانين نافذة في النرويج، وقد واجهت شركة آتش آند إم مؤخراً مشكلات مع السلطات لاستخدامها معلومات استدامة مضللة وغير مكتملة الأركان. وبالنتيجة وافقت شركة آتش آند إم على تعليق تلك الادعاءات والتبرع بمبلغ 500,000 يورو (548,000 دولار) لأسباب مرتبطة باستدامة الأزياء. كما يتعامل كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضاً مع الادعاءات الكاذبة عبر السبل القانونية.
أخيراً، تفرض قوانين مسؤولية المنتج الموسعة (EPR)على شركات العلامة التجارية دفع تكاليف نهاية عمر المنتج. إذ وضعت فرنسا قانون مسؤولية المنتج الموسعة للمنسوجات عام 2007، وتعد قواعد مسؤولية المنتج الموسعة جزءاً من خطة الاتحاد الأوروبي الدورية. أظهرت دراسات عدة فعالية هذه القوانين في زيادة معدلات إعادة التدوير، واعتماداً على صياغتها يمكن أن تخلق حوافز لاستخدام مواد أولية أقل ضرراً وقابلة لإعادة الاستخدام. ويجب مراعاة ارتفاع رسوم مسؤولية المنتج الموسعة على الملابس ذات المواد المختلطة لزيادة النسبة المئوية للملابس القابلة لإعادة التدوير. ومن شأن الرقمنة الإلزامية لأصل القماش المستعمل في الملابس أن تحسن فعالية قوانين مسؤولية المنتج الموسعة وإعادة التدوير.
دعم الحلول غير المسبوقة | خصص قانون خفض التضخم الأميركي لعام 2022، 27 مليار دولار لتمويل صندوق خفض غاز الدفيئة للاستثمار في أسهم التكنولوجيا الواعدة لإزالة الكربون. إن وجود آلية عالمية مماثلة لتمويل الحلول الواعدة في قطاع صناعة الأزياء سيمكّن من تسويق أفضل أفكار التجديد بتواتر أكبر. ووفقاً لدراسة أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية عام 2020 بعنوان "تمويل التحول في الموضة"، تحتاج صناعة الأزياء إلى استثمار من 20 إلى 30 مليار دولار سنوياً لتحقيق تغيير تدريجي في الاستدامة. ومن المرجح أن يأتي هذا التمويل من القطاعين العام والخاص. وتجسد شركة الاستثمار كلوزد لوب بارتنارز (Closed Loop Partners) مثالاً على شركات الاستثمار الخاصة التي تدعم حلول الاستدامة المبتكرة بتمويل من المنافسين في الصناعة. ويمكن تنمية هذا النموذج الواعد في فضاء صناعة الأزياء، حيث يعمل المستثمرون بصفتهم مشرعين ومستخدمين للتكنولوجيا الجديدة.
ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من تمويل الابتكار في الموضة لا يستهدف أكبر مصادر الانبعاثات. إذ يُخصَص رأس المال حالياً للمواد الجديدة التي تمثل حوالي 15% من بصمة غاز الدفيئة للمنتج، أو حلول نماذج الأعمال الجديدة، في حين أن الجزء الأكبر من غاز الدفيئة الناتج من صناعة الأزياء ينبعث في أثناء مراحل معالجة المواد المنتجَة. يحدث ذلك بعيداً عن العالم المتقدم في مصانع النسيج والصباغة والتشطيب للمقاولين الموجودين أساساً في شرق آسيا. وتعمل هذه المرافق على الفحم غالباً. ففي حال وضعنا التكلفة جانباً، ستنخفض الانبعاثات من الملابس بأكثر من الربع عن طريق تحويل الإنتاج من الصين إلى أماكن تستخدم مزيج طاقة أنظف، مثل تركيا والاتحاد الأوروبي.
ومن المحتمل أن تؤدي صفقة تمويل واحدة أُبرمت مؤخراً إلى التخفيف من انبعاثات الكربون في صناعة الأزياء أكثر من جميع الالتزامات بالنموذج الدائري. وبدعم من مزيج من المؤسسات العامة والبنوك الخاصة، أعلنت فيتنام عن التزام تمويل الشراكة من أجل الانتقال للطاقة العادلة (JETP) بقيمة 15.5 مليار دولار لتستثمر على مدى الأعوام الثلاثة إلى الخمسة المقبلة. وستستخدم هذه الأموال لتسريع انتقال البلاد من الفحم إلى مصادر الطاقة المتجددة، وبالتالي تقليل انبعاثات الكربون من مصانع موردي فيتنام التي تعد ثاني أكبر مصدّر للملابس في العالم.
تسريع التعاون بين صناعة الأزياء وباقي القطاعات | لطالما كانت صناعة الأزياء معقلاً للإبداع. ويمكن للإبداع الذي تحفزه الحدود أن يعزز التقدم في حال وُجِّه بطريقة مختلفة. ويمكن لاتحاد من شركات المنافسين من العلامات التجارية الرائدة اعتماد أدوات ومعايير ومواد لضمان أن تبدأ التصميمات بالتركيز على ما يحدث عندما يتم التخلص من المنتج في نهاية عمره.
تعد قرارات التصميم الأخيرة الصادرة عن العلامتين التجاريتين المتنافستين في قطاع المشروبات الغازية ماونتين ديو وسبرايت باستخدام عبوات شفافة عوضاً عن العبوات البلاستيكية الخضراء الخاصة بعلامتهما التجارية قرارات بناءة. إذ اختارت الشركتان زيادة المعروض من العبوات القابلة لإعادة التدوير للمساعدة في معالجة النقص في صناعة البولي إيثيلين تيرفثالات المعاد تدويره. وعلى الرغم من مخاوف فرقهما التجارية، لم تضر العبوات الشفافة بحجم المبيعات. وعلى الرغم من عملها بشكل مستقل، قدمت العلامة التجارية الإيطالية نابابيري (Napapijri) مؤخراً سترة مصنوعة بالكامل من بوليمر واحد، بينما أطلقت العلامة التجارية الفرنسية سالومون (Salomon) لأول مرة حذاء رياضياً مصنعاً من مادة واحدة مصممة لإعادة التدوير إلى زوج جديد من أحذية التزلج. اتُخذت قرارات التصميم المحدودة للعلامتين التجاريتين مع التركيز على إعادة استخدام المواد في نهاية عمر المنتجات.
يجب أن تتعاون صناعة الأزياء مع المنافسين والمشغلين من قطاعات مختلفة والمستثمرين والقطاع العام لكي تعكس اتجاه بصمتها البيئية المتزايدة. وتتمثل إحدى أفكار هذه الشراكة في قيام كبار الرؤساء التنفيذيين لشركات الأزياء بالضغط من أجل شراكة ثانية بين القطاعين العام والخاص في برنامج الشراكة من أجل الانتقال للطاقة العادلة مع مركز إنتاج رئيسي في جنوب شرق آسيا مثل بنغلاديش، وذلك لتسريع تحويل الطاقة الأساسية من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة. ويمكن للمسؤولين التنفيذيين في صناعة الأزياء إحداث زخم من خلال الموافقة على المساعدة في تمويل المشروع إلى جانب المؤسسات المصرفية الشريكة لهم.
جهد جماعي
يعد الابتكار والاستثمار في المواد وحلول إعادة التدوير من الخطوات الإيجابية نحو تقليل الآثار البيئية السلبية لصناعة الأزياء. ولكن عندما يتعلق الأمر بالاستدامة، فإن الخطاب يتقدم على الواقع ويستمر الضرر البيئي في تجاوز سرعة التحول الدائري. ونظراً للعقبات التي تعترض النموذج الدائري وحيويته، فإن التقدم الحقيقي نحو استدامة الموضة لن يأتي إلا من مزيج من التنظيم والاستثمار الصناعي في شراكات عابرة للقطاعات، وليس أهدافاً بعيدة المنال خاصة بعلامة تجارية بعينها.
في مؤتمر مؤسسة غلوبال فاشن أجيندا نفسه حيث حددت آتش آند إم أهدافها في إزالة الكربون، سأل أحد المشرفين على جلسة حول التدوير أعضاء اللجنة عن الجدول الزمني لتحقيق الاقتصاد الدائري. أجاب عضو اللجنة ويليام ماكدونو ساخراً: "أعوام لا تعد ولا تحصى" الجملة التي تعد نذير شؤم لأن ماكدونو هو مؤلف كتاب "من المهد إلى المهد" (Cradle to Cradle)، وهو أحد البيانات التأسيسية للحركة الدائرية.
بدلاً من الانتظار أعوام لا تعد ولا تحصى، قد يرى أحد المتشككين أن النموذج الدائري هو وسيلة للإلهاء يهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن وأن أكبر عقبة أمام تحقيق الاستدامة هي الاستهلاك الجامح الذي تغذيه الصناعة نفسها. حان الوقت لمعالجة وسيلة الإلهاء هذه.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.