عندما أقوم بتدريس دورات حول نظريات التغيير والتفكير المنظومي في مجال العطاء الخيري، أعرّف الطلاب على إطار عمل "كينيفن" (Cynefin Framework)، وهو جهاز إدراكي أو استكشافي يقسم المشكلات إلى مجموعات: مشكلات بسيطة (واضحة) ومشكلات معقدة ومشكلات مركبة ومشكلات فوضوية (والتي تُدعى أحياناً مشكلات خبيثة) - وهذا التصنيف يتم وفقاً لمحورين: درجة اليقين حول المشكلة ودرجة اتفاق المجتمع حول أسبابها وحلولها. والنقطة المهمة التي يجب النظر فيما هي ما إذا كان مسار الإجراءات الخيرية يتطلب التفكير المنظومي أم لا. فعلى سبيل المثال، قد يكون التأكد من وجود إشارات مرور في المدينة عملاً معقداً، لكن عكس ظاهرة ذوبان القمم الجليدية القطبية، أو إنقاذ موائل النمر الثلجي في جبال الصين، تعد مشكلات مركبة، وهي مشكلات فريدة من نوعها ولم يتم حلها من قبل. ويتطلب حل المشكلات المركبة أو الفوضوية تفكيراً منظومياً ونُهُجاً منظومية - ليس أقلها معالجة الأسباب الجذرية، وتقدير وجهات النظر المتعددة حول أية مشكلة أو حل، وتغيير العقليات النموذجية والمعيارية، واختبار الابتكارات، والتعاون الجذري.
في يناير/كانون الثاني من عام 2020، دخل العالم عقداً جديداً أطلق عليه دعاة حماية البيئة بالفعل "عام الطبيعة الخارق". إن إيقاف التغير المناخي وعكس فقدان التنوع البيولوجي من المشكلات المعقدة التي تتطلب أقصى قدر من الجهد والتعاون على كافة الأصعدة. وفي مواجهة مثل هذه التهديدات الوجودية لكوكبنا، يمكن لقطاع العمل الخيري أن يقوم بما هو أكثر من تمويل التدخلات على مستوى المشاريع والبرامج، بل ويتوجب عليه ذلك. ومثلما قامت حركة المناخ التي يقودها الشباب بِحَثّنا على الاعتراف، يجب على المجتمع الخيري أن يواكب الإلحاح الذي تفرضه اللحظة ويبدأ بالعمل.
ولكن كيف يمكن لقطاع مؤسساته بطيئة عموماً في اتباع نُهُج جديدة أن يتكيف مع إلحاح مشكلة التغير المناخي؟
"التقاطعية هي الواقع"
يُمكنهم البدء بتفكيك الجهات المنعزلة في مختلف أرجاء القطاع. ففي مؤتمر قمة الشعوب حول المناخ والحقوق وبقاء الإنسان - وهي أول قمة عالمية على الإطلاق حول حقوق الإنسان والتغير المناخي - أصبحت عبارة "التقاطعية هي الواقع" (Intersectionality is reality) مفهوماً شائعاً فورياً بين الحاضرين. وقد صاغتها في الأصل كيمبرلي كرينشو منذ أكثر من 30 عاماً، لتحليل كيف كان يتم تهميش النساء ذوات البشرة الداكنة في كثير من الأحيان من قبل كل من الحركات النسوية وحركات الحقوق المدنية، ويشير مصطلح "التقاطعية" إلى الطبيعة المترابطة للتصنيفات مثل العرق والطبقة الاجتماعية والجنس وكيف تخلق هذه التصنيفات أنظمة متداخلة ومترابطة من التمييز أو الحرمان. وتوضح العبارة مدى أهمية فهم الفئات المتداخلة والمترابطة مثل العرق والطبقة والجنس بالنسبة للقطاع الخيري وتضمينها في تدفقات التمويل الخاصة به.
إن التفكير المنظومي والممارسة يتطلبان من الممولين تقدير كيف تؤثر هذه الفئات، وديناميكيات القوة التي تطلقها، على المجتمعات وشركاء البرامج الذين يدعمونهم، وأيضاً دمج هذا الفهم في ممارساتهم. ففي نطاق التمويل من أجل البيئة والتغير المناخي، غالباً ما كان الممولون الأفراد وشركاء البرنامج لديهم - بشكل مفيد - التزاماً ومنظوراً طويلي الأمد. إلا أنهم لم يقدّروا دوماً المفاهيم خلف نظرية التقاطعية، وكيف يمكن للتدخلات والحلول أن تشكل عبئاً على بعض المجتمعات التي تفتقر إلى القدرة على التأثير على هؤلاء الممولين، بدلاً من مساعدتها.
إن مصطلح "العدالة المناخية" هو مصطلح شائع آخر يشير إلى الرابط بين حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وكيفية الحد من آثار التغير المناخي والتكيف معها، لكن العدالة المناخية ستتطلب التعاون من أجل النجاح. وهكذا التزمت مؤخراً منظمة العفو الدولية ومؤسسة غرين بيس (Greenpeace) والعديد من المدافعين في مجالات البيئة وحقوق الإنسان "بالتعاون الجذري"، وحثوا الممولين على الربط بين مختلف القطاعات والفئات المستهدفة ومستويات أهداف المناصرة. وقد قام حوالي 200 شخص من مدافعي البيئة وحقوق الإنسان هؤلاء بتوقيع بيان يشير إلى المخاوف المشتركة والرؤية الواحدة والالتزامات المشتركة في السياسات لتحقيق هذه الرؤية. وتشمل هذه الالتزامات عملية إنشاء انتقال عادل ومُنصِف وشامل للابتعاد عن استخدام الوقود الأحفوري والاتجاه نحو الزراعة المستدامة والطاقة المتجددة.
مع ذلك، لكي تتحقق العدالة المناخية الحقيقية، يجب أن يؤدي التقدم أيضاً إلى تمكين، وليس حرمان، المجتمعات التي غالباً ما تتحمل أعباء استراتيجيات الطاقة الانتقالية. وهذه هي المجتمعات في المناطق والولايات الأميركية التي ما تزال تعتمد على صناعات الوقود الأحفوري، بدءاً من ولايتيّ أوهايو وفيرجينيا الغربية وانتهاء بولاية وايومينغ، بالإضافة إلى المجتمعات الريفية في بلدان مثل الموزمبيق وكينيا، والتي لم يتم الاعتراف بشكل رسمي من قبل حكوماتها بحق هذه المجتمعات في امتلاك الأراضي أو احترام هذا الحق. ويمكن أن تؤدي مشاريع الطاقة الخضراء وتعويض الكربون التي تتصدى للتهديد الوجودي للبشرية جمعاء، على وجه الخصوص، إلى تفاقم المشكلات المحلية التي تواجه هذه المجتمعات. فعلى سبيل المثال، فشلت أكبر مزرعة رياح في العالم بالقرب من بحيرة توركانا في كينيا، في الاعتراف بشعب توركانا والشعوب الأخرى التي تعيش داخل الأرض المرخصة للاستثمار على أنها من السكان الأصليين، وكذلك فشلت عملية الموافقة الحرة المُسبقة والمستنيرة المعتادة التي تساعد في حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات المتأثرة خلال مثل هذه المشاريع. ونتيجة لذلك، أدى المشروع إلى تأجيج التوتر بين المجتمعات التي تتنافس على الوظائف الشحيحة والاستثمارات التجارية، بينما وللمفارقة لا تتلقى المنطقة المحلية الطاقة التي ينتجها المشروع.
لتوسيع اعتماد الطاقة المتجددة بشكل كبير، وتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، ووقف فقدان التنوع البيولوجي، سيكون أفضل نهج للأعمال الخيرية هو تمويل الشبكات المزدهرة التي تتمتع بفهم مدروس ودقيق للتعقيدات والتنازلات. وبعض هذه الشبكات عبارة عن جهات تعاون مُمولة مثل صندوق المرونة للعدالة المناخية (Climate Justice Resilience Fund) ومنحة الخلية لعدالة المناخ والنوع (Hive for Climate and Gender Justice). وغيرها يقودها نشطاء مثل تحالف العدالة المناخية (Climate Justice Alliance)، والشبكة البيئية للشعوب الأصلية (Indigenous Environmental Network)، وشبكة العدالة البيئية في ولاية نورث كارولاينا (North Carolina Environmental Justice Network).
بعد قدر غير مسبوق من التفكير والنقد الذاتي، يحث القطاع على اتخاذ إجراءات أسرع وأعمق لحماية الكوكب مع حماية المجتمعات المحرومة أيضاً. ويقوم فاعلو الخير بتجربة مناهج جديدة لعملهم تساعد في وضع حقوق الإنسان في صميم النشاط المناخي ويطالبون جميع سياسات وتدابير وإجراءات المناخ الحكومية باحترام حقوق الإنسان وحمايتها والوفاء بها. إن مؤشرات التقدم، رغم تواضعها، آخذة في الظهور. فعلى سبيل المثال، تضم غرفة تبادل المعلومات الخاصة بتمويل التغيرات المناخية في مؤسسة إنسايد فيلانثروبي (Inside Philanthropy) الممولين الذين "يبنون العدالة المناخية من خلال منظور متعدد الجوانب". وتضم شبكة ممولي حقوق الإنسان (Human Rights Funders Network) مجموعة عمل معنية بالعدالة البيئية والتغير المناخي وحقوق الإنسان. كما أن التحالف العالمي لمستقبل الغذاء (Global Alliance for the Future of Food) يجمع بين الطبيعة والناس إلى حد كبير كنظام واحد مترابط. ومع ذلك، فإن حركة العدالة المناخية المتنامية في العمل الخيري أمامها شوط طويل لتقطعه من أجل ضمان ترسيخ مفهوم التقاطعية.
يضغط العديد من مسؤولي البرامج التأسيسية وممثلي حركة المناخ على الأرض من أجل ضخ المزيد من تدفقات التمويل الأكثر فاعلية إلى الشبكات المتجذرة محلياً، وتحويل الممارسات والسلوكيات في المراتب الاستراتيجية العليا للأعمال الخيرية، في مستويات الرؤساء التنفيذيين، والأمناء، واللجان الاستثمارية. فهل سيقومون بدعم الحركات طويلة الأمد حيث يكون سؤال من سيشارك في المشروع بذات القدر من الأهمية مثل سؤال أين سيتم إنشاء المشروع؟ هل سيسود مفهوم التقاطعية بين هؤلاء الذي يحكمون قطاع العمل الخيري؟ هل يمكن للسباق على الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة أن يُدرك ركائز الانتقال العادل، مع فهم الفروق الدقيقة التي يتطلبه؟
لحظة تحوّلية
تقدم لنا جائحة كوفيد-19 لحظة فريدة لتحول انتقالي في كيفية ربط الأهداف البيئية والاجتماعية لبناء مستقبل أكثر عدالة ومرونة. فهناك مجموعة متنامية من دعاة حماية البيئة، وبينما يرون فرصة لإحداث تغيير كبير في السلوك بعد هذه الأزمة، فإنهم يحرصون على تضمين المعاملة غير العادلة للعمال إلى جانب أوجه القصور في الاستدامة في تحليلهم للأسباب والحلول. كما ويشير أولئك الذين لطالما انتقدوا المشكلات الاجتماعية وهشاشة العمل في سلاسل التوريد العالمية إلى أن الوقت قد حان لوضع معايير أعلى بشأن التدابير الاجتماعية والبيئية في عالم ما بعد كوفيد. وأيضاً تشير منصة شراكة الطوارئ الكوكبية (Planetary Emergency Partnership) إلى تقارب أزمات عدم المساواة الاجتماعية العالمية، وأزمة المناخ، والفقدان الهائل للتنوع البيولوجي.
كما قال أحد المشاركين في قمة الشعوب المنعقدة في الصيف الماضي: نحن نحتاج إلى "مجتمع عالمي لديه حساسية شديدة تجاه ممارسات الظلم وانتهاك حقوق الإنسان التي نشعر بها في كل مكان، وإقامة روابط أقوى، وابتكار أساليب جديدة للمجابهة".
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.