الحرب الثقافية على علوم المناخ

التغير المناخي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في شهر مايو/ أيار من عام 2009، طلب مني مسؤول التطوير في جامعة “ميشيغان”، مقابلة متبرع محتمل، وهو لاعب كرة قدم سابق ورجل أعمال ناجح يبدي حالياً اهتماماً بالقضايا البيئية والأعمال التي يشملها مجال خبرتي متعددة التخصصات.

بدأ الاجتماع في السابعة صباحاً، وكنت أعدّ أول فنجان قهوة لي حين باشر المتبرع المحتمل حديثه، بقوله: “أعتقد أن عملية المراجعة العلمية فاسدة”، فسألته عن رأيه في جامعة تعتمد هذا النظام، فأجاب بأنها فاسدة في هذه الحالة أيضاً. تابع كلامه واصفاً علم التغير المناخي بأنه خدعة، مستخدماً جميع الخطوط الهجومية المعروفة؛ من البقع والتوهجات الشمسية، إلى نموذج التوافق غير العلمي والفاسد سياسياً، والفوائد البيئية لثاني أوكسيد الكربون.

وبينما كنا نناقش كل نقطة، وجه هجومه إليّ متسائلاً عن سبب كرهي للرأسمالية، ورغبتي في تدمير الاقتصاد بتدريس القضايا البيئية في كلية إدارة الأعمال. وفي النهاية، سألني عما إذا كنت أعرف سبب تحديد يوم الأرض في 22 أبريل/نيسان. تنهدت وهو يشرح قائلاً: “لأنه يوم ميلاد كارل ماركس”، (أظن أنه قصد أن يقول فلاديمير لينين الذي يصادف يوم ميلاده يوم الأرض أيضاً. وربط البعض من حزب اليمين المتطرف يوم الأرض وميلاد لينين بناء على اعتقادهم أن يوم الأرض هو مؤامرة شيوعية، على الرغم من أن لينين لم يدع يوماً إلى حماية البيئة، وليس للشيوعية إرث بيئي قوي).

التفتُّ إلى مسؤول التطوير وسألته: “ما جدول أعمالنا هنا هذا الصباح؟”، قاطعني المتبرع ليقول إنه يريد شراء تذكرة لي لحضور المؤتمر السنوي الرابع لمؤسسة هارتلاند إنستيتيوت (Heartland Institute) حول التغير المناخي، وهو المؤتمر الرائد للمشككين في التغير المناخي. فتحققت من جدول أعمالي وتذرّعت بالتزامات سابقة ورفضت حضوره بلطف، وسرعان ما انتهى الاجتماع.

قضيت ذلك الصباح أحاول استيعاب ما دار خلال الاجتماع، وكل ما استخلصته منه في البداية هو أنه كان على مبدأ ألق طُعماً ثم بدّله؛ إذ لم يكن المتبرّع مهتماً بتمويل الأبحاث في مجال الأعمال والبيئة، وإنما بانتقاده هذه المبادرة. رفضته باعتباره متعصّباً غير منطقي، لكن الاجتماع ظل عالقاً في ذهني، وكلّما فكرت في الأمر توضح لي أنه كان ينطلق في حديثه من منظور متماسك ومتناسق للعالم؛ وعلى الرغم من أني لم أتفق معه فقد كان منظوراً متماسكاً. بالإضافة إلى أنه ساعدني في أبحاثي، كلّما فكرت في نقاشنا زادت لهفتي لأتعرف على منطلق رأيه ومنطلق رأيي وسبب تعارض نظرتينا للعالم بشدة في النقاش الاجتماعي الحالي حول علوم المناخ. ومن المفارقات أن رغبته في تحدي بحثي كانت سبباً في تحفيز مسار بحثيّ جديد يتوافق تماماً مع مخططي لإجراء أبحاث أوسع حول التغيير الاجتماعي والمؤسسي والثقافي.

التوافق العلمي مقابل التوافق الاجتماعي

لا شك اليوم في وجود توافق علمي حول قضية التغير المناخي، إذ وثّق العلماء أن المصادر البشرية المنشأ للغازات الدفيئة تؤدي إلى تراكمها في الغلاف الجوي، ما ينتج عنه ارتفاع درجات الحرارة العامة في المناخ العالمي، وتبدُّل في التوزيع الإحصائي لأنماط الطقس المحلية. على مدى فترات زمنية طويلة اعتمدت مجموعة كبيرة من الوكالات العلمية هذا التقييم، من ضمنها كافة الوكالات العلمية الوطنية لدول مجموعة الثماني ومجموعة الخمس، والغالبية العظمى من علماء المناخ، كما تدعم غالبية المقالات البحثية المنشورة في المجلّات العلمية المرجعية هذا التقييم العلمي، وتستخدم كل من الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم والجمعية الأميركية لتقدُّم العلوم كلمة “توافق” عند وصف حالة علوم المناخ.

ومع ذلك، لا توافق اجتماعياً بشأن التغير المناخي. تبيّن الاستقصاءات أن إيمان الشعب الأميركي في علم التغير المناخي قد تراجع في غضون 5 سنوات مع استمرار نسبة كبيرة من السكان بالتشكيك فيه، إذ تراجع إيمانهم به من 71% إلى 57% بين أبريل/نيسان 2008 وأكتوبر/تشرين الأول من عام 2009، وفقاً لاستطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2009، ثم عاودت النسبة لاحقاً إلى الارتفاع إلى 62%، وفقاً لتقرير صادر عن استقصاء وطني للرأي العام الأميركي حول التغير المناخي في فبراير/شباط من عام 2012. يخبرنا هذا الكمّ الضخم من المعارضين أننا نفتقر إلى مجموعة معتقدات مقبولة اجتماعياً عن التغير المناخي لا يقصد بها المعتقدات التي تنبع من الميول الفردية، بل التي تنبع من الأعراف الاجتماعية وتمثّل كل من ينتمي إلى اليسار السياسي واليمين السياسي وحزب الوسط، بالإضافة إلى كل من تكون هوياتهم الثقافية حضرية أو ريفية أو دينية أو لا دينية أو يافعة أو متقدّمة في السن أو عرقية أو عنصرية.

لماذا الأمر هكذا؟ لماذا يرفض هذا العدد الكبير من الأميركيين توافق المجتمع العلمي؟ وفقاً لاستقصاء أجرته أكاديمية كاليفورنيا للعلوم في عام 2009، فإن أكثر من ثلثي الأميركيين لا يفهمون العلم أو العملية العلمية بوضوح، وقلّة منهم قادرون على اجتياز اختبار معرفة علمية بسيط حتى. وهذا جعلنا نتساءل: كيف يفسّر الناس آراء المجتمع العلمي ويتحققون من صحتها؟ لن نعثر على الإجابة في مجالات العلوم الفيزيائية، بل في مجالات العلوم الاجتماعية من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان وغيرها.

لنفهم الإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى نشوء توافق اجتماعي حول التغير المناخي، يجب أن ندرك أن الناس يشكلون آراءهم عن هذه القضية وغيرها من القضايا العلمية المعقّدة بناء على خياراتهم العقائدية السابقة وخبراتهم الشخصية وقيمهم، وكلها تتأثر كثيراً بمجموعاتهم المرجعية وفلسفتهم الفردية. قد يضع علماء الفيزياء معايير لفهم الجوانب التقنية للنقاش حول المناخ، لكنهم لا يملكون الكلمة الفصل فيما إذا كان المجتمع يتقبّل استنتاجاتهم أو حتى يفهمها. تتجاوز دائرة الفئات المهمّة في النقاش الاجتماعي الخبراء العلميين، كما أن الإجراءات التي ستؤدي إلى فهم هذه الفئات لعلم التغير المناخي وتقييمه لا تنحصر في جوانبه التقنية. علينا أن نعترف بأن النقاش حول التغير المناخي يتعلق بالثقافة والمعتقدات والنظرة تجاه العالم، على غرار جميع القضايا البيئية تقريباً.

يمكن رؤية هذه الحقيقة بوضوح شديد في الانقسام الحزبي المتزايد حول هذه القضية، فالانتماء السياسي، لا المعرفة العلمية، شديد الارتباط بالارتياب الفردي من التغير المناخي، إذ انخفضت النسبة المئوية للمحافظين والجمهوريين الذين يعتقدون أن تأثيرات الاحتباس الحراري بدأت بالظهور فعلاً من نحو 50% في عام 2001 إلى نحو 30% في عام 2010، على حين ارتفعت النسبة المئوية المقابلة لليبراليين والديمقراطيين من نحو 60% في عام 2001 إلى نحو 70% في عام 2010.

أصبح التغير المناخي محصوراً بما يسمّى بالحروب الثقافية، إذ يُنظر إلى تقبّل التوافق العلمي على أنه توافق مع وجهات النظر الليبرالية التي تتوافق مع قضايا “ثقافية” أخرى تقسّم البلد (مثل الإجهاض والتحكم بالأسلحة والرعاية الصحية والتطور). لم يكن الانقسام الحزبي حول التغير المناخي سائداً في التسعينيات، بل هو ظاهرة معاصرة برزت في أعقاب اتفاقية “كيوتو” في عام 1997، إذ هددت الحصص المادية للمصالح الاقتصادية والسياسية القوية، وخاصة  الأفراد المنتمين إلى أوساط صناعة الوقود الأحفوري. يكمن الخطر  الكبير لذلك الانقسام الحزبي المطوّل في أن النقاش سيأخذ منحىً أسميه “الانقسام في المنطق”، وهو تداعي النقاش الذي تتحدث الأطراف المتعارضة فيه عن قضايا ثقافية مختلفة كلياً.

تسعى هذه المقالة إلى الخوض في النقاش حول التغير المناخي من منظور العلوم الاجتماعية. لم أتبع هذا النهج لأن العلوم الفيزيائية فقدت شيئاً من أهميتها، بل لأننا نحتاج إلى فهم الآليات الاجتماعية والنفسية التي يتلقّى الناس من خلالها علم الاحتباس الحراري ويفهمونه. سأوضّح الأبعاد الثقافية للنقاش المناخي بوضعه الحالي، وأحدد 3 مسارات محتملة يمكن أن تحفز تقدّم النقاش نحو الأمام، وأشرح أساليب محددة تقود هذا النقاش نحو توافق أوسع؛ هذا هدف حتمي، فدون توافق أوسع حول التغير المناخي في الولايات المتحدة لن يتمكن الأميركيون وشعوب العالم من صياغة حلول اجتماعية وسياسية واقتصادية فعّالة للتكيّف مع الظروف المتغيّرة على كوكبنا.

المعالجة الثقافية لعلوم المناخ

نستعين بتعبير الخبير الاقتصادي هربرت سايمون، الحائز على جائزة “نوبل” التذكارية، لوصف الأشخاص عند تحليلهم للمعلومات العلمية المعقّدة: فهم “عقلانيون بدرجة محدودة”. ووفقاً لعالمة النفس في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس، سوزان فيسك، وعالمة النفس في جامعة برينستون، شيلي تيلور، فنحن “بخلاء في تقديم المعرفة” ولدينا قدرة معرفية محدودة على التحقق الشامل من كل قضية نواجهها. يستخدم مختلف الأشخاص عوامل فرز فكرية تعكس هويتهم ونظرتهم إلى العالم وأنظمة معتقداتهم، وتتأثر عوامل الفرز هذه بشدة بالقيم الجماعية. ونحن عموماً نؤيد الموقف الذي يعزّز العلاقة التي تربطنا بالآخرين في مجموعتنا المرجعية مباشرة، وهذا ما يشير إليه الأستاذ في كلية ييل للحقوق، دان كاهان، بعبارة “المعرفة الثقافية”؛ فعندما نقوم بذلك نوطّد علاقتنا مع مجموعاتنا الثقافية ونعزز تعريفنا للذات. هذه النزعة تحركها الرغبة الفطرية في الحفاظ على التوافق في المعتقدات من خلال منح الأدلة والحجج التي تدعم المعتقدات المسبقة أهمية أكبر وبذل طاقة مفرطة في محاولة دحض الآراء أو الحجج التي تتعارض معها. وبدلاً من التحقق من قضية معقدة غالباً ما نتعلم معتقدات مجموعتنا المرجعية ببساطة، ونسعى إلى دمج هذه المعتقدات مع وجهات نظرنا الشخصية.

ومع مرور الوقت؛ تزداد عوامل الفرز الفكرية تلك ثباتاً ومقاومة للتغيير من خلال آليات تعزيز متعددة: أولاً، لن نأخذ في عين الاعتبار إلا الأدلة التي تكون مقبولة أو، في الحالة المثالية، يقدمها مصدر مطّلع من مجتمعنا الثقافي، وسنرفض المعلومات التي تؤيدها المصادر التي تمثل المجموعات التي نرفض قيمها. ثانياً، سننتقي مصادر المعلومات التي تدعم موقفنا العقائدي. مثلاً، يزداد احتمال قول مشاهدي قناة فوكس نيوز (Fox News) الدائمين إن درجة حرارة الأرض لا ترتفع، وإن أي ارتفاع فيها ليس ناتجاً عن الأنشطة البشرية، وإن معالجة مشكلة التغير المناخي ستضرّ الاقتصاد، ومن المتوقع أن نسمع آراء مناقضة من مستمعي الإذاعة الوطنية العامة (National Public Radio). تقودنا نتيجة هذه المعالجة الثقافية وآليات الترابط الجماعي إلى استنتاجين حتميين عن النقاش حول التغير المناخي.

استنتاجان حتميان عن النقاش حول التغير المناخي

الاستنتاج الأول: التغير المناخي ليس قضية “تلوث”: على الرغم من قرار المحكمة العليا في الولايات المتحدة عام 2007 تصنيف الغازات الدفيئة ملوثة للهواء قانونياً، فهي من المفهوم الثقافي أمر مختلف تماماً. لا يماثل تخفيض انبعاث الغازات الدفيئة تخفيض أكاسيد الكبريت أو أكاسيد النيتروجين أو أول أوكسيد الكربون أو الجسيمات المعلّقة (جسيمات صلبة أو سائلة ذات أبعاد مجهرية معلقة في غلاف الأرض الجوي)، فهذه الأشكال من التلوث ناتجة عن النشاط البشري، وهي مضرّة، وهي أيضاً مخلّفات ناتجة عن الإنتاج الصناعي عن غير قصد. في الحالة المثالية، نود الحدّ من إنتاجها من خلال حشد الموارد الاقتصادية والتقنية، لكن ثاني أوكسيد الكربون، الغاز الدفيء الرئيسي، ناتج عن كل من النشاط البشري والطبيعة، فهو ليس ضاراً بطبيعته بل جزء طبيعي من النظم الطبيعية. ولا نرغب في الحدّ من إنتاجه فهو ليس من المخلّفات السامة أو مشكلة تقنية بحتة يجب حلها، بل جزء متأصّل من مجتمعنا وهويتنا وناتج مرغوب فيه بشدة لأنه يرتبط بمستوى معيشتنا. تزداد انبعاثات الغازات الدفيئة مع ازدياد ثروة الأمة، وهي غاية جميع الناس، ويتطلّب تخفيض انبعاث ثاني أوكسيد الكربون تغييراً في كافة جوانب الاقتصاد تقريباً، وبالتالي كافة جوانب ثقافتنا تقريباً. ولكي نتعامل مع الغازات الدفيئة على أنها مشكلة، يجب أن نحدث تغييراً جذرياً في الطريقة التي ننظر بها إلى العالم وإلى أنفسنا ضمنه، وهذا يقودنا إلى المفارقة الثانية.

الاستنتاج الثاني: يمثّل التغير المناخي تحدياً وجودياً لمنظورنا المعاصر للعالم: التحدي الثقافي الذي يمثله التغير المناخي ضخم ويتألف من 3 جوانب يؤدي كل منها إلى الآخر. الجانب الأول هو ضرورة أن ننظر إلى مادة لم تكن مضرّة سابقاً، بل مفيدة، بطريقة جديدة ونعتبرها خطرة نسبياً وليس مطلقاً لأنها لا تمثّل مشكلة إلا عندما يختلّ توازن تركيزها. لكن لفهم هذاوتقبُّله، علينا تصوّر النظام البيئي العالمي بأسلوب جديد.

يقودنا هذا التحدي إلى الجانب الثاني: لا نحتاج إلى تغيير منظورنا عن النظام البيئي فحسب، بل علينا أيضاً تغيير منظورنا عن موقعنا ضمنه. هل أعداد البشر وقوة تطور التكنولوجيا كافية لنتمكن من تغيير النظام البيئي وإدارته على مستوى الكوكب؟ هذا سؤال ثقافي ضخم يغير نظرتنا للعالم، ولذلك يرى البعض السؤال وجوابه غطرسة فكرية وروحية، في حين يراهما البعض الآخر من البديهيات.

إذا أجبنا عن هذا السؤال بالإيجاب فالجانب الثالث يتحدانا للنظر في نماذج جديدة وربما غير مسبوقة من الأخلاقيات والحوكمة العالمية للعمل على معالجته. يعرّف غاريت هاردين، عالم البيئة، التغير المناخي بأنه “أزمة الموارد المشتركة” الكبرى؛ كل فرد لديه دافع ليسبب انبعاث الغازات الدفيئة لتحسين مستوى معيشته، لكن الجميع يدفعون ثمنه الذي، للأسف، لا يتوزع في هذه القضية العالمية على البشر بالتساوي، بل تتحمل الفئة السكانية المستضعفة في البلدان الفقيرة العبء الأكبر. لذا، علينا إعادة التفكير في أخلاقياتنا لتواكب قدراتنا التكنولوجية؛ هل لجزّ العشب أو قيادة سيارة لا توفّر في استهلاك الوقود في إحدى مدن شمال غرب الولايات المتحدة انعكاسات أخلاقية على سكان المناطق المنخفضة من بنغلاديش؟ إذا تقبّلت حقيقة التغير المناخي الناتج عن الأنشطة البشرية، فالإجابة عن هذا السؤال هي نعم، ويجب علينا إنشاء مؤسسات عالمية لتعكس هذا الإدراك. هذه قضية أخلاقيات وحوكمة عالمية على نطاق لم نشهده من قبل، وتؤثر فعلياً في كل نشاط اقتصادي في العالم، وتتطلب عقد اتفاقيات عالمية أشد تعقيداً تفرض إجراءات تدخلية أكثر صرامة مما عرفناه على الإطلاق.

يبين مجموع هذه الجوانب الثلاثة من تحدينا الوجودي ضخامة النقاش الثقافي الذي يثيره التغير المناخي؛ فهو يتحدانا للتحقق من المعتقدات ووجهات النظر المتعلقة بالعالم التي لم يسبق أن تحققنا منها، ويمثل نقطة تحول هائلة للصراعات الثقافية والفكرية العميقة التي يقوم عليها العديد من مشكلاتنا البيئية، ويشمل مفاهيم مختلفة عن العلوم والاقتصاد والدين وعلم النفس والإعلام والتنمية والحوكمة. يقول عالم المناخ في جامعة إيست أنجليا (University of East Anglia)، مايك هولم، في كتابه “لماذا نختلف حول تغير المناخ” (Why We Disagree About Climate Change): “يمثل التغير المناخي صراعاتنا الأعمق حول الرؤى المستقبلية البديلة ومراكز السلطة المتنافسة في المجتمع”. وهكذا، يثير موضوع التغير المناخي نقاشاً محتدماً بين المجتمعات الثقافية التي تعتقد أن التغيير يهدد مبادئها من جهة، والمجتمعات التي تعتقد أن البقاء على الوضع الراهن يهدد مبادئها من جهة أخرى.

3 سبل للمضي قدماً

إذا لم يعد النقاش العام حول التغير المناخي يدور حول الغازات الدفيئة والنماذج المناخية، وأصبح يدور حول المبادئ ووجهات النظر للعالم والمعتقدات، فما المنحى الذي سيتخذه هذا الصراع بين المعتقدات؟ أرى 3 نماذج محتملة.

النموذج المتفائل: لا يضطر فيه الناس إلى تغيير مبادئهم على الإطلاق. أي أن أسهل طريقة للقضاء على المشكلات الشائعة لتغير المناخ هي وضع حلول تقنية لا تتطلب إجراء تغييرات جذرية في قيمنا أو رؤيتنا للعالم أو سلوكنا، مثل الطاقة المتجددة الخالية من الكربون وتقنيات التقاط الكربون وعزله والهندسة الجيولوجية وغيرها. يرى البعض هذه الحلول مستقبلاً غير واقعي، بينما يرى آخرون أنها السبيل الوحيد للمضي قدماً، لأن الناس يتعلقون بمستوى الرفاهية الذي يعيشونه ويرون أنه من حقهم الحفاظ عليه ولن يقبلوا القيود أو يدعموا مساعي الحكومة في فرض القيود. لذا يصبح الاستثمار الذي تقوده الحكومة في مصادر الطاقة البديلة مقبولاً أكثر من سن القوانين وفرض الضرائب للحد من استخدام الوقود الأحفوري.

النموذج المتشائم: يتنازع الناس فيه لحماية مبادئهم، وستؤدي هذه النتيجة الخطيرة إلى الانقسام في المنطق، حيث تناقش الأطراف المتنازعة قضايا مختلفة وتبحث فقط عن المعلومات التي تدعم موقفها وتنفي مواقف الآخرين، بل تتمادى أكثر لتشوّه سمعتهم. يصف عالم البيئة من جامعة كولورادو بولدر (University of Colorado, Boulder)، روجر بيلكي، أقصى درجات الانقسام المماثلة في كتابه “الوسيط النزيه: منح معنى للعلم في السياسات والسياسة” (Making Sense of Science in Policy and Politics) بأنها “سياسة الإجهاض، حيث يناقش الطرفان قضايا مختلفة تماماً ولن تستطيع أي كمية من المعلومات العلمية التوفيق بين المبادئ المختلفة”. لنأخذ مثلاً قرار مؤسسة هارتلاند إنستيتيوت بنشر لوحة إعلانية في مدينة شيكاغو تقارن الذين يؤمنون بالتغير المناخي بالمجرم تيد كازينسكي، الملقب “يونابومبر” (Unabomber) (الذي كان يرسل حزماً بريدية مفخخة إلى أشخاص ومؤسسات تعبييراً عن معارضته للتقدم التكنولوجي). ورداً على ذلك، نشرت مجموعات من الناشطين في مجال المناخ لوحات إعلانية تهاجم هارتلاند ومموّليها. استراتيجية الهجوم والهجوم المضاد هذه هي أحد مظاهر الخطاب العام غير المجدي حول التغير المناخي.

النموذج المبني على توافق الآراء: يتضمّن نقاشاً مجتمعياً منطقياً، يركز على كامل مجال الأبعاد التقنية والاجتماعية للمشكلة، وجدوى عدد من الحلول ومدى استحسانها. يمكن للعلماء في هذا النموذج تقديم أقصى ما في وسعهم إذ يؤدون الدور الذي يطلق عليه روجر اسم “الوسيط النزيه”؛ الشخص الذي يمكنه “دمج المعرفة العلمية في اعتبارات أصحاب المصلحة للبحث عن مناهج عمل بديلة يمكن اتباعها”. يمكن التوصل إلى الحل في هذا النموذج من خلال التركيز على عناصره الأساسية والابتعاد عن المواقف (مثلاً، هل يحدث التغير المناخي فعلاً أم لا؟) والتوجه نحو الاهتمامات والقيم الأساسية المؤثّرة. كيف نحقق ذلك؟ يمكننا التوصل إلى أساليب للمضي قدماً من خلال إجراء أبحاث في التفاوض وتسوية النزاعات.

أساليب لإدارة نقاش مبنيّ على التوافق

عند السعي إلى تحقيق توافق اجتماعي حول التغير المناخي، يجب أن يتخطّى النقاش التركيز الصارم على الجوانب التقنية للعلم ليشمل ركائزه الثقافية. سنذكر لكم 8 أساليب لتخطّي عوامل الفرز العقائدية التي تدعم النقاش الاجتماعي حول التغير المناخي.

اعرف جمهورك: يجب صياغة أي رسالة عن التغير المناخي بأسلوب يتناسب مع المعايير الثقافية للجمهور المستهدف. قسّمت دراسة في عام 2011 بعنوان “التغير المناخي في العقلية الأميركية” الشعب الأميركي إلى 6 مجموعات بناءً على آرائهم حول علم التغير المناخي. يُستبعد أن يكون النقاش المبنيّ على التوافق متاحاً لأكثر المجموعات تناقضاً؛ مجموعتا “القلقون” من التغير المناخي و”الرافضون” له، لأنهما تعملان أصلاً بأساليب انقسام المنطق الرافضة للنقاش أو المشاركة. لا يخفى تناقض هاتين المجموعتين على أحد، فإحداهما تقول إن التغير المناخي خدعة وليس للبشر أي تأثير على المناخ، والأخرى تقول إن التغير المناخي كارثة محدقة ستدمر الأرض والنشاط البشري هو سبب جميع التغيرات المناخية.

يكمن التحدي في إبعاد الأقليات الصاخبة المتطرفة عن النقاش وإشراك الأغلبية المتوسطة بينها فيه، وهي تشمل “المهتمين” و”الحذرين” و”المنفصلين” و”المشكّكين” الذين يبدون جميعهم انفتاحاً أكبر على النقاش المبنيّ على التوافق، ويمكن فصلهم عن التطرف الفكري في مجتمعهم الثقافي من خلال المشاركة المباشرة.

اطرح الأسئلة العلمية الصحيحة: لإجراء نقاش مبني على التوافق يجب ألا يطرح علم التغير المناخي بصيغة سؤال إجابته نعم أو لا فقط، بل سلسلة من 6 أسئلة؛ قسم منها علمي بطبيعته مع ما يصاحبه من مستويات عدم اليقين والاحتمالية، والقسم الآخر متعلق بالحكم العلمي.

هل تتزايد تركيزات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي؟ نعم. هذا سؤال علمي مبني على بيانات وقياسات دقيقة لكيمياء الغلاف الجوي وعلومه.

هل تؤدي هذه الزيادة إلى ارتفاع عام في درجة حرارة الأرض؟ نعم. هذا أيضاً سؤال علمي، فالآليات الكيميائية لتأثير الغازات الدفيئة و”القوة الإشعاعية السالبة” ثابتة.

هل تغير المناخ خلال القرن الماضي؟ نعم. أجري قياس دقيق لارتفاع درجات الحرارة العالمية بواسطة عدة تقنيات، ودعمها كثير من التحليلات العلمية بقوة. كتب عالم الاقتصاد في جامعة ييل، ويليام نوردهاوس، في إصدار 12 مارس/آذار من عام 2012 من صحيفة نيويورك تايمز: “استنتاج أن درجات الحرارة العالمية استمرت في الارتفاع على مدى القرن الماضي من أقوى الاستنتاجات في علم المناخ وإحصائياته”.

هل يحمل البشر جزءاً من المسؤولية عن هذا الارتفاع؟ الإجابة عن هذا السؤال هي حكم علمي؛ يرتبط الارتفاع في درجات الحرارة العالمية ارتباطاً وثيقاً بارتفاع الغازات الدفيئة الناتجة عن النشاط البشري منذ الثورة الصناعية. على الرغم من أن العلم لا يستطيع تأكيد العلاقة السببية، فقد دُرست تحليلات البصمات الكربونية للعديد من الأسباب المحتملة، والتفسير الوحيد المعقول هو أن تغيرات درجة الحرارة ناتجة عن النشاط البشري، لذا سيسود هذا التفسير في المجتمع العلمي حتى تُقدّم فرضية بديلة معقولة.

هل سيستمر المناخ في التغير خلال القرن القادم؟ مجدداً، هذا السؤال هو مسألة حكم علمي؛ لكن بأخذ الإجابات عن الأسئلة الأربعة السابقة بالاعتبار، فمن المنطقي الاعتقاد بأن استمرار تزايد الغازات الدفيئة سيؤدي إلى استمرار التغيرات في المناخ.

ما الأثر البيئي والاجتماعي لمثل هذا التغير؟ هذا السؤال العلمي الذي تشوب إجابته أعلى درجة من عدم اليقين، إذ تنطوي على نتائج محتملة واحتمالات مرتبطة متفاوتة من الأثر البسيط إلى الأثر الشديد يمكن التعبير عنها بمنحنى يأخذ شكل الجرس. يرجع عدم اليقين في هذا التفاوت إلى محدودية البيانات الحالية عن نظام مناخ الأرض، وعدم القدرة على نمذجة هذه العمليات الفيزيائية بصورة مثالية، وعدم القدرة على التنبؤ بالأفعال البشرية التي تؤدي إلى تفاقم التحولات المناخية أو تخففها. تصعّب هذه الشكوك التوقعات، وهي المجال الذي يدور معظم النقاش حوله، ومع ذلك أصبحت الآثار المادية للتغير المناخي ملموسة فعلاً بنحو تتفق فيه مع النمذجة العلمية، خاصة في غرينلاند والمنطقة القطبية الشمالية والمنطقة القطبية الجنوبية والجزر المنخفضة.

يتعلق الاعتبار الرئيسي عند طرح هذه الأسئلة بإدراك الناس لدرجة التوافق العلمي المقترن بكل سؤال. في الواقع؛ أظهرت الدراسات أن دعم الناس لسياسات المناخ وإجراءاته مرتبط بانطباعهم عن الاتفاق العلمي، ومع ذلك انخفض الاعتقاد السائد بأن “معظم العلماء يعتقدون أن الاحتباس الحراري يحدث بالفعل” بين الأميركيين من 47% إلى 39% بين عامي 2008 و2011.

تجاوز البيانات والنماذج: الارتياب من قضية المناخ ليس مشكلة نقص في المعرفة؛ لاحظ كل من عالم الاجتماع في جامعة ولاية ميشيغان، آرون مكرايت، وعالم الاجتماع في جامعة أوكلاهوما، رايلي دنلاب، ارتباط زيادة التعليم والفهم الذاتي لعلوم المناخ بتدنّي الاهتمام بين المحافظين والجمهوريين وزيادة الاهتمام بين الليبراليين والديمقراطيين. كما توصلت الأبحاث إلى أنه بمجرّد أن يعتمد الناس موقفاً إزاء علوم قضية المناخ، يزيد تقديم أدلة علمية متواصلة إصرارهم على مقاومة الاستنتاجات التي تتعارض مع معتقداتهم الثقافية. يجب أن يدرك المرء أن الاستنتاج تغمره العاطفة ويستخدمه الناس غالباً للوصول إلى نهاية محددة سلفاً تناسب منظورهم الثقافي للعالم. عندما يسمع الناس عن التغير المناخي، قد يسمعون مثلاً انتقاداً مضمراً بأن أسلوب حياتهم هو سبب المشكلة، أو أنهم يفتقرون إلى الأخلاق لعدم إدراكهم لها، لكن قد تكون العاطفة حليفاً مفيداً إذ يمكن أن تحفّز الالتزامات الدائمة الضرورية لمواصلة العمل على حل قضية التغير المناخي الشائكة. لتحقيق ذلك يجب أن يقتنع الناس بإمكانية حل هذه القضية، وأن التحدي ليس ضخماً جداً وآثاره ليست قدراً لا مفرّ منه. مفتاح إشراك الناس في نقاش قائم على التوافق حول التغير المناخي هو مواجهة الانفعالات العاطفية في هذه القضية، ثم معالجة القيم الفكرية الأعمق التي قد تتعرض للتهديد من أجل توليد هذه الانفعالات.

ركز على الصيغ الوسيطة: يفسّر الناس المعلومات بمواءمتها مع روايات مسبقة أو فئات من القضايا التي تتداخل مع رؤيتهم للعالم. لذا يجب تقديم المعلومات بأسلوب يناسب تلك القوالب باستخدام استعارات وتلميحات وأمثلة مدروسة بدقة تحفز على التفكير بطريقة جديدة في الجدوى الشخصية للتغير المناخي. وكي يكون التواصل فعالاً يجب أن يستخدم المتحدثون في مجال المناخ لغة المجتمع الثقافي الذي يدعونه للمشاركة، فمثلاً لمخاطبة جمهور رجال الأعمال يجب على المرء استخدام مصطلحات الأعمال مثل صافي القيمة الحالية، والعائد على الاستثمار، وزيادة طلب المستهلك، وارتفاع تكاليف المواد الخام.

بصورة أعم، يبحث المرء عن الصيغ الوسيطة المحتملة التي تبتعد عن الدعوة المتشائمة إلى الخوف، وتركز بدلاً منها على الدعوات المتفائلة التي تثير العواطف المرتبطة بالمستقبل المنشود. عندما نتناول قضية التغير المناخي نطرح أسئلة مثل: كيف نود أن نكون، وما العالم الذي نريد أن يرثه أطفالنا؟ لكسب التأييد، علينا أن نبرز البراعة الأميركية وقدرتنا على الابتكار، مع التركيز على الأنشطة التي تنفذها المدن والمواطنون والشركات بالفعل.

يضع هذا النهج الحدّ من التغير المناخي ضمن إطار المكسب لا الخسارة بالنسبة لبعض المجموعات الثقافية؛ أظهرت الأبحاث أن الارتياب من قضية المناخ قد ينتج عن نزعة محفّزة للدفاع عن الوضع الراهن بناءً على افتراض مسبق بأن أي تغيير سيكون مؤلماً، لكن من خلال تشجيع الناس على رؤية التغيير الذي يصب في مصلحة البيئة أمراً وطنياً يتوافق مع حماية الوضع الراهن سيكون من الممكن اعتباره امتداداً للماضي لا خروجاً عنه.

يمكن استخدام صيغ وسيطة محدّدة تعمل على إشراك مصالح طرفي النقاش. على سبيل المثال، عندما أشار وزير الطاقة الأميركي، ستيفن تشو،  في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2010 إلى التقدم في تكنولوجيا الطاقة المتجدّدة في الصين على أنه بمثابة “موقف سبوتنك” للولايات المتحدة (النقطة التي يدرك المرء فيها بأن منافسيه يشكلون تهديداً له وعليه مضاعفة جهوده لمواكبتهم)، وضع التغير المناخي في إطار التهديد المشترك لقدرة الولايات المتحدة التنافسية العلمية والاقتصادية. وعندما ربط البابا بنديكت السادس عشر (Pope Benedict XVI) خطر التغير المناخي بتهديدات للحياة والكرامة في أول يوم من عام في 2010، منح القضية طابعاً أخلاقياً ودينياً. وعندما وصف المجلس الاستشاري العسكري لمركز التحليلات البحرية (سي إن أيه) (CNA) -وهو مجموعة من نخبة الضباط العسكريين الأميركيين المتقاعدين- التغير المناخي بأنه “تهديد مضاعف” في تقريره لعام 2006، وضعه ضمن إطار الأمن القومي. وحين أعلن مجلس لانسيت في مقال أصدره عام 2009 أن التغير المناخي هو أكبر تهديد صحي عالمي في القرن 21، وضعه ضمن إطار جودة الحياة، وعندما ربط مركز التقدم الأميركي (Center for American Progress) -وهو مركز تفكير تقدمي في العاصمة واشنطن- التغير المناخي بمبادئ الحفاظ على الطبيعة التي وضعها الرئيسان ثيودور روزفلت وريتشارد نيكسون، صاغ القضية بما يتماشى مع المبادئ الجمهورية.

الصياغة الوسيطة التي تستحق أن نوليها اهتماماً خاصاً هي الاستعاضة عن عدم اليقين في التغير المناخي أو احتماليته بمخاطره. يدرك الناس الأحداث التي تكون احتمالية حدوثها منخفضة ولكن عواقبها وخيمة، ويفهمون ضرورة معالجتها. على سبيل المثال، يشترك الناس في تأمين منازلهم ضد الحرائق على الرغم من أن احتمالية نشوب حريق منخفضة، لأنهم يدركون أن العواقب المالية في حال تحقق هذه الاحتمالية مكلفة جداً. وبالمثل قد يعتبر البعض التغير المناخي حدثاً خطره ضئيل لكن عاقبة وقوعه وخيمة، وبالتالي يكون النهج الحكيم للعمل هو الحصول على تأمين ضده متمثل في التغيير السلوكي والتكنولوجي.

أدرك قوة اللغة والمصطلحات: تتعدد معاني الكلمات باختلاف المجتمعات، وقد تثير المصطلحات ردود فعل غير مقصودة لدى الجمهور المستهدف. مثلاً، أظهرت إحدى الدراسات أن نسبة الجمهوريين الذين يصدقون أن هذه الظاهرة حقيقية كانت تنخفض إلى 44% عندما يُشار إليها باسم “الاحتباس الحراري”، مقارنة بنسبتهم التي تصل إلى 60% عند استخدام مصطلح “التغير المناخي”. لكن المصطلح لم يؤثّر على رأي الديمقراطيين حيث كانت النسبة متقاربة عند ذكر المصطلحين (87% مقابل 86%). إذاً اللغة مهمة؛ بلغ الانقسام الحزبي نسبة 43% عند استخدام مصطلح “الاحتباس الحراري” وانخفض إلى 26% عند استخدام مصطلح “التغير المناخي”.

من المصطلحات الأخرى ذات المعاني المتعدّدة “منكر التغير المناخي”، الذي يستخدمه البعض للإشارة إلى الأشخاص الذين يرفضون النقاش في هذه القضية، بينما يراه آخرون إهانة شبه مبطّنة ومهينة للغاية. “عدم اليقين” هو مفهوم علمي للتعبير عن التباين أو الانحراف عن قيمة معينة، لكن عامة الناس تفسّره بأن العلماء لا يعرفون الإجابة. أما “التوافق” فهو العملية التي تنتج موقف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ – (آي بي سي سي) (Intergovernmental Panel on Climate Change – IPCC)، لكن المصطلح يجعل بعضاً من عامة الناس يعتقدون أن علم المناخ هو مسألة رأي لا بيانات ونمذجة.

عموماً، يصبح التحدي متعلقاً بصياغة القضايا العلمية المعقّدة بلغة يمكن للجمهور العام والمسيّس بدرجة كبيرة استيعابها، ويزداد صعوبة عندما نتناول بعض الجوانب المعقّدة وغير البديهية بطبيعتها للنمذجة المناخية التي يصعب شرحها، مثل أهمية حلقات الملاحظات والفجوات الزمنية والتراكمات والارتباطات اللاخطية في الأنظمة الديناميكية، وإن لم يتمكن العلماء من توضيح طبيعة نمذجة المناخ بدقة فسوف يغير المشاركون الآخرون في النقاش الاجتماعي ادعاءاتهم لتتماشى مع مفاهيمهم الثقافية أو المعرفية، أو لترضي مصالحهم السياسية.

استعن بوسطاء المناخ: يميل الناس إلى تقبّل النظر في الأدلة أكثر إذا قدّمها عضو معترف به في مجتمعهم الثقافي؛ لا شك في أن  تصريحات نائب الرئيس السابق آل غور والسيناتور جيمس إنهوف ستثير ردوداً عميقة لدى أفراد كلا جانبي الانقسام الحزبي. لكن من يتمتعون بالمصداقية في طرفي النقاش يستطيعون تأدية دور من أدعوهم “وسطاء المناخ”؛ ولأن معظم الجمهوريين لا يؤمنون بعلم التغير المناخي في حين يؤمن به معظم الديمقراطيين، فالوسيط الأكثر فاعلية سيكون من اليمين السياسي. يمكن أن يكون وسطاء المناخ ممثّلين عن عالم الأعمال والمجتمع الديني وقطاع الترفيه والجيش، ومن مقدّمي البرامج الحوارية والسياسيين الذين يمكنهم صياغة التغير المناخي بلغة تضمن انسجام الجمهور المرتبط بهم مباشرة. فمثلاً، إذا سمع الناس عن الحاجة إلى طرح قضية التغير المناخي من المرجع الديني فسيربطون القضية بقيمهم الأخلاقية، وإذا سمعوا عنها من قادة شركاتهم ومدراء استثمارهم، فسيربطونها بمصالحهم الاقتصادية، وإذا سمعوا عنها من قادتهم العسكريين فسيربطونها بأولوية العيش في دولة آمنة ومحصنة.

حدد عدّة مجموعات مرجعية: يمكن تصميم أسلوب عرض المعلومات على نحو يراعي انتماء الأفراد إلى عدة مجموعات مرجعية، إذ قد تتعارض أساليب الصياغة الأساسية المستخدمة في أحد المجتمعات الثقافية مع القيم السائدة ضمن المجتمعات المشاركة في النقاش حول التغير المناخي. فمثلاً، على الرغم من إمكانية أن يرفض بعض أفراد أحد المجتمعات الثقافية علم التغير المناخي بناءً على فكرة أن عملية المراجعة العلمية فاسدة، فقد يقرّوا أيضاً بشرعية العملية العلمية بصفتهم أعضاء في مجتمعات ثقافية أخرى (مثل مستخدمي نظام الرعاية الصحية الحديث). وعلى الرغم من أن أحد أفراد مجتمع ما قد يرى أن تكاليف تخفيض الاعتماد على الوقود الأحفوري باهظة جداً ويُحتمل أن تكون مضرّة بالاقتصاد، من الممكن أن يرى أيضاً أهمية تخفيض الاعتماد على النفط المستورد بصفته عضواً في مجتمع آخر يقدّر الدفاع الوطني المنيع. ظهر هذا التناقض في الأُطر في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة عام 2011، حين حذّر المرشّح جون هانتسمان من أن الجمهوريين يخاطرون بأن يصبحوا “الحزب المناهض للعلم” إذا استمروا في رفض العلم المرتبط بالتغير المناخي، مشيراً إلى أن معظم الأميركيين يثقون فعلاً في العملية العلمية حتى لو لم يفهموها كلياً. (وجد تقرير مؤسسة العلوم الوطنية الذي أُصدر عام 2004 أن ثلثي الشعب الأميركي لا يفهمون العملية العلمية بوضوح).

وظف الأحداث لتحفيز التغيير: وجدت الدراسات أن معظم الأميركيين يعتقدون أن التغير المناخي سيؤثر في الأشخاص والأماكن البعيدة جغرافياً وزمنياً، لكن الدراسات أظهرت أيضاً أن من خاضوا تجارب مع ظواهر مناخية عنيفة يميلون أكثر إلى الإيمان بالعلم. قاد ذلك المتحدّثين في قضية المناخ إلى ربط التغير المناخي بالأحداث الكبرى، مثل إعصار كاترينا، أو الفيضانات التي أصابت الغرب الأوسط الأميركي وآسيا، وحالات الجفاف في تكساس وإفريقيا، والأعاصير على طول الساحل الشرقي وخليج المكسيك، والعواصف الثلجية في الولايات الغربية ونيو إنغلاند. سيؤدي مجموع الأدلة المناخية المتراكمة التي أبلغت عنها وسائل الإعلام والتي ترتبط بالتغير المناخي إلى زيادة عدد المهتمين بهذه القضية وتقليل غموضها في نظرهم وتأكيد ضرورة العمل على الحد من آثارها. على سبيل المثال، فسر الاستقصاء الوطني للرأي العام الأميركي حول التغير المناخي لعام 2012 زيادة نسبة الإيمان بالتغير المناخي بين الأميركيين بما يلي: “يقول نحو نصف الأميركيين إن التغيرات التي يلاحظونها في درجات الحرارة والطقس هي الأسباب الرئيسية التي جعلتهم يعتقدون أن الاحتباس الحراري يحدث بالفعل”.

إنهاء الحروب حول علم المناخ

هل سنرى توافقاً اجتماعياً حول التغير المناخي؟ إذا ترسّخت المعتقدات حول وجود ظاهرة الاحتباس الحراري على المستوى الفكري أكثر، واتسعت الفجوات بين المحافظين والليبراليين، فسينهار مجال التسوية لحل المشكلة، وسيُبنى النقاش على القوة والإكراه. في مثل هذا السيناريو، ستبدو هيمنة القوى العلمية أضعف من هيمنة القوى المشككة، لأن الأولى ملزمة بأن “تثبت” قضيتها، أما الثانية فلا تحتاج إلا إلى إثارة الشكوك. لكن هذه النتيجة المنقسمة ليست محددة سلفاً، وإذا تحققت بالفعل فيمكن عكسها.

هل من سبب يدفعنا للتفاؤل؟ عندما أبحث عن أسباب للتفاؤل حول تحقيق توافق اجتماعي بشأن التغير المناخي، انظر إلى التغيرات في الرأي العام حول تدخين السجائر ومرض السرطان؛ على مدى سنين أدرك المجتمع العلمي أن غالبية البيانات الوبائية والآلية أشارت إلى ارتباط بين التدخين والمرض، ورفض الناس هذا الاستنتاج لسنوات. لكن من خلال الخوض في نقاش سياسي واقتصادي واجتماعي وقانوني حول القيم والمعتقدات نشأ توافق اجتماعي، وأصبح الناس الآن يتقبلون أن السجائر تسبب السرطان، ووضعت الحكومات سياسة لمعالجة هذه المشكلة. ومن المثير للاهتمام أننا تمكنا من هزيمة قوتين مؤثّرتين في النقاش حول السجائر يراهما الكثيرون عقبتين أمام توافق اجتماعي مماثل حول التغير المناخي.

كانت العقبة الأولى مجموعة الضغط القوية من القوى الصناعية القادرة على مقاومة التوافق الاجتماعي والسياسي؛ في حالة النقاش حول السجائر، شنت المصالح الاقتصادية القوية حملة للتعتيم على الأدلة العلمية وعرقلة التوافق الاجتماعي والسياسي، وابتكرت شركات التبغ علماً مؤيداً للتبغ خاصاً بها، لكن في النهاية تغلّب مجتمع الصحة العامة على العلماء المؤيدين للتبغ.

وتمثلت العقبة الثانية أمام إقناع الجمهور المشكّك في الافتقار إلى بيان نهائي من المجتمع العلمي حول الآثار المستقبلية للتغير المناخي؛ أفاد تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ عام 2007 أن “الأنشطة البشرية تؤدي إلى تغيير تركيز مكونات الغلاف الجوي التي تمتص الطاقة المشعة أو تشتتها، ويرجّح بشدة أن معظم ارتفاع درجات الحرارة الملحوظ خلال الخمسين عاماً الماضية كان ناتجاً عن زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة”. يشير البعض إلى كلمة “يرجّح” على أنها دليل على عدم معرفة العلماء كل شيء بصورة مؤكدة وأن عملهم غير مبرر، لكن العلم لا يهدف إلى توفير دليل دامغ. تذكّر أن تقرير “الجرّاح العام” عام 1964 حول مخاطر التدخين كان شرطياً بالقدر نفسه، ولغاية اليوم لا يمكننا التصريح بيقين علمي أن التدخين يسبب سرطان الرئة؛ فجسم الإنسان، على غرار المناخ العالمي، نظام شديد التعقيد لدرجة تمنع بلوغ اليقين المطلق. بوسعنا أن نفسر من الناحية الوبائية تسبب التدخين بالإصابة بالسرطان، ونوضح من الناحية الإحصائية احتمالات إصابة المدخن بالسرطان، لكن تقرير الجراح العام يوضح أنه “ليس بإمكان الوسائل الإحصائية إثبات العلاقة السببية في الارتباط بين تدخين السجائر و سرطان الرئة، الدلالة السببية في الارتباط هي مسألة حكم يتخطّى أي تصريح بوجود احتمال إحصائي”، ومع ذلك، يتقبل الناس الآن هذه العلاقة السببية.

العالِم الأكاديمي والعالِم الاجتماعي

ما الذي سيساعدنا على تحقيق ذلك؟ على الرغم من الحاجة إلى وسطاء المناخ من جميع قطاعات المجتمع، الدينية والعسكرية والسياسة والتجارية، لا بد من زيادة مشاركة قطاع بعينه: العلماء الأكاديميون، والاجتماعيون على وجه الخصوص. تهيمن العلوم الفيزيائية على معظم النقاش فيما يتعلق بتحديد المشكلة، ويهيمن خبراء الاقتصاد عليه فيما يتعلق بتحديد الحلول. يركز كلا المجالين بشدة على العلاجات العقلانية والكمية للقضية، ويعجز عن استخلاص الجوانب السلوكية والثقافية التي تفسر سبب قبول الناس أو رفضهم للأدلة العلمية والتحليلات والاستنتاجات. لكن العلم ليس خاملاً اجتماعياً أو سياسياً على الإطلاق، ويتعين على العلماء إدراك أثره في المجتمع وتحقيق هذا الأثر، ويمكن لعلماء الاجتماع المساعدة في ذلك.

لكن الغياب النسبي للعلوم الاجتماعية في النقاش المناخي بفعل قيود هيكلية ومؤسسية محددة يبعد العمل البحثي عن الأهمية التجريبية. يحصر علماء الاجتماع مشاركتهم في مثل هذه الأنشطة “الخارجية” بسبب القواعد الأساسية لما يُعتبر بحثاً مشروعاً وقيّماً، بالإضافة إلى أن الحوافز العلنية وهيكليات المكافآت داخل القطاع الأكاديمي تبتعد عن مثل هذه المساعي، يعتمد التثبيت والترقية في المقام الأول على نشر مقالات في المجلات الأكاديمية من الدرجة الأولى؛ هذه هي علامة الجدارة والنجاح وأي مجهود يُبذل في أي مسعى آخر لن يحظى بالتشجيع حتماً.

أصبح دور المفكر العام خياراً غامضاً ومحيّراً في العلوم الاجتماعية اليوم، كما أنه صعب، فالقواعد الأكاديمية مبهمة ويمكن أن يكون رد الفعل العام مزعجاً؛ نتلقى أنا والعديد من زملائي دورياً رسائل إلكترونية عدوانية وهجمات على شبكة الإنترنت. لكن نقص العلماء الأكاديميين في النقاش العام يضر المجتمع من خلال استبعاد الأصوات الناقدة لإثراء النقاش المناخي وحسمه، ومع ذلك ثمة علامات على أن نموذج العزلة العلمية آخذ في التغير: بدأ بعض القادة في هذا المجال بالدعوة إلى مزيد من المشاركة في المجالات العامة لتنشيط التخصص وتأكيد أهمية استثماره في الدفاع عن المجتمع المدني. تقع على عاتق جميع العلماء بصفتهم أعضاء في المجتمع مسؤولية وضع خبراتهم في خدمة عملية صنع القرار، وحان الوقت ليحمل علماء الاجتماع هذه المسؤولية.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.